23

3K 58 5
                                    


انظرُ للوراء رغم أنفي
و كيف أنكرُ الهوى و أنفي!!

جربتُ أن أنساكِ يا حبيبتي
و صبًّت لي الأيامُ كلّ صنفِ

فلم يُطع قلبي فهل أسحقهُ
بكلّ ما في قبضتي من عُنفِ!!


=========










- "ندى" انظري، شهاب!!



ابتسمت تلك الأخيرة ابتسامةً باهتة و هي تتابع ذلك الامتداد الطويل الذي ينثر ذراته البيضاء في السماء...


- ماذا ستتمنين؟! سألتها بحماس.


- ما عادت تجدي الأماني. ردت بغصة و هي تضع رأسها على كتفها..


- كلا، لا تفقدي الأمل، أنتِ من قال لي ذلك..


- لقد مرّ شهران، شهران يا "غدير".. ردت بمرارة.


- أعرفُ ذلك. ردت بخفوت و قد فارقتها الابتسامة.


عادت "ندى" لترفع رأسها لأعلى و كأنها تخاطب السماء:



- لقد نلتُ تقديراً مرتفعاً لديه، تصوري كتب لي توصية!!



- أليس هذا ما كنتِ تريدينه؟!


صاحت بألم:


- أنا لم أعد أبالي بذلك، أنا أريد...


و سكتت دون أن تنبس ببنت شفه...


احترمت "غدير" صمتها و شردت في خواطرها هي الأخرى...



و انتبهت لشيءٍ ما على الأرض فاحنت جذعها لتلتقطه و هي تقول لندى بخفة:



- ما رأيك أن نغير هذا الجو الكئيب، فالنتسوق اليوم أو نذهب للبحر أو...أو نزور متحف البحرين، أتصدقين لم أرى آثار بلادي قط!!


وضحكت بأريحية و هي تردف:


- أتعلمين سأتعلم السياقة، أجل لا بد لي من ذلك، وسأعود لمقاعد الدراسة، سأذهب للجامعة..


- ....................



ثم أردفت بغموض و كأنها تكلم نفسها:


- سأفعل كل شيء، كل شيء أريده، كل شيء حُرمت منه..


ثم هزت رأسها لتبعد خواطرها و سحبت "ندى" من يدها و هي تخاطبها بمرح:



- حتى السينما إذا شئتِ سأذهبُ معكِ!!



- لقد تغيرتِ كثيراً يا "غدير".. طالعتها بإهتمام.


- أليس هذا أفضل؟!



و عبثت بشعرها الذي باتت أطرافه لا تتجاوز العُنق...



- لم أقصد شعرك القصير، لقد بتّ تشبهين الأولاد..


- و ماذا في ذلك، ليتني ولدتُ صبياً!


- لماذا؟!


- هكذا فقط!! ردت بفتور.


- ..................



- أتعلمين شيئاً سأصبغه أيضاً، أتخالين اللون النحاسي يناسبني؟!



- أجل لكن....



- لكن ماذا؟!


- ................


- لكن أمي لم تُكمل الأربعين، أهذا ما تودين قوله!!



- ......................




أشاحت بوجهها نحو قرص الشمس مُردفةً بخفوت:


- حين ذهبت ماتت "غدير" هي الأخرى، ، لم يعد لها وجود، وأنا لا أريد أن أذكرها، لا أريد...


- أنتِ تهربين من واقعك!!



- سمّه ما شئتِ، أنا لا أبالي.. ردت بإنفعال.



تأملتها "ندى"...


إنها لم ترتد حتى ثوب حداد على والدتها، فقط تكتفي بزيارتها في المقبرة بين الحين و الآخر....


لم تعد تسمع صوت بكاءها في الليل، بل تبقى معم الوقت صامتة، شاردة و قد تنتابها لحظات مرح مفاجأة كاليوم!!



إنها تبالي مهما أنكرت، مهما حاولت أن تصطنع الضحكة على شفتيها....


