22

1.8K 38 1
                                    


عذّب كما تشاء لن أصيحا
ولا تُطع في رحمةٍ نصيحا

لا تخش من قطع لساني سيدي
فما به كنتُ أنا الفصيحا

أنا الذي اخترتك لي زنزانةً
وعفتُ هذا العالم الفسيحا!!


=========







لا بأس، لا بأس!!!


رددت بهمس و هي تضع يدها على عمود السرير و تُنهض نفسها التي ترنو للأرض كل حين...

كل شيء انتهى الآن، لم يعد هنالك مزيد من الخوف، من الألم، من الضياع...


و جلست على فراشها و هي تمسح أنفها و تزيح شعرها المبلل عن وجهها بأناملها المرتجفة...



لقد كان لكِ ما شئته أخيراً...


ها أنتِ حرة، طليقة، مُطلقة!!!




ليذهب، كان سيذهب في كل الأحوال، كنتُ أعرف ذلك..


ولقد حاولت بشتى الطرق أن أعجل ذهابه، لكنهُ لم يستمع لي لا قبلاً و لا الآن...


لا بأس قلتُ لكم لا بأس...


ما عاد ينفع الكلام الآن، هذا أفضل له، أنا لا فائدة مني، لا فائدة أبداً!!


لقد نفذ الغدير، ماج وارتحل في القاع، لم يبقى منه إلا بقعةً ضحلة كسراب الظمآن...


غداً سينسى كل شيء و ينساني..


من أجله، لا بد أن ينساني، لا بد...


أما أنا فسأُخفي ذكراه في قلبي، سأدسه بين وجيبي، لن أريه أحداً أبداً...


لا ضرر من ألا أنساه، أليس كذلك؟!


لم يقولوا هذا حراماً، ليس مثل اللعب البتة صدقوني!!



أنا لم أشأ أن أجرحك، جرحك يعذبني، يُلقيني في جهنم!!


تخالني لا أفهمك، لا أفهم عيناك، أنا أرى شخصك كله خلالهما..


عيناك التي لن تجيب عن سؤالي عنهما أبداً!!!


العذاب كل العذاب ينضح منهما، لكنني لم أشأ ذلك...


ليس بيدي يا "عمر"، ليس بيدي...


لكنك لم تفهمني يوماً ولم تسمعني...


اذهب و لا تعد هنا مجدداً...


أنساني وأكرهني بكل جوارحك،و سأظل أنا أحبك حتى النهاية يا "عمر"، حتى النهاية...



لا أريد العودة إليك أبداً، أريد أن أبقى لوحدي، لوحدي فقط...


تعبت من الشك، من الغيرة، من ذكريات الأمس..


في البعيد أحبك أفضل، دائماً أفضل بكثير..


و لا أجد في قربك إلا الخوف...


أخافك حين ترفع يدك و حين تمدها إلي لتضمني إلى صدرك!!!


أحبه و أخافه!!


أيُّ مفارقةٍ عجيبة تلك التي أعيشها!!


لا بأس قلتُ لكم لا بأس..


لا محلّ لي الآن هنا ما دام يحمل أثرك...


ما دمت يوماً كنت تقطن في الغرفة بجواري!!!


ألم أقل لك أنا "غدير" و أنت "عمر"...


وقد عجز التاريخ أن يقربهما، فكيف أنا و أنت بنو البشر؟!!


انساني يا "عمر" انساني...


حتى لو اضطررت أن أجعلك تكرهني كالموت، لا بد من ذلك، من أجلك وحدك...


كي تعيش أيها المُحب الأحمق!!


كل شيء انتهى، إذن كل شيء على ما يُرام، أليس كذلك؟!


و سمعت ضجة في الخارج فالتفتت نحو الباب...


كانت واقفة هناك و هي تمسح دموعها الحارة بإنسياب...


ابتسمت ابتسامةً صغيرة في وجهها و هي تقول:


- كل شيء حُلّ الآن!!

- إنه يتجادل في الخارج مع والدي الآن، يقول أنه سيسافر..


- لا بأس فليتزوج..


- سيسافر ولم يقل ستزوج!!


- سيان، كل شيء سيان.. ردت بصوتٍ لا روح فيه.



و تعالت الضجة، وسمعت صوت الأب يهدر بقوة:


- أجننت؟! يبدو أنك فقدت عقلك!!


- صدقني لم أكن عاقلاً كاليوم..


- لمَ الآن؟! ألم تكن رافضاً من قبل..


- كنتُ أنتظرها تتعافى، خفتُ أن تنتكس من جديد!! صاح بسخرية.


"أو ربما لأحفر صورتها في عيني قبل الرحيل، تلك الخائنة"..


- لمَ يا ابني فعلت ذلك، لمَ تعجلت، كنتُ أمني النفس بأن تتصالحا.. علق بحزنٍ مرير.


- هذا لصالحها، صدقني ستشكرني على ذلك..


"لأنها لو بقيت على ذمتي ما كانت لتعيش أكثر من دقائق!!"..


وقبل أن يستدر قال و كأنه تذكر شيئاً:


- وخذها مني نصيحة يا والدي، لا تدعها تخرج بمفردها أبداً، عيال الحرام كثيرون!!


وسمعت صوت شيء يتحطم على الأرض...


قالت بضعف و هي تخاطب "ندى":


- أغلقي الباب أرجوكِ، أريدُ أن أنام، لم أنم منذُ سنين!!


و وضعت رأسها على الوسادة، لعلها تحقق حلماً آخر لم تدونه في دفترها..


أن تنام!!


=========



- ماذا تقول؟؟! صاحت فيه دون تصديق.


- أهذا ما كنتِ تريدينه؟! وأمسك يدها ليهدئها لكنها سرعان ما سحبتها و هي تصرخ فيه بعصبية.


- أنت جبان، نذل، حقير!!


- أجننتي؟! صاح فيها وهو يهزها بقوة لتثيب إلى رشدها..



و هدأت قليلاً و هي تطالعه و كأنها انتبهت له و لنفسها للمرة الأولى..


رفعت يديها إلى صدغها و هي تنظر له بغصة وشفتاها ترتعشان:


- أنت السبب، أنت السبب..


- ماذا فعلتُ لكِ؟ سألها "ناصر" بيأس.


- تركتني لوحدي ولم تعد...


و أردفت "شيماء" بتقطع:


- لماذا فعلت بي ذلك؟!


واهتزّ جسدها و هي تنشج بخفوت...


تطلع لها بحيرة دون أن يفقه شيئاً...


ماذا جرى لها؟!


أكل هذا من أجل طفل؟!


ستفقد عقلها من أجل طفل!!


- قولي لي ماذا تريدين بالضبط، فقط لا تعذبيني و تعذبي نفسك أرجوكِ.. خاطبها بتوسل.


هزت رأسها و هي تتراجع للوراء:


- لا أريد شيئاً، لم أعد أريدُ شيئاً، لا شيء..


- أأنتِ متأكدة؟! ألا تريدين أن تراجعي الطبيب؟!



و تشنجت حواسها و هي تحرك أصبعها في الهواء نافيةً و تصرخ بهستيرية:



- لا تذكر لي اسمهم، كلهم شياطين، كل الأطباء شياطين، أنا أكرههم كلهم..



وغطت وجهها و هي تلقي بنفسها على أقرب مقعد و تبكي بصوتٍ مرتفع...


خرج "ناصر" من الغرفة من فوره..


شظاياها تنغرز في قلبه، تُحيله إلى رماد...


منظرها أفظع من أن يتحمله، و صوتها، صوتها في الليل حين تهذي يقطعه، يُحيل لياليه إلى كوابيس سرمدية..


أيُّ زوجةٍ تعسة صيرتها...


أكلُّ هذا من أجل طفل!!



========



- أنتِ تعلمين أن فترة تدريبك ستنقضي الأسبوع القادم...


صمتت دون أن تحر جواباً..


- أ..يمكنك أن تعودي منذُ الغد إلى مكتبك القديم مع زميلاتك.


رفعت رأسها بسرعة وهي تسأله بإندفاع:

- لماذا؟!

ردَّ ببطء:

- لم يعد هناك مبرر لبقائك فلقد أجدتِ العمل..


- لكنني أريد أن أبقى... معك!! ردت بهمس.


صمت و هو ينظر لها لمدة طويلة و هي منكسة رأسها، ثم قال بصوتٍ جامد، خالٍ من أي تعبير:


- الأفضل أن تعودي..


- هل أخطأتُ في شيء، هل ضايقتك!!


- ليس الموضوع هكذا يا آنسة...


- ماذا إذن؟!


- لم يتبقَ إلا أسبوع فقط!!


- وماذا يضيرك لو أتممت هذا الأسبوع معك!!


تنهد بضيق مغيراً وجهة الحديث:


- ألم تكوني تلحين علي بأن أُعيدك إلى مكانك..


- هذا كان قبلاً، قبل أن أعرفك، أما الآن فلا، أنا.....


قاطعها غاضباً:


- اسمعي، هذا الكلام السخيف لا أريد أن تكرريه، للأسف ظننتكِ كبرتِ و عقلتي لكنكِ لن تتغيري أبداً..


- إذا كان العقل سيبعدني عنك فأنا لا أريده!! صاحت.



- ألم تسمعي بمصطلح "الاستغناء عن الخدمات"، أنا أستغني عن خدماتك مشكوراً. أجاب بقسوة.


ثم أردف بصوتٍ أكثر حدة:


- لا فائدة من بقائك، أتفهمين!!



وعاد ليجلس على مكتبه بتثاقل دون أن ينظر ناحيتها...


نظرت إليه بعينيها الدامعتين تخاطبه بعتاب:


- جعلتني أتعلقُ ثم تريد أن تبعدني!!


- ..................



- أنا أكرهك، أكرهك، أتمنى ألا أراك أبداً...



وخرجت من المكتب و هي تمسح دموعها تاركةً حاجياتها كتذكار!!!


أتخالونه التذكار الأخير؟!!



========



هبّت من نومها مذعورة و هي تتلفت يمنةً و يسرة بإرتياع...


مررت أناملها المرتجفة حول جبينها الذي يتصفد عرقاً وقد أخذ خافقها ينبض في عروقها بعنف..


تطلعت إلى "ناصر"، كان مغمضاً عينيه بقوة وقد تغضن جبينه..


مسّت كتفيه وهي تناديه بأنفاس متقطعة:


- نا..صر..نـ..اصر.


عاد جبينه ليتجعد أكثر و لم ينبس ببنت شفة..


- نا..صر إنه ينتظرني..


- عمن تتكلمين؟! سألها بتعاسة.


- الشيطان، ألا تعرفه!! صاحت بإستنكار و هي تقبض على عنقها بخوف.


- ......................


- إنهُ يقف خلف الباب. همست له بخفوت وشفتاها ترتجفان.


- لا يوجد أحد، كم مرة تأكدتُ لكِ من ذلك!! صاح بيأس.


- أصص اخرس كي لا يسمعك، أتريده أن يأتي إليك أنت الآخر!!



ولم يحتمل أكثر، فزَّ من مرقده و هو يضع يده على جبهتها..


- أنتي محمومة، حرارتك في ازدياد..


صاحت بلوعة وهي تهز رأسها:


- إإإياك، إإياك أن تشرب شيئاً، يجعلونك تنام!!


- انهضي لا بد أن أذهب بك إلى الطبيب.


وصرخت صرخةً عالية و هي تقاومه بهستيرية:


- لااااااا، طبيب لا.



و أفلت يدها و هو يمرر بصره بألم بين آثار خدوش أظافرها و بينها...


أخذت تطالعه هي الأخرى بعينين ذابلتين و هي تهزُّ رأسها...



- أنا لم أقصد..


- لا عليكِ. رد بلطف و هو يبتسم ابتسامةً باهتة.


غرزت أصابعها و هي تمسك حفنة من شعرها بقسوة...


- كل هذا منه، من الشيطان!!


- ..................


- لكنني لن أجعله ينتصر، عندما أراه سأقتله!! صاحت.



ثم أردفت و هي تضع أصابعها على فمها كأنها ستخبره بسر كي لا يسمعه أحد:


- لا تخبر أحداً، لا تخبرهم..


- ..................


- ما بالك تنظر إلي هكذا، أنت لا تصدقني!!


- ........................


- تخاله كابوساً، أتخالهُ هكذا؟! سألته بلهفة.



وشدت على قميصه وهي تصيح فيه بإصرار:


- أليس كذلك، قُل لي..


وغرقت في نوبة من البكاء الهستيري..


وضع يده على رأسها المدفون في الفراش بشرود..



"سأجهز أوراقي لنسافر، لا يهم إن فصلوني، لا يُهم إن طُردت...


كل شيء لا يهم عداكِ أنتِ"....



===========



وضعت يدها أمام وجهها لتحجب عنها نور الشمس الساطع في قلب السماء...


وجدت الباب مفتوحاً على غير العادة و ولجت إلى الداخل...


انتابتها رعدة، ليس من الجو، فهو أقيظ من أن يرسل رعدةً إلى جسدها النحيل، ولكن من تلك الرياح التي تصدرُ صوتاً كالعواء كل حين!!


أمسكت بالعلبة بتؤدة و هي تتفقد المكان بشجاعة..


ماذا سأخسر بعد؟!!


لاشيء!!


و تنهدت بعمق و هي تطرق الأماكن، كل الأماكن و كان آخرها غرفتها...



الغرفة خاوية، ليس منها فقط، بل خاوية من عروشها، من كل شيء!!!



أتراهم رحلوا!! تركوا المكان!!



كلا، كلا، مستحيل، كانت ستخبرني، أمي لن تتركني، لن تتركني هي الأخرى...



وأرادت أن تفتح فمها لتنادي عليها، لتزلزل أركان هذا البيت المتهدم، لكن صوتها اختنق، احتبس في حنجرتها، هي لم تعتد يوماً أن ترفع صوتها في هذا المكان...



و سقطت العلبة من يدها، تدحرجت على الأرض و تبعثر ما فيها و هي تسير كالخيال....


تراخت ركبتاها و استمرت في السير على الرمال حافية القدمين دون أن تشعر بلسعتها...


بدت غائبة عن الوجود و هي تتلفت حولها بضياع...


و تنفست الصعداء بقوة و هي تلمحها تنشر الغسيل على الحبل في الجانب الخلفي...


هناك حيثُ رأته يدخن سيجارته...


هناك حيثُ ابتدأت الشرارة الأولى و انقلبت حياتها!!


هرعت إليها و هي تطوقها من الخلف بلهفة، وأحست برعدتها تسري في جسدها كالتيار...


مدت الأم يدها ووضعتها على يدها الصغيرة دون أن تلتفت، لربما لتتأكد من هويتها، أو كي لا تفيق من حلم نسجهُ خيالها المتعب..


- أمي..نادتها بصوتٍ متهدج.


واستدارت لها دون أن تفلت يدها من قبضتها و هي تنظر لها دون تصديق..


مررت أنامل يدها الأخرى على وجهها النحيل لتتحسسه...


أهذه أنتِ فعلاً؟!!


و ضمتها إلى صدرها و قلبها يخفق بإضطراب، كأنفاسها اللامنتظمة، المنفلتة من حنجرة الزمن...



- سامحيني يا ابنتي، سامحيني.. قالت بغصة.


- لم يكن هذا ذنبك.


أبعدتها عنها و هي تقول بعزم الأمومة:


- سأذهب إليه وأخبره.


- لا فائدة يا أمي، إنهُ لن يسمع..


- سيسمعني أنا، رغماً عنه سيسمع، ما كان عليكِ أبداً أن تسكتي، كان عليكِ أن تخبريني و تخبريه..


- أقولُ لكِ لا فائدة، لقد سافر و لن يعود..


- لا يهم، سأنتظره ولو بعد مائة عام..


- لا جدوى يا أمي، لقد طلقني..


ودفنت رأسها في صدرها من جديد و هي تبكي بصمت...


- طلقكِ!! رددت بذهول.


- قلتُ له لم أفعل شيئاً لكنهُ لم يصدقني..


- طلقكِ!! كررت و هي تطالع وجه ابنتها بألم.


- أأنا قذرة يا أمي؟! سألتها بصوتٍ مبحوح.



صاحت بإرتياع و الغصات في جوفها تتلاحق:


- إياكِ أن تقولي هذا، أنتِ ابنتي، أنا من ربيتك بيدي هاتين، أنتِ أطهر مخلوقة على الأرض..


- إذن لم يعاقبني هكذا؟! أنا أحبه يا أمي..



و خنقتها الغصة و هي تعضُّ على شفتيها لتمنع شهقتها..


ثم أردفت بنشيج:


- أنا لا حظّ لي، لا حظّ لي..


ارتفع صدر الأم بإجهاد و هي تشعر بوخزات قوية في قلبها، في سويدائه...


ابعدتها عنها مرةً أخرى لعلها تلتقط أنفاسها..


صاحت بإختناق:


- أنا من أفسدتُ حياتك، أنا السبب...


- كلا، أنتِ لا ذنب لكِ.


- أنا أمك و كان علي أن أعرف..


ولطمت وجهها بعنف و هي تتراجع للوراء:


- أيُّ أمٍ أنا!! أنا لا أستحق..


- كلا أمي، لا تجعليني أندم بأني أخبرتك..



وأبعدت يديها عن وجهها و كادت تتهاوى لكنها أمسكتها في اللحظة الأخيرة..




- ادخلي لترتاحي، أنتِ متعبة..


- لا بد أن أنشر الثياب. ردت بأنفاس متهدجة.


- أنا سأنشرها بدلاً عنكِ..



ابتسمت في وجهها بوهن فأضاء، علقت بصوتٍ حالم:


- لا تتعبي نفسك، إنها ثياب لا يرتديها أحد..


رفعت "غدير" بصرها نحو قطع الملابس، كلها ملابسه!!


فسرت بتعب:



- "مجيد" أُلقي في السجن..


وعاد وجهها ليتقلص ببطء و هي تضع كفها ناحية قلبها بألم:


- لقد حطم زجاجة على أحدهم، و الصبي في حالة خطر..


و سمعتا صوت صفيرٍ عالٍ يقترب منهما قطع عليهما الحوار، التفتت "غدير" بسرعة ناحيته..


- أهلاً، أهلاً، كيف حالُ عروستنا الصغيرة!!


- ...................


- اممممم لا بأس بك وإن نحفتِ قليلاً!! ألا يطعمونكِ هناك؟!


- ..............


- إن شئتِ أن تعودي هنا فلا مانع، أمك الآن تشعر بالوحدة، كثيرٌ أن تفقد ابنها وابنتها في نفس الوقت، ألا ترين ذلك؟!


- ......................


ثم تقدم منها و هو يحني رأسه بخبث:


- وكيف حال زوجك؟!


رمقته بنظرة احتقار، كرهٍ عميق، بعمق جوف الأرض:


- لا تذكر زوجي على لسانك أيها القذر..


تقلص وجهه فجأة منصدماً من جرأتها، ثم ما لبث أن لانت ملامحه و هو ينطق بتشدقٍ ساخر:


- أين كان لسانُ القطةِ مختبأ طوال الوقت؟!


- لو تعلم كم تثير رؤيتك في نفسي الغثيان أيها الحقير..شددت على الكلمة الأخيرة.


و رأته يهم برفع يده فابتعدت و هي تصيح بتهديد:


- إن مددت يدك ستندم، لا حق لك علي الآن فأنا...متزوجة!!


تطلع إليها بحقد و هو يردف بصوتٍ مصرور:


- أنتِ محقة، لكن ماذا عن هذه؟!


وصفع الأم الذاهلة عن الجميع صفعةً قوية أطاحتها على الأرض...


و دلف يترنم!!



تراخت ركبتاها فركعت على الأرض بجوارها...


- أمي، أمي.. هزتها من كتفيها وهي تناديها بصوتٍ مبحوح.


- ...............


- قومي معي، انهضي...


فتحت عينيها بضعف و هي تتمتم:


- لا... أقدر يا ابنتي..


- أتؤلمك كثيراً؟! سألتها بلهفة و هي تمرر أناملها على خدها المتغضن .


- كلا يا ابنتي. وابتسمت بوهن.


- سامحيني، سامحيني. خاطبتها بغصة.


و سكتت...


رفعت أصبعها إلى فمها و هي تخاطبها بعتابٍ قديم، بعمر السنواتِ الخوالي...


- أماه، لا يجدي السكوت، ألم تقولي ذلك؟!


اهتزّ جسدها بعنف و هي تردف بتقطع:


- أمي أتذكرين بدلة والدي، بدلته الرمادية، لا شك تذكرينها..


- ...................


- أراد "حميد" أن يرتديها، سمعته يسألكِ عنها..


ومسحت ما بين أنفها وهي تكمل:



- وسكتِ كعادتك، لكنني لم أرضى، لم أكن لأقبل بأن يرتدي ذاك الحقير شيئاً به رائحة والدي، مثله يلوثها أليس كذلك؟!


- ........................


- أنا من سرقتها، أنا من أخذتها من خزانة غرفتك..


- ....................


- لقد ضربك حينها، كنتِ تعلمين أني من أخذتها و سكتِ...


- ......................


- من منا من يسكت ها؟! صاحت فيها بعتاب.


وأجهشت بالبكاء وهي تنشيج بصوتٍ متقطع كنشيج الميازيب في مواسم المطر...


وبقيت هكذا على صدرها وهي تغرقها بدموعها....


رفعت عينيها الذاويتين وهي تتطلع لها بألم، خاطبتها بهمس:


- لا تذهبي أرجوكِ، لا تتركني..


- .....................


- لا تذهبي قبل أن تسامحيني، لا تذهبي.


- ....................




وأفاقت من يأسها وصاحت وهي تهزها من جديد بقوة..


- من سيبقى لي من بعدك، أأتيتم مرة أخرى، ألا تخشين الله؟!!



ثم قالت فجأة وكأنها تذكرت شيئاً:


- لقد جلبتُ لكِ وشاحاً، لقد صنعتهُ بنفسي، تعرفيني لطالما تفوقت في حصة "الكروشيه"..


- .................


- أتريدين أن تريه؟! لحظة، لحظة انتظريني..



و هرعت من مكانها على عجل و هي تجري حيثُ ألقت العلبة، أخذت تفتش عنها بعينين لا تريان حتى وجدتها....



و تعثرت في جريها فسقطت على الأرض، لكنها تحاملت على نفسها حتى وصلت إليها:


- انظري إليه يا أماه، أليس جميلاً، لونه أخضر كلون عينيه!!


- .........................


- لا تنظري إلي هكذا بعينكِ المفتوحتين، أعلم بأني كاذبة، أنا لا أستطيع نسيانه، لا أحتمل البعد عنه...


- ........................


- اصبري سأضعهُ عليكِ، ستصغرين عشرة أعوام كما كان أبي يقول لكِ ذلك...



و رفعت رأسها و هي تحاول تثبيته بإصرار رغم اهتزاز يدها...


- أرأيتِ كم تبدين جميلة..


- ...................


ثم أحاطت وجهها بيديها المرتجفتين وهي تخاطبها بصوتٍ خافت:


- أقلتِ لكِ من قبل أني أحبك، أنا أحبك يا أمي، أحبكِ كثيراً...


- .........................


- أعلم بأنكِ غاضبة مني، أنا أعلم بأني ابنة عاقة، لكنني سأتغير أقسمُ لكِ بذلك...


- ........................


- سأعمل وأُعيلك بنفسي و سنعيش سوياً، قدر الابنة كقدر أمها، كلانا ليس له حظ في هذه الدنيا، لذا لا بد أن نكون معاً...


- ......................


- ألا يعجبك كلامي، ما بالكِ تسكتين؟!


وضمتها إلى صدرها بقوة وهي تنتحب بصمت...


- غداً ستستيقظين أليس كذلك؟!


- .....................


عادت لتهزها بقوة وهي تصيح فيها:


- لا تموتي الآن، امسحي على شعري أولاً...


- ...................


ثم اقتربت منها و صرخت بهستيرية:


- امسحي عليه، هكذا يفعلون باليتامى أولاً..


- .........................



- أمااااااااااااااااااااه..



وشهقت شهقةً قوية كادت أن تخرج معها روحها....





الرياح في الخارج لازالت تعوي ربما لتصمّ الآذان عن صرختها.....




>>>>>انتظروني في الجزء ما قبل الأخير....







.
.
.
.
.
.
.
.




كخناجر نصلها
حمي بالنار
تساقطت حروف
أنت طالق
على أسماعي
وفي كل حرف
ينغرس نصل خنجر
بين حنايا
فؤادي الملوع
بحبه
لا بل بعشقه ..


كيف له أن يعلم
أن العذاب
لا يذوقه هو لوحده
فأنا اصطليت به
من سنين
و مازلت ..


متى ينقشع
الضباب ؟؟
سأمت أنهار الدم
التي
غسلت حياتي منذ نعومة
أظفاري ..


سأمت
السر
يكتم بروحي
وهي تنزع بلا رحمه
بفراقه عني ..


كيف
له أن يعلم أن القلب لم يخنه أبدا
و الجسد
غدر بها ظلما ..
كيف
لحياتي
أن تسير ؟


أأنثر اعترافا
تجرحت به سنيني ؟
و نزف له
قلبي بحرقة
مازالت نيرانها
تشتعل ؟؟ ..



كفى
يا نفس
إلى متى ستتحملين
إلى متى ستكتمين
ألك القدرت على
الموت
و الكفن لا يضم
سوى الألم
و الحزن
وقد مزج
بدم و دمع
و سر جريح
و روح أسيره ؟! 

أشعلت لقلبك شمعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن