إياب و غياب

97 29 26
                                    

بضعة أشهر فقط، جعلتنا نؤمن بأنه يمكننا إحداث التغيير، بأن كل فرد منا بإرادته القوية و عزيمته الصلبة قادر على تغيير حاضره، و عالمه،
لقد كانت تجربة مفيدة و مبهرة، بالرغم من الفقد الجلل و الشهداء الذين سقت دماؤهم الطاهرة بذور الثورة لتنمو و تغدو أشجارا باسقة لا تحيد.
أحمد الله على استقرار الحال، و أتطلع لسودان جديد، أنا أتفائل... لا زلت مؤمنا بأنه مهما بدت الأمور سيئة، فستتحسن بإذن الله.

حقيقة، لا أحسب نفسي من الفئة التي تنحاز للسياسة أو تتابع أخبارها بشغف، و لا أجدني متعصبا لأي حدث، ما حدث أكثر من أن يقال، و لا فائدة من التكرار.
استوقفني فقط أمر ما، خلال الوقت الطويل الذي تم قطع خدمات الانترنت فيه، صار التواصل شبه معدوم، و انحصرت وسائل التواصل كما العهد القديم بالرسائل النصية و الاتصالات الهاتفية أو اللقاءات المباشرة، و الآن، هناك الكثيرون ممن يعاتبون؛ بحكم أن أصدقائهم الحقيقيون هم من واصلوهم فقط، و البقية معبودوا الانترنت مجرد صور في الركن،
و لذلك بدأت أشعر حقا بأنني صورة في الركن.

لأكون صريحا، لا أحسب نفسي من النوع الاجتماعي غالبا -بطبيعة الحال - أجدني انطوائيا في أوقات كثيرة عدا عمن أعرفهم معرفة جيدة، أفضل الرسائل أكثر من المكالمات الصوتية، و للأسف أغلب البشر الذين أعرفهم يفضلون المكالمات الهاتفية، تحت مقولة -أنا أغلى من مجرد رسالة نصية-
الأمر الذي يورث بعض الألم، أنه مهما طالت قائمة أصدقائك في الهاتف، يبقى عليك أنت أن تتصل و تتواصل مع كل فرد منهم، و لو لم تفعل لوصفت بالجاحد، أو المصلحجي، بينما لا يعذرك أحدهم أو يقدر أن هاتفك معطل أو أنك لا تمتلك المال الكافي للمكالمة، الجميع ينتظرون، براهين من أصدقائهم المؤقتين لتثبيتهم في قائمة الأصدقاء الدائمين أو رميهم في سلة النسيان.

أحيانا، أجد نفسي متشائما جدا و سوداويا، و يستمر جزء عميق في نفسي بإخباري بأنني دائما ما ألتقي بالأشخاص الخطأ؛ الذين لا يراعون، الذين لا يهتمون، الذين ينسون، و أشعر بعبراتي تخنقني حين أرسل لعدة أصدقاء رسائل معايدات في العيد و لا يردون عليها أبدا، و حين أتصل بأحدهم بطيب خاطر لأطمئن عليه، أجد أنه يحادث كل أصقاع العالم و يعلم كل أخبارهم عداي، و يخبرني متعللا بأني كنت في باله ليلة اﻷمس، لكنه لم يتصل بي اليوم و ألهمني الإله لأعرف تفكيره بي و أهاتفه اليوم.
أحيانا أعتقد، بأنني لا أمتلك أصدقاء حقيقيين عدا واحدا أو اثنين، و أن كل قائمتي التي اعتقدتها للأصدقاء هي لزملاء دراسة فقط، أعلم أنني لست ذلك الصديق المثالي، لكنني حقا كنت أتمنى ذلك و أعمل على ذلك، لكنني في كل مرة أقترب أجد أحدهم يدفعني للخلف بعيدا.

أعتقد أن الرائع في الأمر و أكثر ما أجده إيجابيا، أنه بمرور السنين و الأيام فيما يسمى بالنضوج و الرشد، يتبلد جزء من المشاعر الحساسة الخاصة بالألم و ينمو جزء خاص من التجاوز و النسيان، صرت أجدني أحزن قليلا، ثم لا أهتم بالأمر؛ في قائمتي صديقان عزيزان، يواصلانني مهما انقطعت عنهما، و لا يستمران بالملامة للهجران و حين أحادثهم أشعر بالامتنان، و ذلك أمر يجب علي أن أكون شاكرا عليه.

رغم كل شيء، و لو كان معظم أصدقائي غير جيدين، سأحاول أن أكون صديقا جيدا، من قطعني سأصله، و من وصلني سأصله؛ لأن الأمر لا يتعلق بالكرامة أو المجاملة قط بل بمعدن الشخص و أصله، و الملامة و انتظار الآخرين للمبادرة لا تجني شيئا غير الحسرة و الوحدة و الخواء.
لذلك مهما حصدنا من الشوك، فالنظل زارعين للورد.

ابكِني نهراً حيث تعيش القصص. اكتشف الآن