(23)

5.5K 193 4
                                    

بقلم : نهال عبد الواحد

انطلق صوت صراخ يأتي من غرفة العناية المركزة فأسرع حسام وإياد ومريم نحوها.

بعد خروج مريم من عند ليلى، تركت والدها أحمد معها، نظر نحوها بأسى وشفقة، لا زال شاردًا في أفكاره، لكنها كانت بدأت تسترد وعيها، تحرك جفنيها قليلًا، نادت بهمهمة على ابنتها مريم كأنها قد سمعتها، اقترب أحمد بضع خطواتٍ نحوها ثم قال: ليلى! ليلى! كيف حالك؟ أنا هنا جوارك، لم أصدق كلام أولادنا فيما قالوه عن حالتك ولأين أدت بك غير عندما رأيتك ورأيت ما جرى لك.

كان من الواضح أن ليلى تسمعه وبوضوح، قد كفت عن الهمهمة والتحرك، أغلقت عينيها بقوة، لكن يبدو أن بركانٌ يثور داخلها، على وشك الانفجار واندلاع حممه في وجه من أمامه، ظهر ذلك في حركة صدرها صعودًا وهبوطًا بتثاقل.

أكمل أحمد: أعلم أني قد ظلمتك كثيرًا، فكثيرًا ما آلمتك، لكني جئت لأصلح خطئي سأردك يا ليلى بعد شفاءك، خذي دوائك وانتهي منه، ستعودين بيتك من جديد، سأعقد عليكِ من جديد، ولن أضايقك أبدًا ولن أغضبك.

لكنها فجأة صرخت ليلى : لا!

صرخت بكل ما لديها من قوة، اقترب منها يهدئها لكن صياحها قد زاد، بل بدأت تدفعه، انخلعت المحاليل المغذية وما هو موصّل بيدها فانجرحت على أثرها، لا تزال تدفعه، كأن بها نوعًا من الهيستريا.

هنا فتح حسام الباب، صُدم مما رآه، التفت إليه أحمد مستنكرًا وصاح بغضب: من أنت وكيف تدلف هكذا؟!

أجابه حسام بحدة: بل هذا سؤالي أنا! من أنت ومن أذن لك بالدخول إلى هنا، ماذا فعلت لها؟!

- أنا زوجها وجالسًا معها، من تكون أنت أيها المتطفل؟!

قالها أحمد بسخرية، أردف حسام محاولًا الحفاظ على هدوءه: أنا الطبيب المعالج هنا، وحسب معلوماتي أنك طليقها، أيًا كنت فليس لك أي حق في الدخول إليها دون إذنٍ مني.

اقترب نحوها حسام، تعلقت به، لا تزال تستنجده، دمها ينزف من جروحها، ثم أمسكت رأسها بيديها، ظلت تصرخ بشدة، وفجأة اهتزت بحركاتٍ تشنجية، أمسكها حسام بكلتا يديه، وكادت تفلت منه، نظر إلى إياد طالبًا منه إحضار دواء ما وسمّاه باسمه، ثم أعطاها إياد الحقنة بصعوبة بالغة وبعد قليل هدأت ونامت.

عدّل حسام من وضعيتها لتنام وهو يلهث من جراء الإمساك بها أثناء ثورتها، بدأ يحرك ذراعيه بتباطؤ، دلكهما وهو يلتقط أنفاسه، مسح إياد تلك الدماء، ضمد جروحها بينما حسام لا زال يلتقط أنفاسه بسرعة وصعوبة، فتح أزرار قميصه العلوية وقال دون أن يلتفت لمن حوله: تفضلوا بالخروج فورًا! المريضة تحتاج إلى الراحة، غير مسموح بأي زيارة لأي فرد.

خرجت مريم تبكي بشدة على مرئى ومسمع من إياد الآسف لها، بينما غادر أحمد وهو شديد الغضب، طوال الطريق كانا في صمتٍ تام إلا من صوت شهقات بكاء مريم حتى وصلا إلى البيت، همّت مريم بالنزول، جذبها أحمد نحوه و بشدة وقال: من يكون ذلك المتعجرف من باع واشتري فينا كأننا عبيدًا لديه؟!

مسحت مريم دموعها، قالت بصوتٍ مختنق: هو عمي حسام الطبيب المسؤول عن علاجها.

أحمد رافعًا حاجبيه بدهشة: عمك! لم أرى أن حالتها قد تحسنت بعد طول مدة مكوثها في المشفى.

-يا أبي! إن حالة أمي متأخرة للغاية، وتعامل الآخرين معها يجب أن يخضع إلى تعليمات محددة.

-لا تعليمات ولا غيره، سأنقلها من تلك المشفى لأخرى أفضل من قلة الحياء وتلك المهزلة التي تتم هناك باسم العلاج والطبيب المعالج.

قالها بثورة يشوبها السخرية، بدأت مريم في البكاء مجددًا قائلة: أتقول مثل ذلك الكلام مجددًا يا أبي؟! دعها وشأنها يكفيها ما تعانيه، ثم هي في نظر الأطباء حالة ميتة فلن تقبلها أي مشفى.

- آه! إذن هو شخص مستغل وباسم الحالة المتأخرة يسحب منها أموالًا طائلة.

أومأت مريم بنفي قائلة: إن عمي حسام لا يأخذ أموالًا من الحالات المتأخرة سوى بعد حدوث مؤشرات للشفاء فيما عدا ذلك لا يأخذ أي شيء.

جز أحمد على أسنانه غيظًا متسائلًا: ما قصة كلمة عمي التي تكرريها في حديثك؟!

شردت مريم قليلًا بعد هذا السؤال، وصل تفكيرها لشيءٍ ما ثم أومأت قائلة: لأنه أخٌ لخالتي منى، رجاءً أبي هل تسمح لي بالانصراف فأنا متعبةٌ للغاية؟!

تركته، صعدت إلى الشقة عند جدتها بينما هو ظل جالسًا في السيارة يشتعل غضبًا، ثم إتجه صاعدًا إلى شقة والديها، شقة عمه الراحل التي كانت تقطن فيها ليلى قبل دخولها إلى المشفى مباشرةً، صعد ودخل، كان يبحث بعينيه عن شيءٍ ما حتى وقعت عيناه على ذلك الظرف الكبير الذي يحتوي الفحوص والأشعة الخاصة بليلى فأخذه وإنصرف.

لقد تفاجأ بردة فعلها المبالغ فيها تجاهه بعكس طبيعة شخصيتها الهادئة الصبورة، لكن بالإضافة لحالتها الصحية ونتائج العلاج الكيميائي التي قطعًا قد غيّرت في تصرفاتها وسلوكياتها.

لكن مع تكرار الإساءة من شخص ما مقرّب لدرجة ما، تتحوّل العلاقة لنوع من العلاقة المرهقة المستنفذة للطاقة والتفكير، التي تدخل باستمرار داخل دوائر من الصراعات.

فمع كثرة الإساءة، كثرة الجرح، كثرة الانتقاد، عدم التقدير خاصةً مع الأشخاص حادة الطباع، فشل رد الإساءة بالإحسان، فشل التسامح، فشل أخذ الحق، يصبح الهجر والبعد عن تلك العلاقة المرهقة هو الحل الوحيد، فقد صار هناك صعوبة في التعامل وزاد الضرر فوق طاقة التحمل.

ومع ليلى قد استنفذت طاقتها، تحملها، إحسانها، تسامحها وفشلت في أخذ حقها، لم يعد أمامها سوى الهجر والترك النهائي بلا رجعة ومهما حدث فقد فاض الكيل بها.

أخذ أحمد تلك الأشعات والفحوص التي كانت في بيتها، ذهب بها يعرضها على عدد من الأطباء المتخصصين ليفتوه في أمرها فقد شك في حسام واقترابه من ليلى.

كان بمجرد أن يقرأ أحدهم اسم الدكتور حسام، فيسمع بعدها قصيدة في مهارته، مدحه، أخلاقه، وأنه قد أحسن الاختيار، وعقب قراءة تلك الفحوص بذلك التاريخ القديم أقرّوا جميعهم أنها حالة ميئوسٌ منها، بمنظور الأطباء يُفترض أن تكون قد تُوفيت من زمن، فلم يكن أمامه إلا تركها كما هي.

NoonaAbdElWahed

(قبل نهاية الطريق)   By : Noonazad حيث تعيش القصص. اكتشف الآن