إنها تحاول أن تهرب فقط، و لكن إلى متى سيطولُ هروبها؟!!



سألتها "ندى" بلين مغيرةً وجهة الحديث:


- لم تقرري أين تريدين أن نذهب؟!


- نزور متحف البحرين. جارتها بإبتسامة صغيرة.


- و ماذا بعد؟!



غرزت أصبعها في خدها مفكرةً، ثم قالت بحماس:



- نذهب إلى الحديقة المائية...



- ثم ماذا؟!



- ثم، ثم نشتري اسكريماً كبيراً، بهذا الحجم، نلتهمه أنا و إياكِ و نحنُ نسير على البحر!!



- ثم ماذا؟! كررت بحماس هي الأخرى.



- بعد ذلك نعود للمنزل..



وضحكت الفتاتان معاً...




- صه، هذا صوتُ والدي يُنادي..


- حسناً سأذهب إليه.



- ناداني أنا و لم يقل "غدير"!! و مدت لها لسانها لتغيظها.



- أعرفك تغارين مني لأن خالي يحبني أكثر منكِ..



- هذا في أحلامك فقط..




و تسابقت الفتاتان و هما تنزلان من على السلم و كل واحدة تحاول شد الأخرى كي تمنعها من الوصل..



- لقد أفسدتِ تسريحة شعري. صاحت "ندى" بإستنكار و هي تُعيد تصفيف شعرها.


- انظري أيضاً ماذا حدث لقميصك!!


- ماذا حدث له؟! سألتها بخوف.



- لقد تمزق من الخلف!!



شهقت "ندى" وهي تستدير و تسحب ذيل القميص لترى..



فاغتنمت "غدير" الفرصة و تجاوزتها و هي تضحك بأنفاس متقطعة...


- أيتها الكاذبة، سأُريكِ...


قاطعتها و هي تستدير لها قليلاً:


- تعالي إن استطعتِ شيئاً...



و اصطدمت بشيء فكادت أن تسقط على الأرض بفعل القصور الذاتي لولا أن أمسكها ذاك الشيء...




أخذت تطالعه مصعوقة و كأن على رأسها....


انتبهت لنفسها فتراجعت للخلف بإرتياع ثم عادت لترتقي السلم من جديد بإضطراب ..



و التقت بندى في منتصف الطريق، خاطبتها بإستغراب:



- لماذا عدتِ؟!


هزّت رأسها ببطء:



- لا شيء، لا شيء...



و أوصدت خلفها الباب، لعل وجيبها يهدأ قليلاً أو يعود لغفوته من جديد!!!



==========





- مبروك يا سيدتي أنتِ حامل!!



و تهاوت على الكرسي بذهول..



ابتسمت لها الطبيبة في وجهها مُعلقةً:



- كم أنا سعيدة من أجلك، أو بالأحرى من أجلكما، سيسعد زوجك كثيراً....


- ........................



- اسمعي منذُ اليوم جميع الأدوية المهدئة التي وصفتها لكِ تمتنعين عنها كلياً، و لا تتناولي أي شيء إلا بعد استشارة الطبيب...


- ......................



- ما بالك صامتة، هل ألجمتك المفاجأة!!



رفعت "شيماء" رأسها بتعب و هي تسألها بصوتٍ منخفض:



- في أيّ شهر؟!


- في الشهر الثاني..



فتحت فمها المرتعش لتصرخ، لكنها أمسكت نفسها بشدة...



أطرقت للأرض و أنفاسها تضيق شيئاً فشيئاً، خاطبتها بإختناق:



- أأنتِ متأكدة؟!



- بالطبع!!



- ربما كنتُ في الشهر الثالث أو الرابع، أو أي شيء، أي شيء!!!




تطلعت لها الطبيبة بإستنكار و قد عقدت حاجبيها:



- يا عزيزتي أنتِ لازلتِ في البداية، أنا متأكدة، كنتِ ستلاحظين ذلك بنفسك...




"ألاحظ!! أنا لم ألاحظ شيئاً، و لم أشرب شيئاً، صدقوني!!"...



عاد صدرها لينقبض من جديد و هي تردف بتقطع:



- أنا لا..لا أريده.


- لا تريدين ماذا؟!


- لا أريد ط..فلاً، أنا لستُ حاملاً، لستُ حاملاً، لا أريد هذا الطفل..


- يبدو أنكِ متعبة، سأنادي "ناصر" من الخارج..


- انتظري!!



صاحت و كأن ذكر اسم زوجها كفيلٌ بإعادتها إلى صوابها.....


وقفت على قدميها و هي تتلمس وجهها بإرهاق:


- أنا أعتذر، أنا بالفعل متعبة هذه الأيام، لا تخبريه أرجوكِ، سأقول له في البيت، أرجوكِ...



تطلعت لها الطبيبة بشك ثم ما لبثت أن تنهدت:




- لا بأس.


- ..................


- اسمعي يا "شيماء" أنتِ لستِ كأي مريضة تفد إلى هنا، فزوجك قريبٌ لي، لذا إن كان لديكِ أي شيء و تودين إخباري به فكلي آذانٌ صاغية.


- كــ..كلا، ليس لدي شيء أخفيه..



عادت الطبيبة لتتنهد ثم رسمت على وجهها ابتسامة:


- على العموم يمكنك أن تنصرفي الآن، و مبروك مرةً أخرى...



و خرجت من غرفة الكشف دون أن ترد و كأنها تفر من الجحيم....



التفتت على صوتٍ يناديها مقترباً....


- أنا هنا..


- ............


- ماذا قالت لكِ الطبيبة؟!


- لا شيء جديد!!! ردت بصوتٍ لا يُسمع.


- قلتُ لكِ دعينا نسافر لكنكِ لم تقبلي..



- أرجوك أريد أن أعود للبيت، أنا مجهدة..


- حسناً حسناً، اهدأي...




==========




- إلى متى ستبقين هكذا، الشمس حارة جداً..


- ألازال هنا؟!


- إنه مع أبي في غرفة الجلوس..


- أينوي البقاء؟!


- لا أعتقد ذلك، أبي لن يسمح بذلك أبداً..



- أنا لا أريد أن أسبب مشاكل لأحد، و هذا بيته، أنا من ينبغي عليها أن ترحل..



- أجننتي!! ما هذا الكلام، ثم أين ستذهبين، لقد توفيت والدتك رحمها الله، ثم أنا لم أرى معه حقائب، لا بد أنه وضعها في الشقة..


- الشقة!!


و نهضت "غدير" من على الأرض و هي ترمق "ندى" بنظرة ساهمة...


- ماذا بك؟!


- لا شيء..


و سحبت وشاحها لتغطي به شعرها و هي تهم بالنزول...


- أين ستذهبين؟!


- إلى غرفتي!!



وأكملت طريقها بشرود...



==========





أحسبيها جيداً، أحسبيها يا شيماء..


وضغطت بيديها على رأسها بقوة..


شهران، قالت شهران!!!


لقد رحل منذُ شهران...


رحل الشيطان، أليس كذلك؟!!



لم تنظرون لي هكذا؟!



كلا، كلا، ليس كما تظنون!!



هذا طفلي و طفل "ناصر" أتسمعون!!


طفلي أنا!!



سأصبح أماً، سأسمع كلمة "ماما" أخيراً.. ودقت على صدرها.




إذا كان صبياً سأسميه "خالد"، خالد ناصر!!


أليس جميلاً!!



لا بد أن يلاءم اسم الطفل اسمَ والده!!


و والده ناصر....



ما لكم تحدجوني بهذه النظرة!!



ابتعدوا عني، لا أريد أن أراكم، لا أريد أن أسمع ما تقولونه...


ما تقولونه كذب، زيف، خداع...



أنا لم أشرب شيئاً ولم أذهب لأحد...



وهذا الطفل طفلي، و طفل..ناصر!!!



دعوني أفكر جيداً، آه ماذا كنتُ أقول...


و مررت أناملها المرتجفة لتمسح دموعها الحارة التي بللت وجهها دون توقف....



أجل، وإذا كانت فتاة سأسميها، سأسميها "نور"، نور ناصر!!


و شهقت و هي تغطي و جهها بمرارة:


ارحموني أرجوكم....



أنا أعرف، أعرف....



هذا ليس ابني...


هذا ابن الشيطان!!



========



- لستُ جائعة..


- لم تتناولي الغذاء، و حتى العشاء ترفضينه، ستحبسين نفسك من أجله!!


- ليس بسببه، قلتُ لكِ لستُ جائعة.. صاحت بضيق.


- لا بد أن تتعودي على رؤيته، أنتما من دمٍ واحد و لن يفتأ أن يأتي إلى هنا..


- أنا لا يربطني به شيء، ما بينننا انتهى، أفهمتي!!



وأشاحت وجهها للجانب الآخر بغصة...


اقتربت منها "ندى" و هي تضع يدها على كتفها فالتفتت لها بحزن..


سألتها بيأس:



- لمَ عاد؟!


- كان لا بد أن يعود يوماً.


- لم يذكرني، صح؟!


- ..................


أطرقت:



- أهو بخير؟!


- أجل بخير...


- لقد تغير كثيراً..


- كما تغيرتِ أنتِ!!



أبعدت الوسادة عن حجرها و هي تنهض من على الفراش بإختناق...


- سأخرج قليلاً..


- لازال هنا..


- و منذُ متى غادر "هنا"!!



و خرجت من الغرفة...




قدماها تقوداها هناك، حيثُ ترن ضحكته عالية حول المكان...


تضحك!!


لطالما كنت قاسياً يا "عمر"، في كل شيء...


نساني، "عمر" نساني....



و أنى له أن يذكر مثلك!! أنسيتِ ما أنتِ بالنسبة له!!


لا شيء، أقل من اللاشيء، هذا ما قاله لكِ!!!


أهذا ما كنتِ تصبين إليه؟!



أن ينساكِ...كي يعيش، لا تنكري ذلك؟!


أجل، لكن....



لكن ماذا؟!


لم أتخيل قط أن ينساني بهذه السرعة، أن يهمشني من عالمه...



وأرادت أن تعود إلى حيثُ كانت لكنها سمعت صوت خالها بالخارج فأجبرت قدميها على الدخول إلى أقرب مكان....


استندت خلف الباب و هي تغمضُ عينيها بقوة...



سيخرج الآن، سيذهب كما كان يذهب دوماً...


لماذا عدت؟!


لم جعلتني أراك...


كنتُ قد بدأت أتعايش مع طيفك، مع ذكراك...


و تنهدت بقوة و هي تسير بلا هدف في المطبخ..


أشعلت الموقد بشرود و وضعت إبريق الماء...


أخذ الماء يغلي بفوران و هي تتأمل فقاعاته التي تطفو على السطح كل حين..


وضعت ملعقتان من القهوة السوداء فهدأت ثائرته و عاد لاستقراره!!


ليتني مثله!!


سكبت السائل الحار في الكوب و هي تديره بلا شعور...



ارتشفت قليلاً منه في سيرها علّ لذعته تخفف من المرارة التي تلسع جوفها بلا هوادة...


و قبل أن تلج إلى الداخل، أعادت رسم الابتسامة المصطنعة على شفتيها و هي تفتح الباب بيدها الأخرى بحذر...




و شمت رائحة عطرٍ مميزة فاهتزّ الكوب من يدها و سكنت دون أن ترفع رأسها...



ها هي قطرات من السائل تتخلل أصابعها، تلسع جلدها لكنها لا تتذمر، لا تشتكي....


أكان هنا منذُ هنيهة أم لازال!!!


أم أنّ حواسها من شُبه لها ذلك!!



رفعت بصرها ببطء....




ها هي صورته تنطبع في مقلتيها و تنعكس هناك، بين الضلوع...



كان واقفاً بجوار المنضدة بقامته الرفيعة و منكبيه العريضين يرمقها هو الآخر و لكن بثبات..




عاد الكوب ليهتز، ليرتجف بعنف كدقات قلبها المجنونة...


- خذيه من يدها!!


ما تراه إذن حقيقة، و صوته البارد يشهد على ذلك!!


تناولته "ندى" من يدها برفق، في عينيها هي الأخرى غموض، شيء لم تفهمه..


الصوت البارد ينطلق من جديد بصوتٍ آمر:


- "ندى" اتركينا قليلاً..


- لكن...


- بإمكانك أن تتركي الباب مفتوحاً.. و ابتسم بتهكم.


- أنا لن أبقى.. صاحت بصوتٍ مبحوح.


و خيل لها أنه لم يسمع، فكررت و صدرها يعلو و يهبط بإضطراب:


- أنا لن أبقى..


واستدارت بسرعة و يدها تمسك إكرة الباب:


- انتظري!! صاح بغضب.


و تجمدت في مكانها دون أن تلتفت له..


سمعت خطواته الثقيلة تقترب منها فارتعدت في وقفتها...


وضع يده على الباب و هو يخاطبها بجفاء:


- تريدين أن يظل الباب مفتوحاً أم مقفلاً!!



ابتعدت عنه بتعثر و هي تصيح بتقطع:



- ماذا..ماذا تريد؟!


- لا أخالك تريدينهم أن يعرفوا!! أجاب بقسوة و هو يشير لشقيقته.


- ....................


ثم التفت لتلك الأخيرة و هو يومىء لها:


- أتسمحين؟!


تطلعت إلى "غدير" كأنها تنتظر منها الإجابة...



مست كتفها و هي تسألها:


- أتريدين شيئاً!!


هزت رأسها بلا شعور و كأنها لا تستمع لأحد...


و انصرفت تاركةً الباب مفتوحاً على مصراعيه...


خيم الصمت بينهما، كانت تفر بنظراتها الشاردة في كل مكان إلاه!!!


ماذا يريد ها؟!


أن يلقي علي كلمات أخرى نسيها المرة السابقة!!


كلا، لن أسمح له، لا أريدُ مزيداً من الكوابيس..


لا مجال للتراخي الآن، لا وقت للجبن، للخوف...


لقد بتِ سيدة نفسك يا "غدير"، أنتِ فقط لا الغير...


ميزة جديدة للمطلقة!!


أتاها صوته بعد طولِ صمت، ساخراً، فظاً:


- كيف حالك؟!


رفعت رأسها المُطرق بتحدي....



كان بصره مصوباً نحوها بتمعن، مُحيطاً بحنايا وجهها الشاحب...


- كما تراني...


وانقلبت سحنته فجأة، قال بصوتٍ كظيم:


- تبدين...!!


و صمت وكأنه يكابد شيئاً رابضاً على صدره...


تطلعت إلى عينيه بإستفهام علّها تستشف مغزى حديثه...


ماذا يقصد؟! أتراه يعني ما رآه في الصباح!! أم ماذا؟!!!



ردت بصوتٍ جاهدت ليظلّ ثابتاً:


- أنا حرة و أفعل ما بدا لي!!


- حرّة!! منذُ متى هذا الكلام؟! علق بإزدراء..


قالت ببطء و هي تصرُّ على كلماتها متجاهلةً نبرته:


- منذ الأمس واليوم و غداً..


- يبدو أن غيابي أثر على عقلك!! قال بإستهزاء..


- إذا انهيت كلامك انصرف، لديّ كثير من الأمور لا بد أن أُنهيها..


أمسكها من ذراعها و هو ينظر مباشرةً إلى عينيها...


- يلزمني أكثر من وقحة مثلك كي تملي علي تصرفاتي..


صاحت بإنفعال:


- ابعد يدك عني، أجننت!!


- لماذا؟!


ردت بأنفاسٍ متهدجة:


- أنت... طلقتني!!


- آه نسيت، لكم أنسى أنا ذلك!! و قست ملامحه.


ثم أردف و هو يخاطبها بصوتٍ مصرور:



- شيء جيد فعلاً أن تعرفي الحلال من الحرام!!!!


- ........................


ضغط عليها بقوة و هو يصيح في وجهها:



- ألم يكن ما فعلته حراماً يا زوجتي المصون!!



و تركها....


أخذت تطالعه بمرارة، بألمٍ ارتسم بحدة على محياها...


ضمت ذراعها بيدها الأخرى و هي تطرق للأرض بشجن...


إنه لا يفتأ أن يُلقي عليها الكلمات...


ليست كأي كلمات، إنها رصاصات، رصاصات سرعان ما تنفذ إلى القلب و تدمي روحها...


لم لا تكف عن تعذيبي...


قال بعد برهة بصوتٍ بطيء:


- ثم يبدو أنكِ لا تعرفين!!

- ....................


- أنتِ لا زلتِ في فترة "العدة"..




شيء ما في نبرته جعلتها ترفع رأسها بسرعة، بخوف، بحذرٍ شديد...


- وماذا في ذلك؟! سألته بإضطراب.


- أستطيعُ إرجاعك متى شئت..



تراجعت إلى الوراء و هي تصيح بإرتياع:


- أنت تكذب..


- ما الكاذب إلا أنتِ أيتها الــ...


و سكت فجأة، لكنها لم تصمت بل استمرت في صياحها:



- أجل أنا حقيرة، قذرة كما تريد أن تقول، لم تريد إرجاعي إذن؟!


أجاب بقسوةٍ لاذعة:


- و لازلتِ كذلك بالنسبة لي، و لكن من نعرفه أفضل ممن لا نعرفه، أليس كذلك!!!


طفرت الدموع من عينيها بحرارة و هي تهزُّ رأسها دون تصديق:


- لن أن أعود إليك..


- لم أطلب رأيك، أتفهمين!!


- سأقتل نفسي إن حاولت أن تردني، أتسمع سأقتل نفسي..



- كان من الواجب أن تقتلي نفسك منذُ زمن و ليس الآن يا عزيزتي!!


- أنا أكرهك، لا أريدك، لا أريدك، لا أحد سيجبرني على الرجوع إليك..



- ستعودين رغماً عنكِ و في الوقت الذي أريد..




لم يتبقى إلا ورقة واحدة، حوافها كنصل السكين، لا يهم إن كانت الورقة الرابحة أم الخاسرة، لا مجال الآن للاختيار أو التفكير!!


أخذ صدرها يعلو و يهبط بتثاقل و هي تحاول جر الكلمات لتخرج من ضلوعها، من جوفها المحتقن....


قالت بصوتٍ يرتجف:


- لن أعود إليك، ذاك..ذاك كان يعاملني أفضل منك!!




و ما أن دخلت عبارتها طور الاستيعاب حتى استقرت صفعة قوية على وجهها كادت تطيحها أرضاً...


لكنها لم تصرخ ولم تبكي، بل وضعت يدها على خدها و هي تعضُّ على شفتيها المرتعشتين بقوة....



أمسكها من زندها بقسوة و هو يديرها لتواجهه، لكنها تمتنع عن النظر إليه و جسدها لا يكف عن الاهتزاز...


صرخ في وجهها:


- إياكِ أن تعيدي لي مثل هذا الحديث، إياكِ..


- .......................


- لا أعلم ماذا تريدين أن أفعل بك، أن أسحقك مثلاً، ألا أبقيك حيّة!!


- .........................


صاح و هي تزداد انكماشاً:


- ماذا أفعل بكُ كي أشفي غليلي، أجيبي!!!




أخذت تنتحب بصمت و هي تصرّ على عينيها بخوف...


مدّ يده إلى وجهها فأشاحته بإرتياع، لكنه أجبرها على النظر نحوه....


نظر إلى خدها المعلّم بأصابعه و هو يخاطبها بصوتٍ بائس:


- لم تضطريني إلى فعل أشياء أمقتها و أكره نفسي بسببها..


ثم أردف صارخاً:


- لم كلما حاولتُ نسيانك تراءيتِ لي..


- ..................


- أنتِ.....


وأفلتها دون أن يُكمل!!






==========



كلا، كلا...


و مدت يدها إلى صدغها و هي تلهث...


إنها تشعر بالإختناق، بالضيق، لم تعد تنام مطلقاً، مطلقاً...


الجو هنا حار جداً رغم أزيز المكيف المزعج...


مسحت وجهها المبلل بكم ثوبها...


إنها لا تعلم ما مصدره، كيف تتصببُ عرقاً هكذا....


أنهضت نفسها بصعوبة و هي تشعر بجفاف حاد في حلقها...


سارت حتى المنضدة و أمسكت بزجاجة المياه المعدنية....


رفعتها إلى أعلى و هي تراقب صورتها المنعكسة في المرآة المستديرة....



أسقطت الزجاجة من يدها فجأة و هي تستدير نحو الفراش بذعر...


أخذت تتطلع إلى الراقد بهلع و دقات قلبها في إزدياد...


و كأنه أحسّ بعينين ترصدانه، فتحرك بضيق و بان وجهه...


أسندت جسدها على حافة المنضدة و هي تتنهد بوهن...


يا إلهي ماذا جرى لي!!


مررت أناملها الواهنة على جبينها و هي تنظر لزوجها...


و تذكرت الزجاجة فأخذت تفتش عنها بعينين غائمتين....



ووجدتها!!!



كان الماء قد سال من فوهة الزجاجة دفعةً واحدة...


ضغطت على بطنها بألم و هي تراقب آخر قطرة وجدت طريقها لتلامس سطح الأرض...


هزت رأسها ببطء و هي تخاطب نفسها بإختناق:


أنا لا أريد أن أشرب شيئاً، لا أريد...


لا أعلم ماذا وضع فيه الشيطان!!


قلتُ لكم ابتعدوا عني!!


لا أريدُ شيئاً منكم، لا أريد....



============



فتح الباب الذي أحدث صريراً مرتفعاً منذُ أن لامسه....


كان المكان غارقاً في لجةٍ لا متناهية من الظلمات...


فكّ ربطة عنقه بضيق دون أن يبحث عن زر الإنارة...


و ألقى بنفسه على أقرب أريكة مغمضاً عينيه بتعب...




لمَ ذهبت رغم علمك بوجودها هناك؟!


لتشقي نفسك، لتعذبها كما تعذّبت طوال الشهرين المنصرمين...


كيف لم تمسك نفسك أمامها، تناسيت كل شيء بمجرد رؤيتها فقط...



تناسيت كل شيء و كنت ستقولُ لها:



تبدين فاتنة رغم نحولك، رغم قصة شعرك الصبيانية!!



و ماذا أيضاً، اعترف!!


كنتُ سأقول:


اشتقتُ لكِ كثيراً، كثيراً أيتها الحبيبة الخائنة!!!



ما كان عليّ أن أذهب البتة، لكن أنى لهذا القلب الأحمق أن يستجيب لحديث العقل...


أنهُ لا ينصاع لما آمره به، يأبى إلا أن يسيّرني و يراها....


ما أقسى مرآها، ما أقساه....




و رفع يده بدهشة و هو يحدق في قطرةٍ غادرة فرّت رغماً عنه...


ما هذا!!


دموع!!


أأنا أبكي؟!


أنا "عمر" أبكي؟!


ومن أجل من؟!


من أجل خائنة، كاذبة، بلا أخلاق!!!


تلك التي أودّ خنقها و عناقها في وقتٍ واحد!!!



و نهض من مكانه بضيق علّ الأفكار تبتعد عنه، تهاجر بعيداً، بعيداً و تريحه....


دخل غرفته، كانت هي الأخرى غارقة في الظلام....


تلمس طريقه إلى خزانته، و أخذ يفتش عن ولاعته القديمة بعمر 10 سنين، منذُ أن قطع هذه العادة السيئة!!


لكن الأيام لا تبقي أحداً على حاله، و هو بأمس الحاجة لأن يدخن، علّ دخانها يهدأه أو يصمته!!


و وجدها، وجد ولاعته الذهبية لكن يا للسخرية!!



كانت علبة السجائر قد نفذت!!


جعد العلبة بيديه لكأنه يصبُّ جام غضبه عليها....


ثم عاد ليفتش من جديد، عمّاذا؟!


كان هو لا يدري!!


ربما يجد سجارة مخبئة بعمر ولاعته..


مستحيل؟!!


صدقوني لا يوجد شيء اسمه مستحيل...



و أمسك بشيءٍ ما، ناعم الملمس....




شمــــــعة!!!


و ابتسم بتهكم....


قالت لي: خذها و تمنى أي شيء و سيتحقق!!


و صدقتها، صدقتُ تلك الكاذبة، ولم يتحقق أي شيء....


أتريدين أن تعرفي ماذا تمنيت؟!


تمنيت أن تكوني لي....


أن تحبيني كما أهيمُ بكِ عشقاً...


ما كان علي أن أصدق مثلك!!!


أجيبيني هل أنارت قلبك، هل أشعلته، أم أن اللهيب لم يعرف طريقه إلا إلي؟!!


قولي لي أيتها الخائنة!!!


صه، صه، صه، أبتّ تخاطب الشموع أنت الآخر، أجننت؟!!


إنها لم توجد إلا لتحترق، لتضيء المكان ثم تُلقى في أسفل سافلين كصاحبتها الكاذبة!!!



و أخرج ولاعته....


أشعلها هي بدلاً من السجارة....



و تراقص اللهب بإستحياء فوق تلك الذُبالة، و قد بدد نورها الخافت شيئاً من ظلمة المكان...


اللهب يهتز مع حركة الجسد، يتناغم معه في رقصةٍ سرمدية....


خرج من حجرته و قبل أن يتجاوزها التفت نحو الجانب الآخر...


الصور لا تلبث أن تومض و تنطفئ كبروق سماوية....


في طياتها صور الأمس، كل الأمس...


دفع الباب ببطء لكأنه لا يريد أن يُجفل من بالداخل أو ربما كي يمني نفسه!!!


بأنها لازالت هنا، لازالت تختبأ عنه...


وانفتح الباب على مصراعيه...


لم تكن هناك!!!


لا وجود لها...


أنسيت، لم تعد تعيش معك، لن ترى وجهها من جديد، لن تسمع صوتها...


كنت تكذب عليها أنت الآخر...


أنت لن تعيدها إلى عصمتك أبداً!!


أتقوى على الموت في اليوم ألف مرّة!!!


كانت حُجة، مجرد حجة لتملأ عينيك بها، و ليُناغي صوتها أذناك للمرة الأخيرة فقط..


و جال ببصره المتعب حول المكان...


ثيابها متناثرة في كل زاوية بإهمال...


لم تأخذ شيئاً...


إنها تأبى إلا أن تذكره بها...


أنها تعذبه دوماً في وجودها و غيابها...


أجيبوني كيف أنساها بالله عليكم، كيف!!!


و اقترب نحو السرير الخالي و هو يضع الشمــــــعة بجوار "الأباجورة"....


و أحسّ بشيٍ صلب!!!




.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.



آن للطبول أن تدق..


لتعلن بداية النهاية...


في بدايتي نهايتي


أم في نهايتي بدايتي!!!


لطالما راودني هذا السؤال دون أجد له إجابة...


الحياة تبدو هكذا لي كحلقة مفرغة لا بداية لها و لا نهاية...


و الأيام دول، أليس كذلك؟!



عمــــر و غدير....


شيماء و ناصر...


ندى و المدير....



علاقات تشهدون ختامها مسطورة في الجزء الأخير...


من قصتنا "أشعلتُ لك شمعــــــة"...... 

أشعلت لقلبك شمعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن