15

1.9K 48 2
                                    


لا أشتكي عليكَ للخلاّق
تمنعني يا سيدي أخلاقي

لكنني أدعوهُ أن يجعلني
أقوى على احتمال ما أُلاقي

حتى يظلّ لي أذاك راسماً
لي صورة الجبّارِ والعملاقِ!!!


=============






دخلت إلى مكتبه قبله و صوت الباب يُصفق خلفها بعنف..


صرّت عينيها و أذنيها بقوة...


و أخذت تدعو في سرها و تنذر عشرات النذور كي تسير الأمور على خير!!


جلس على مقعده الوثير وأصابعه تدقُّ على سطح الطاولة...


كانت الدقات تزحف إلى رأسها ببطء وقوة كدقات المطرقة على المسمار...


واستمرّ الدق هكذا وبدا سيد المكان تلك اللحظة...


فتحت إحدى عينيها المزمومتين بتوجس لتستشفّ معالم وجهه، لكنها لم ترى شيئاً!!!


لم ترى غضبه، غطرسته، أوداجه التي تنتفخ كلما رآها!!!


فقط كان يطالعها بإزدراء!!


فتحت كلتا عينيها وهي ترمشهما بسرعة وقد بهتت من نظرته تلك...


و رأته يسحب ورقة من على المنضدة و يكتب فيها بسرعة...


و هوى قلبها....


أرادت أن تتقدم لعلها تسترق شيئاً مما يخطه بيده، لكن رجلاها تجمدتا من الخوف...


تحركت شفتيها بإضطراب و أخيراً سألتهُ بصوتٍ غائب:


- ماذا..ماذا تكتب؟!


- ..................


- تكتبُ شيئاً عني، صح؟!!


- ..............


- صدقني، أنا لم أقصد أن أقول شيئاً مما سلف، أصلاً أنا لم أقل شيئاً!!!


- ...............


- هي من تحرضني، هي من تدفعني لقولِ ذلك، إنها تستخدم جهازاً ما بالتنويم المغناطيسي، لا أعرف اسمه، يجعل شفتاي تتحركان بما لا أعلم، إنها "ساحرة"!!!



ورفع رأسه حينها لها فأسبلت عينيها وهي تتظاهر بالإستكانة و الضعف...


لكنها سرعان ما سمعت جرة القلم تعود من جديد...



"لا فائدة من هذا الظالم، لا فائدة منه!!!"



عادت لتقول بإستعطاف:



- أرجوك، لا تضيع مستقبلي، أريد أن أتخرج هذا العام...


- ...........................


- أعدك أنني سأحسن سلوكي، سأتوقف عن الكذب، عن التمثيل، سأصادق "جميلة" أيضاً إذا شئت!!


- ..........................


- لا تكتب عني شيئاً، أنا لا ذنب لي، أنا خلقني الله هكذا، لكنني سأتغير، سأتغير بصدق...


- ........................



- إذا علم والدي سيمرض، سيتقطع شمل عائلتنا، هم بحاجة لي، كلهم يعتمدون علي، أيرضيك أن نشحذ؟!!



و انطلق صوت بكاءها ليرتفع وهو لا يتوقف عن الكتابة!!!



أخذت تطالعه بحرقة وعيناها تكادان تقفزان من محجريهما من بروده...


- أليس لديك إحساس؟!


- ....................


- لقد أذليتُ نفسي لك أكثر من اللازم!!


- ...................


- حتى البكاء بكيت، ماذا تريدُ أكثر من هذا؟!


- ....................


- قلتُ لك توقف، توقف عن الكتابة!! صاحت بتهديد.


- اصمتــــــــــــــــــــي....



وصرخ بغضب وهو يلقى القلم الذي بيده في الهواء...


تابعته بفزع وهو يتدحرج على الأرض ويصل لأصابع قدمها....


نقلت بصرها بين القلم وصاحبه وهي تقول بخوف:



- أستاذ أنا....


- قلتُ لكِ أغلقي فمك، عندما أتكلم لا أريد أن يقاطعني أحد، صوتك هذا لا أريد أن أسمعه، مفهوم؟!!



هزت رأسها بذل...


- أنا للآن لا أعرف أنتِ ماذا بالضبط!! أنا لم أصادف في حياتي العملية و التي ناهزت الاثنا عشر عاماً موظفة مثلك!!



- بالطبع مثلي أنا لا يوجد، أتصدق!! الكثيرات يقلدنني ولكن أين الثرى من الثريا!! وأشارت لنفسها بحماس وقد نسيت نفسها.



تحركت عضلة صغيرة أسفل فمه وبدا كما لو كان يصارع شيئاً يودُّ قوله..



- أعوذُ بالله بالشيطان الرجيم..


- أنا شيطان؟!! سألته بإستنكار.


- اخرجي، اخرجي فوراً من هنا. صرخ بنفاذ صبر.


- لم تصرخ علي دائماً، ماذا فعلتُ لك؟!!


- ألا تفهمين ما يقال لكِ من الوهلة الأولى؟! أأنتِ صماء؟!


- حسناً سأخرج، لكن ماذا عن هذه الورقة ؟! كتفت ذراعيها.


- تريدين أن تعرفي ما بها؟!! سأل بتشفٍ.



عادت لتهز رأسها بسرعة..



مدّ الورقة إليها فأخذت تقرأها بنهم وعيناها لا تتوقفان عن الرمش، وبعد برهة امتقع وجهها وهي تطالعه...



صاحت بصوتٍ عال:

- ماذا؟!


- هذا أقل شئ تستحقينه!!


ردت بحقد:


- أستحقه؟! كل هذا لأني قلتُ عنك كلمتين!!



- تعترفين بذلك أيضاً يا قليلة الأدب..




- أنا قليلة الأدب يا حيوان!!!!



ووضعت يدها على فمها وهي تشهق بصوتٍ مكتوم....


تمنت أن تموت، أن تنشق الأرض وتبتلعها، أن يصاب المدير بالصمم لحظتها!!


ربما لم يسمع، لم يسمع!! أخذت تكرر في نفسها..


و تراجعت إلى الوراء وهي ترى وجهه يُظلم، يكفهر...


أخذت تتأتأ بإرتجاف:


- لا..لا تفهمني بشكلٍ خاطئ، هذه نظرية علمونا إياها في المدرسة.


- ......................


- أنت حيوان وأنا "ندى" و الناس حيوانات، ألم يقل "داروين" الإنسان حيوان ناطق!!!!


- ......................


- إذا كنت لا تصدقني سأحضر لك كتاب "الفلسفة" غداً.


- إذن اسمعي يا "حيوانة" منذُ الغد، لا بل منذُ اليوم سيطبق القرار، عملك هنا ينتهي الساعة التاسعة مساءاً ، وما أن تبدأ الفترة الثانية حتى تأتي إلى مكتبي كل يوم لأعلمك وأدربك فلدي أكوام من الملفات لا بد أن أنهيها، وأنتِ من فصيلة الحيوانات وتحتاجين للتدريب كي تفهمي!!!


- ....................


- تريدين أن أكرر عليكِ الكلام أم يكفيكِ هذا؟!


- ....................



- أريد أن أسمع جواباً، يكفي أم لا؟! صرخ بغضب..



و ألقت الورقة بسرعة من يدها وفرت من أمامه وهي تبكي بمرارة...


و تلقفتها "أشجان" في الخارج وهي تربت على ظهرها بحنو...


- هدئي من نفسك، هو دائماً هكذا. قالت بصوتٍ منخفض.


نزعت نفسها منها وهي تصرخ:


- هو حقير، ذاك هو..


- "ندى"!!


وأشارت إلى "جميلة" بحركة خفيفة لكنها لم تبال واستمرت في صياحها:


- تخيلي ماذا يريد أن يفعل بي؟!!


- ماذا؟! سألت "جميلة" ببراءة.



فما كان منها إلا أن أزاحت "أشجان" عن طريقها وهي تقترب والشرار يتطاير من عينيها...



وضعت "ندى" أصبعها على فمها وهي تردد بتهديد:



- أصمتي، أنتِ السبب، أنتِ السبب في كل شئ..


تراجعت "جميلة" إلى الوراء بخوف وهي تنظر "لأشجان" بإستنجاد.



- "ندى" كوني عاقلة.



استدارت إليها وهي تعود للبكاء:


- عاقلة!! سيحبسني لديه كل يوم حتى المساء، كل يوم، كيف سأتحمله!!


- تحلي بالصبر، لم يبقى الشئ الكثير على فترة تدريبك. أخذت تواسيها.


صاحت بوعيد:


- لكنني سأجعله يندم، يندم على اللحظة التي وضع فيها هذا القرار، والأيام بيننا...



واتجهت لمكتبها والفتاتان تراقبانها بوجل وما أن استقرت عليه حتى طالعتهما بجمود وهي تعضُّ على شفتيها بقوة...


وتلكأ لسانها كثيراً قبل أن ينطق:


- أأنا من فصيلة الحيوانات؟!!


وعادت لتنفجر في البكاء من جديد...


==========



تطلعت إلى نفسها في المرآة بقلق وهي تعيد تصفيف شعرها ربما للمرة العاشرة لهذا اليوم!!!



إنها تكره أعمال الزينة، تمقتها، تشعر بأنها تقيدها، تجعلها مصطنعة، كدميةٍ مشدودة!!!



و مرت صورة "الشقراء" أمام عينيها فعاد الغضب الأعمى ليمزقها من جديد، ليفقدها صوابها ويأجج النار التي لا تلبث أن تتقد في صدرها كل حين...



وألقت فرشاة شعرها بيأس...


إنها لا تستطيع أن تكون مثلها، ليس في هذه الفترة على الأقل!!!


ولمَ تحاول ذلك أصلاً؟!!


لم يا "غدير"، ماذا جرى لكِ، بتّ تكشفين أوراقكِ له وهو يستمتع بذلك...


يفتعل معكِ المشكلات ليذكركِ بها وبتلك التي ينوي الزواج بها، ثم يترككِ تحترقين وهو يبتسم!!!



ماذا جرى لكِ أيتها الغبية، إلى أي مدى ستجركِ حماقتك، أوراقك لا بد أن تدفنيها كما تدفنين دفترك وتهيلين عليها التراب وتصمتي، تصمتي للأبد!!!


غرزت أصابعها كأنها تودُّ أن تُفيق نفسها من هذا الكابوس المريع، الكابوس الذي يقضُّ مضجعها ويحيل لياليها سواداً حالكاً لا نجوم فيه...


جلست على حافة السرير مطرقةً رأسها....


الأفكارُ تعصفُ بها كدوامة، كدائرة مفرغة لا قرار لها، ها هي تسمع صوت باب حجرته...


سيخرج، سيخرج منذُ الصباح، دائماً يخرج ولن يعود إلا متأخراً...


وتريدونها بعد ذلك أن تصمت!!!



ألقت نفسها على السرير وجسدها يهتز بصمت...


ماذا جرى لكِ يا غدير، ماذا جرى؟!!!



==========



سكبت لها عصير البرتقال وهي تنظر للخارج من نافذة المطبخ مستمتعةً بإرتشافه على جرعات...


حين يتحد الصباح مع الهدوء ينفرزُ في ذاتك شيئاً ما، شيئاً لا تعرف كنهه، لا تستطيع وصفه...


شئ جميل وشفاف، شئ يشبه الصفاء، يشبه النقاء، يلامس سريرتك، يهزُّ أوتارها فينبعث منها هدوء، راحة، سكينة عجيبة....


ما أجمل الصباح، وما أروع زقزقة العصافير حين تدغدع مسمعك!!!


وبقيت هكذا مأسورةً بجمال المنظر، بروعة الشمس والشجر والعصافير!!



وبقي هو واقفاً عند الباب يتأملها بغموض...


وكأنها أحست بإحساس الأنثى بتلك النظرات، فاستدارت للخلف....


- صباح الخير.


وصمتت فترة قبل أن تتمتم بصوتٍ منخفض و حاجباها معقودان:

- صباح النور.


ووضعت كأسها الذي لم تتمتع بإحتساءه بأكمله بجانب الحنفية، ومرت بجانبه لكنه لم يتزحزح عن الباب.


- لو سمحت!! قالت بإستنكار.


تنحى قليلاً وهو يعلق:


- يبدو أنكِ نسيتِ موضوعنا!!


- أي موضوع؟! سألته بشزر.


- موضوع الفحص!! لقد وصلت أدواتي المختبرية منذُ أسابيع...


- أنا و زوجي "ناصر" لا نفكر حالياً بالأطفال. ردت بحزم.


تطلع إليها بتثاقل وهي تبادله نظرة كراهية لم تفته..


- كما تشاءان، وإذا غيرتما رأيكما فأنا موجود..


مرّت من فرجة الباب دون أن تجيب عليه...


صعدت السلم وأحساسها بالقرف منه يتصاعد...



يا لهُ من رجل يُثير الغثيان!!!



===========




قفزت مذعورة من صوت صراخه....


أغلقت باب غرفتها خلفها وهي تتلفت بحيرة ماذا تفعل وأين تختبئ، فلا تدري أي شيطانٍ ركبهُ اليوم؟!!!



لم تجد إلا الفراش ملاذاً، اختبأت فيه وهي تغطي نفسها، حتى إذا جاء ظنها نائمة وانتهى اليوم على خير!!!!



كم هو جميل أن نحلم، وكم هي صعبة أن تتحقق الأحلام....



دفع باب غرفتها وهو يصرخ:



- غدييييييييييييييييير...



تقدم منها وهو يهزها:



- أنتِ، ألا تسمعين قومي، كيف تنامين في الظهيرة؟



أبعدت الغطاء عن وجهها وهي تسأله بتقطع:


- أ..أ..ماذا، ماذا حدث؟


- أين قميصي الأخضر؟



رفعت كتفيها بخوف بأن لا تدري.


حدجها بغضب وهو يزمجر:


- اذهبي وابحثي عنه فوراً.


- حـ..حسناً.


- هيا قومي، ماذا تنتظرين؟


وفزّت من جلستها ودمدمته تصل لأذنيها:



- لا أدري لم تزوجت؟! ويقولون الزواج راحة!!!



اتجهت للغسالة، فتشت بسرعة وهو خلفها لا يزال يدمدم.


- ليس هنا..


- اذن أين ذهب، كيف اختفى هكذا فجأة؟!


- ألبس لك شيئاً آخر.


- لا أريد إلا هو.


- لا تصرخ علي، لستُ أنا من ضيعه.


- صه، أصرخ كما أشاء في بيتي، أم لديكِ اعتراض يااا آنسة؟!



وشرد ذهنها قليلاً...


لم يريده هو بالذات!!!!



- يبدو أننا لن ننتهي من أحلام اليقظة اليوم، هيا...



دفعها أمامه حتى غرفته، و بقي هو واقفاً عند الباب وهي تبحث في خزانة ملابسه:



- ملابسي مكوية، إذا تجعدت أو لم تعيديها لمكانها ستضطرين إلى كيها من جديد.



نظرت إليه والغيظ يكاد يفتتها، ودت لو تقطعه هو وملابسه!!!



أي أسلوبٍ بات يتبعه معها هذه الأيام!!


كيف انتقلت الدفة إلى يده؟!!



كله بسببها، تلك الشقراء الفارغة..


- لم أجده، ليس هنا..


- ابحثي جيداً...


وجالت ببصرها حول الغرفة وتوقفت عند طاولة الزينة...


رفعت إليه القميص والدهشة تعلوها:


- كان هنا أمامك ولم تره؟!!



- لو كنتُ رأيته لما ناديتك، أعطنيه.


لقد سلبت عقلك، أصبحت لا ترى الآن!!!


لا تراني ولا ترى ما يدور حولك...


تطلعت إليه بألم وهي تسأله بمرارة:


- أين ستذهب ؟!


- وما شأنكِ أنتِ!!


- أريد أن أذهب معك، أنا لا أخرج أبداً من هنا..


- كل ليلة أوصلك إلى بيت خالك..


- و أين تذهب حينها؟!


- ومنذُ متى تسألين!!


- منذُ اليوم سأسأل..


- أذهب للمكان الذي يحلو لي، ولعلمك أنا لا أحب التدخل في خصوصياتي..



- هذه ليست خصوصياتك وحدك، أنت تريدني أن أبقى جاهلة عمياء لا أعرف شيئاً عما يدور من ورائي!!!


- وما الذي تعتقدينه يدور وراءكِ يا آنسة؟! سألها بسخرية.


- لا تنادني هكذا. صاحت بغضب.


- اسمعي أنا متعبٌ الآن من العمل، ولا طاقة لي للشجار.


- إذن ابقى في البيت.


- لقد وعدتُ أصحابي بالقدوم.


- أصحابك؟!



أخذت تكررها و هي تضحك بجفاف:


- لا تقل لي!! كل هذا الصياح والبحث المتحمس عن القميص، كل هذا من أجل عيون أصحابك!!


- أفهميها كما تشائين، وسواء صدقتِ أم لا فأنا رجل أهتم بمظهري الخارجي في كل الأحوال!!


- أنت كاذب منافق، غشاش. صاحت بإنفعال.


- غدير!! صرخ بتهديد.


- لا تنطق اسمي على لسانك، أنا أكرهك، أكرهك.


- اخرجي الآن قبل أن يحدث شئ لا تُحمد عقباه!! رد بصوتٍ غاضب.


كان صدرها يعلو ويهبط بإختناق، والثورة تدبّ في أعماقها كإعصار يريد أن يجرف كل من يقف أمامه بجنون...



- أخرجي، أريد أن أغير ملابسي..


الأفكار تطحنها والوسواس الخناس لا يلبث أن يتراقص أمام عينيها، لا يلبث أن يهمس أذنيها بكلمات، باتت هاجسها الأخير...



تطلعت فجأة إلى الكأس الموضوع على المنضدة ودون شعور تناولته:


- ارتده الآن، سيبدو لائقاً!!!


وانسكب الماء على القميص وعلى جزءٍ من ثيابه...



تطلع مصدوماً إلى نفسه ولها لثانية، وبلا شعور مدّ يدهُ هو الآخر!!!




ورنّ في الغرفة صوت صفعة قوية استقرت على الخد مباشرة دون سابق إنذار..



رفعت أناملها المرتجفة إلى خدها لتتحسسه، لتتحسس السياط الذي كوى جلدها...



رفع يده إلى شعره بتوتر كما لو كان في حالة اعتذار...



ترقرقت الدموع من عينيها وهي تنظر إليه وتهزّ رأسها دون تصديق...



صفعها من أجل قميص؟!!



كلا، ليس من أجل قميص، بل لأجلها، لأجلها هي أياً كانت...




و هرعت إلى غرفتها وهي توصدها خلفها بالمزلاج...



وانزلقت أسفل الباب، على الأرض وأجهشت بالبكاء...



=============




دقت الباب عدة مرات ورغم أنها سمعت كلمة "أدخل" إلا أنها كررت الطرق وبصوتٍ أعلى!!!



وانفتح الباب على مصراعيه فحدجت الواقف أمامها بحقد ودخلت مباشرة وفي يدها ملف أبيض اللون..


و سمعت الباب يُغلق بعد لحظة فعاد الألم بقوة إلى معدتها...



- اجلسي. ردّ ببرود.


لكنها بقيت واقفة كالتمثال دون أن تنبس ببنت شفه!!



عاد إلى مقعده وهو يعبث بأدراجه دون أن يحول عينيه عنها..


- ستبقين واقفة هكذا إلى متى؟! ردّ بنفاذ صبر.



لا جواب!!!!


وانتفخت أوداجه وهو ينظر إليها بغضب وهي تكتفي بالرمش فقط!!!


وضع يديه بتصميم على سطح المكتب واستطالت قامته في وضع الوقوف...



اهتزَّ الملف الذي بيدها ونظرت إليه من طرف عينيها وما هي إلا ثانية حتى هرعت إلى الكرسي لتجلس عليه!!



عاد إلى مقعده وهو يتنهد...



وقال بعد قليل:



- سنبدأ في جرد حسابات "المخازن الكبرى" أولاً، أنتِ ستقومين بـــ.....



و توقف عن الكلام وهو يراقبها...



كانت تضع قدماً على أخرى وتتصفح الملف الذي بيدها بتمعن، وفي كل حين ترفعه حتى يلاصق وجهها وهي تحرك رأسها!!!


- هل أنتِ مختلة عقلياً؟! سألها بإرتياب.


- .........................


- ماذا في يدك؟!


- ..................


- لم لا تتكلمين؟! أأصيب لسانك بالشلل!!!


- ................


وضرب بقبضته على الطاولة:


- أعطنيه، لعنةُ الله على الشيطان!!



وتطلعت إليه ببلاهة وهي تشير إلى الملف بإصبعها..

- أجل، أريدهُ هو، جيد أنكِ تفهمين!!



ولمعت عيناها ببريقٍ ما سرعان ما أطفأته...


رفعت الملف عن حجرها وهي تمسكهُ لأعلى....


حركت يدها ناحيته لكنها سرعان ما أنحرفت بسرعة وأفلتته على الأرض!!!


فتحت فمها بدهشة وهي تهزُّ كتفيها كأن لا دخل لها، وهو جامدٌ في مكانه، مصعوق!!!



أمالت بجذعها وألتقطته ومدت يدها لتمسح جبينها وهي تلهث من التعب!!!



ثم زفرت وعادت لتشير إلى الملف بإصبعها....


ولم يُجب....


فعادت لترفعه إلى أعلى، إلى أقصى ما تستطيع وهي تنظر للملف بتفحص، ولوت فمها كأن شيئاً لم يعجبها فيه فأسقطته!!!


التفتت إليه وفمها مفتوح، عيناه تكادان تخرجان من محجريهما من منظرها...


عادت لتنثني من جديد وتلتقطه و تمدهُ ناحيته!!!


أطرق رأسه قليلاً وكأنهُ في حالة تفكير عميق...


ثم وقف فجأة فقفت هي الأخرى وهي تمدُّ الملف بأطراف أناملها، لكنهُ لم يأخذه بل دار نصف دورة حتى أصبح بمواجهتها...


وقبل أن تستوعب سحب الملف من يدها ولفه بأصابعه وهوى به على كتفها ...



صاحت وهي تتراجع إلى الوراء وتمسك كتفها:


- أ تضربني أيضاً؟!!


- لأن الحيوانات هكذا، لا تفهم ولا تتكلم إلا بالضرب!!


- والله سأخبرُ والدي عنك والشرطة..


- تخبرينهم بماذا؟!


- أنك مددت يدك علي.. صرخت وهي تدقُ الأرض بقدمها.


- وأين شهودك؟!


شهقت دون تصديق...


- أنت لا تطاق، لا أريد أن أعمل معك..



- اذهبي للوزارة الآن لتغيري مكان تدريبك إن كنتِ تقدرين.



أخذت تندب حظها العاثر وهي تصيح بحرقة:


- أنا لا دخل لي، أريد أن أعود للبيت، كلهم عادوا إلى بيوتهم عداي أنا، كلهم يتناولون الغذاء وأنا جائعة، كلهم نائمون الآن وأنا أعمل وأعمل وأعمل وفي النهاية أُضرب ويُقال عني أني من "الحيوانات"!!!


- إذا أنهيتِ جرد كل هذه الملفات سأُعيدك إلى مكانك.


- أحتاج لسنة كاملة كي أنهي أوراق الزبالة تلك. ردت بإشمئزاز.



تطلع إليها بشزر وهو يصرُّ على أسنانه:



- اسمها أوراق العمل وليس أوراق الزبالة، كفي عن التحدث بسوقية..


- أصبحتُ سوقية أيضاً؟!! وأخذت تصيح.


لم يبالِ بصياحها وأردف:


- ثم كلما عملتِ بجد وإخلاص ونشاط حقيقي ستُنهينها في أسابيع..



"أنا لا أقدر أن أتحملك يوماً واحداً ما بالك بأسابيع!!"



- هيا عودي لمقعدك لنبدأ وكفي عن تصرفاتك الخرقاء!!



"اصبر علي فقط، لن أكون "ندى" إن لم أجعلك تعضُّ أناملك ندماً لأنك وضعتني معك في مكانٍ واحد!!!"




==============



أحنت جذعها لترتدي نعليها ولم تشعر إلا بيد تمس ظهرها...


رفعت رأسها فوراً بوجل...


- آسفة إن أخفتك، كيف حالك يا ابنتي..


وابتسمت "غدير" ابتسامةً كبيرة وهي تصافخ المرأة بحرارة:


- أنا بخير، كيف حالكِ أنتِ؟!



- الحمد لله على كل حال..


ثم هتفت بسرعة:


- ماذا عن والدتك، هل أبلت من مرضها؟!!


- أمي؟!! تساءلت بدهشة.


- أجل والدتك، كانت مريضة وعلى فراشها المسكينة حين زرتها آخر مرة.


"أمي مريضة!!"


وشعرت بالإثم يعقد لسانها...



الغصة ترتفع، تتضاعف جرعتها، و الذنب يبدو جلياً ونظرات المرأة تشهد على ذلك...



" مريضة وأنا لا اعلم!!"



أرجوكِ اصمتي، ومنذُ متى كنتِ تسألين، ألم تتوقي إلى الفكاكِ منها ومن صورتها المهشمة الضعيفة!!!



ألم تريدي الخلاص، النسيان، أليست هي أول بصمة سوداء في حياتك، أليست هي السبب يا "غدير"؟!!


لم السؤال إذن؟!!


هي أيضاً لم تبالي، حضرت عرسك وخرجت وكأن ليس هذا بزفاف ابنتها...



ربما منعها، ربما جاءت خلسة وعادت قبل أن يكتشف غيابها ذاك السكير!!



لا... لا تبحثي لها الأعذار..



لا أب لكِ، إذن لا أم لكِ!!



هكذا هي المعادلة منذُ الأزل!!


وتجاوزت المرأة والكلمات تطنُّ في أذنيها كدبيبُ نحلة...



المصائب لا تأتي فرادى أبداً، تأبى إلا أن تأتي كلها وعلى حين غرة...


مريضة!!!



وماذا في ذلك، كلنا نمرض وهي كبرت في السن!!



ماذا بعد ذلك؟!!



ستموت!!!



كلنا سنموت اليوم أو غداً، لا فرق!!!



لم الحزن إذاً، لم الرثاء؟!!



دع الخلق للخالق وسر في طريقك وحدك واصمت...



اليوم وغداً ووراء الشمس ستسير وحدك، اعتد منذُ اليوم ولا تنظر للوراء...



مريضة!!!



ماذا تريدونني أن أفعل؟!



أزورها مثلاً!! أهذا ما تريدونه؟!!



كلا لن أفعل، لن أفعل أسمعتموني، لن أفعل...



لا أريد العودة إلى هناك، لا أريد أن أذكر أي شئ، أي شئ...



ربما كان رابضاً هناك وأنا تقتلني رؤيته..



أنا لا ماضي لدي، كله ضاع، تمزق، ألقيته خلف ذاكرتي..


خلف الشمس!!!


ماذا تريدونني أن أفعل ها؟!!



قلتُ لكم لا، لن أزورها، لن أفعل...



أمي أنا مريضة!!!!


هراء!!!

من قال ذلك؟!!



و وصلت لشقتها بذهنٍ غائب...



الأنورار مطفأة والسكون يتراقص بخفة حول المكان...


مدت أناملها لتتلمس مفاتيح الكهرباء...



لتضيء المكان وشيئاً من روحها الهائمة، المنغمسة في الظلام...



لم يعد حتى الآن وربما لن يعود!!!



هذا أفضل، أنا لا أريد أحداً، فليذهبوا كلهم للجحيم!!!



وأنا من وراءهم!!!



وألقت بنفسها على سريرها وهي تدفن وجهها في وسادتها التي طالما تشربت دموعها، امتصت آلامها، همست لها بأسرارها وحدها..


ما أوفاها هذه الوسادة!!!



و تركت لنفسها العنان وهي تجرُّ الدثار عليها...



لم الحياة هكذا دوماً؟!!



كحركة المد والجزر...



ترفعك حيناً وتهبطُ بك حيناً آخر...



لم هذا الكلام يا "غدير"، منذُ متى وكنتِ تقدمين آراءك عن الدنيا!!



أعترفي، جاهري بما في جعبتك...



هي السبب، هي، لم تمرض، ولم تأتي تلك المرأة لتخبرني بذلك؟!


استغفر الله، أتعترضين على أمر الله...



يا عزيزتي: لا يُغني حذرٌ من قدر...



أنا لا أشعر بالأسى حيالها، لا تهمني، ألا تفهمون، لذا لا تصدعوا رأسي بهمساتكم تلك...


صه، صه، صه أنا لستُ أكذب، أنا قلبي مات، مات منذُ زمن، مات وكان من الأحق أن يأدوه منذُ ولادتي، كان لا بد أن يدفنوه أو يدفنوني!!!



بلا قلب أنا أفضل، بلا قلب أنا أعيش!!!!



أمي ماتت، ماتت منذُ زمن وكفى...


ماتت وانتهى أمرها بالنسبة لي!!!



ثم يأتي هو...


إذا تواجدت هي، فتش عن "هو"!!



ذلك الكاذب، القاسي، صفعني لأني كشفته، فهمته..



تريد أن تتزوج، فلتتزوج إلى الجحيم أنت ومن تريدها!!



فقط كفّ عن ترديد ذلك على مسامعي...



لا تخالوني أغار، لا تخالوني أحبه...


ما لكم تنظرون إليّ بريب؟!



قلتُ لكم لا أحبه ألا تفهمون، مثلي أنا لا يعرف الحب، ومثله لا يستحق أن يُحب ذلك الغشاش!!!



ولكن انتظر....


قبل أن تتزوج بأخرى، طلقني فأنا لم ولن أريدك...



أتسمع، طلقني، تخالني سأبكي عليك إن أخذتها وطلقتني؟!!



ذاك ما أصبو إليه، ذاك جلُّ ما أتمناه....



لن أذرف عليك دمعةً واحدة، ولن أغضب، بل سأدعو لك ولها بالتوفيق...



قلتُ لكم كفو عن التطلع إلي...




أنا لا أبكي لا عليها ولا عليه!!!



أنا لا أحمل في قلبي شيئاً...



لا أحمل إلا شقائي!!



وأجهشت بالبكاء وهي تعصر الوسادة بيديها...



ولم تنتبه أنهُ كان مستنداً منذُ زمن على الباب، يشاهد الجسد المهتز من تحت الدثار، يسمع تلك الشهقات المنفلتة رغم الوسادة المحيطة بها، يشاهد هذا كله و هو يقف ساكناً!!!



وانطلق الصوت بعد برهة بهدوء، بخفوت كخفوت ذلك الضوء الشارد من القمر عبر زجاج النافذة...


- غدير!!!


وتوقف الرأس عن شجنه فجأة وكأن الصوت وحده كان كفيلاً بتجميده!!!




.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.



يوماً ما، أجل يوماً ما !!! 

أشعلت لقلبك شمعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن