وعد تحت ضوء القمر

66 9 7
                                    

هناك بشر بأرواح مرهفة غاية في الجمال نحن محرومين منهم !!!، اشخاص في غاية اللطافة يمتلؤون بالعاطفة الجياشة !، لا ترى منهم سوى الحب والعفوية والمودة المعدية !!. نصادفهم في كثير من الأحيان ولكننا لا نحظى بمتعة صحبتهم ومشاركتهم !.. بسبب تلك الحواجز التي صنعوها لحماية ارواحهم الرقيقة حد الهشاشة من التحطم !!!. حواجز وهمية لا وجود لها على ارض الواقع !!، ابتدعوها ... ومع الوقت بدأت عقولهم بتحويل هذه الحواجز الوهمية إلى حقيقة فاصبحوا يعيشون خلفها مخفين عنا جمالهم الكامن وروعة حضورهم ومدى اهتمامهم ومراعاتهم لمشاعر الاخرين .. جدران .. اسوار .. فقاعات .. حواجز !! سمها ماشئت .. تلك الدروع في الحقيقة لها أسماء !!، ونحن ننطق بهذه الأسماء كثيرا في حياتنا اليومية .... نعم ، نسمي هذه الدروع  بالخجل !، الخوف من الاحكام !، الانطباعات !، المثالية ، النهايات المحرجة ، ورأي الاخرين !.. هذه الأشياء هي الدافع الأول لأصحاب الأرواح المرهفة للأحتماء خلف تلك الدروع لأنهم ـــــــ يخافون من الألم !!، اجل ... ولا اقصد هنا الألم الجسدي فقط !، بل الألم الروحي أيضا ... وكلامهما سيء ... ولكن !!، هناك أمر يحيرني اريد قوله ؟!! ... ألسنا مخلوقات تعيش على كوكب كل شيء يبدأ فيه بألم ؟!!.... الام تشعر بالالم عندما تلد طفلها .. والطفل يخرج من بطن امه باكيا .. والمتخرج قد ترك خلفه أياما طويلة من المعاناة والالم النفسي !، والرياضي تمرن حتى صرخت مفاصلة من الألم قبل ان يصل خط النهاية أولا .. كل شيء حولنا الألم من مكوناته الرئيسية ؟!!!... الخوف من ألم الرفض !، الخوف من الم الاحراج !.. الخوف من الم النظرات الحارقة !.. الخوف من الفشل !.. الخوف من ألم تخييب الظن !.. الخوف الخوف الخوف ... ولكن ألم يخبرونا في المدارس بأننا لسنا مخلوقات مثالية ؟!.. السنا بشر نخطئ ونصيب ؟!.. لماذا اذا هذا الخوف ؟!.. ولماذا نظن بأننا كائنات مثالية لانخطئ ؟!.. أوليس الألم هو أول خطوة للتعلم ؟!!. فلماذا نخاف منه يا ترى ؟!!.. وهل هناك طريقة لتفاديه ؟!...

تركت البحيرة وتلك التساؤلات تعصف بي بشكل مزعج !!......
دعوني أعود بالوقت قليلا حتى تفهموا ما الذي حدث عند البحيرة وكيف وصلت إلى هناك !!!....
انتهت الكارثة في نادي الملاكمة ولكن توابعها نالت منا جميعا ... دفع أولياء امورنا انا وساره وضياء وإسلام وهيام  ثمن ما تحطم في النادي كتعويض لمالكه .. نحن من افتعلنا الشجار .. تفرقنا عند باب مركز الشرطة ولا اعلم ما الذي حدث لكل واحد من المجموعه .. كاد ابي ان ينفجر من الغضب في طريق عودتنا ... لا ألومه !، قد دفع مبلغا وقدره !!.. لم اكن افكر ولا أتطلع اثناء جلوسي في السيارة إلا للبقاء حيا في ذلك اليوم والخروج بأقل الاضرار من غضب ابي ثم امي .... ولكن !... كانت ردة فعلهم غريبة بعض الشيء ؟!!، لا صراخ ولا عقاب ... دعوني للصالة .. ثم قال ابي لي ( لقد قررنا ارسالك لمخيم لتعديل السلوك والمساعدة على الاندماج ) ... ان كان هذا يعني انه لا صراخ ولا عقاب فأنا اكثر من سعيد للذهاب ... وهذا ما حدث .. ارسلوني لمخيم يقع في الغابة الملاصقة لمدينتنا ، المخيم مدته ثلاثة أيام .. والهدف منه مساعدة الاخرين على التواصل والاندماج بمن حولهم وأيضا تقويم السلوك !.... مجرد ترهات ليجعلونا آلات بشرية نشبه بعضنا البعض منزوعي الروح والافكار !، حتى تسهل عليهم مهمة السيطرة علينا في المستقبل ...

المخيم كان عبارة عن اكواخ قش في وسط الغابة وبقربها مطبخ كبير مشترك ... تحيطه أشجار كثيفة !، صوت الطيور يملأ المكان !، فصل خارجي في الهواء الطلق بلوحة كبيرة وكراسي من جذع الأشجار المقطعة .. ومجموعة من المعلمين والمعلمات بسراويل قصيرة تبدوا عليهم في غاية القبح !!.
انتهى اليوم الطويل ... محاضرات ، نشاطات اجتماعية ، اعداد وجبات الطعام .. وأخيرا واكثر ما اكره !!.... السير  ... السير لمسافات طويلة بين الأشجار بلا سبب سوى التقاط طاقة الغابة الإيجابية كما يدعون أولئك المنجمين ... يا إلهي !!!!. حل الظلام وعدنا إلى الاكواخ مرهقين لا نفكر إلا في النوم ... انساني التعب عادة سيئة املكها !، انا أصاب بالارق ان نمت خارج البيت !!، وهذا ما حدث ... غط الجميع في نوم عميق وانا مازلت اتقلب واصارع البعوض المزعج الذي لا ينفك عن الشرب من دمائي ؟!!، خرجت مسرعا من الكوخ لأتمشى على امل ان اتعب اكثر فيرغم جسدي عقلي الذي لا يتوقف عن التفكير على النوم ... سلكت طريقا آخر لكي أرى مناظر لم ارها في النهار ... تلونت السماء فوقي بلون غريب من الأزرق المسود !!، ترصعها نجوم تتوهج وقمر مكتمل يتباهى بجماله المنير في الوسط !!!. يا إلهي !!، انها لوحة خلابة تشرح القلب .. أكملت سيري بين الأشجار الكثيفة والتي بثت في نفسي شيئا من التوتر والخوف .. وما ان تجاوزت الأشجار حتى ظهرت امامي فتاة !!... نعم !، فتاة تجلس على طرف بحيرة صغيرة بشعر اسود طويل امتزج بالظلام ليصبح قطعة من الليل !، انعكس عليها ضوء القمر فانار وجهها الملائكي وهي تلهو بقدميها في مياه البحيرة !!!.. خيالي الجامح انطلق يضع لي الاحتمالات !!، قد تكون جنية جميلة !!، او ربما حارسة الغابة .. ربما هي اميرة ضائعه ؟!!... نظرت من حولي ... وجدت اكواخ بالقرب منها ، ربما هي اكواخ البنات ... اذا ، انها بشرية مثلي !!، سحقا لي !....

فزت الفتاة وقفزت في مكانها على صوت الغصن الذي دهسته وانا أحاول الاقتراب منها وانكسر !!، رأتني وبدا وكأنها رأت شبحا ... استدركت نفسها ثم قالت بقلق شديد :

_ انا آسفه ، لم اقصد ازعاجك .. لم استطع النوم فاتيت إلى هنا ...

قاطعتها قبل ان تكمل :

_ لا داعي للتأسف .. انا من تطفل عليك ... اعذريني ... افعل ما يحلو لك فأنا هنا مثلك .. لا تقلقي ... لن اشي بك ...

خلعت حذائي وجلست علي طرف البحيرة واغرقت قدماي في الماء كما كانت تفعل ... شعور جميل وهادئ !!، اظن بأنني سأنام في اية لحظة مع هذا الاسترخاء الذي ينبعث من هنا !!!... جلست الفتاة وطأطأت رأسها لتنسل خصلة من شعرها الطويل إلى الأسفل ... اعادت الخصلة خلف اذنها فبان لي وجه غير سعيد ؟!! ما بالها يا ترى .. لا اظن بأنها مجرمة مثلي ... مستحيل ان اصدق بأن فتاة رقيقة كهذه قد تفتعل شجارا مثلا او تعتدي على احد !!، قلت متسائلا :

_ ما الذي احضرك هنا ... إلى قفص المشاغبين ؟!!...

نظرت إلي متعجبة للحظة !، ثم بدأت بالضحك وهي تغطي فمها بيدها !، ثم وقالت :

_ يظن والدي بأني انعزالية !، وبحاجة لتعلم مهارات التواصل مع الاخرين والانخراط مع البقية وكسب الأصدقاء ( بدأت بتمرير قدميها بالمياه ) انا لا انكر بأني خجولة وضعيفة ... ولكنني ... أحاول ، احاو....

قاطعتها مسرعا :

_ انا لا املك أصدقاء أيضا .. ولا احد ، ولا حتى حيوان إليف .. اهلي يظنون بأنني ساصبح قاتلا متسلسلا عندما اكبر من شدة عزلتي ؟!!.

_ حقا !!،

_ ولما تظنين بأني هنا اذا ؟!!

احتضنت قدماها ثم نظرت للقمر بعينان واسعتان مملوءتان بالرجاء ، عادت إلي وقالت :

_ انا احب تكوين الصداقات ، ولكنني ... أتمنى ان اقدر على التصرف كما اريد دون خجل أو خوف .. أتمنى ان امازح الاخرين .. وان اشاغب واقوم بأمور سخيفة !!، ولكن شيئا ما يمنعني في كل مرة .. فابدوا للآخرين وكأنني صنم بلا مشاعر والحقيقة هي عكس ما يظنون !!!. اشعر بالتعاسة عندما افكر بهذه الأمور ... انا .... اكره نفسي ...

عادت لتنظر امامها .. لمحت دمعة تسللت من طرف عينها :

_ انا آسفة .. ازعجتك بالحديث عن نفسي ...

سادت لحظة من الصمت ولا ادري كيف دخلت في دوامة عميقة من التفكير العميق في محاولة لفهم ما قالته .... هبت نسمة باردة على البحيرة لفحت أوراق الأشجار واجسادنا .... لم استطع تركها رغم ان هذا افضل ما قد افعله في موقف كهذا ... طرأ في بالي سؤال كنت بحاجة لمعرفة جوابه !!، فقلت لها :

_ ما هو هذا الشيء الذي يمنعك ؟!! ايمكنك اخباري ؟!...

نظرت إلي متعجبة سؤالي !!، سندت وجهها بكفيها تحدق في البحيرة .. ثم قالت :

_ اظن انه الألم ... ( نظرت إلي بعينان خائفتان ) انا أخاف من الألم ...

_ الألم !!!.

_ اجل ، انا أخاف من الألم .. ألم سخرية الاخرين منك ، ألم الفراق ، ألم تخييب الظن ، ألم الفشل !... الألم ليس جسديا فقط .. بل هناك ألم آخر اقوى منه ... ألم الروح ... كلمة واحدة .... او نظرة !! قد تترك لك ألما يدوم معك لسنين .. هذا ما أخاف منه .. وهذا ما يجمدني في كل مرة احاول ان أعيش حياتي كما اريد ....

تركتها هناك وعدت إلى الكوخ كما قلت لكم في البداية وتلك التساؤلات تعصف بي بشكل مزعج !!......

( وعد )

لم استطع منع نفسي عن العودة للفتاة .. لا ادري ما الذي اريده ولكنني اعلم جيدا ما اريد قوله لها ... ارجو الله ان ألحق بها قبل ان تعود لكوخها وإلا سيقتلني الانتظار إلى الغد !!. لمحتها وهي على بعد خطوات من كوخ البنات فصرخت مناديا عليها ... تجمدت في مكانها عندما رأتني اركض بأسرع ما يمكن باتجاهها !!، التقطت انفاسي ثم قلت :


_ اعلم بأن الألم سيء !... ولكن هناك أشياء تستحق التألم من اجلها .. نحن نعيش في نفس المدينة .. انا متأكد بأن القدر سيجمعنا مرة أخرى .. وعندها سأكون قد وجدت طريقة لأثبت لك بأن هناك أشياء جميلة تستحق التألم من اجلها ......


مراهقة بطعم الحب الأسود !.. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن