قطرات الندى

51 9 3
                                    



مال شعرها بتموج يشبه أمواج البحر عندما انحنت لتجلس ، قدمت المقعد بيدها حتى التصقت بالطاولة !، خصلات من شعرها تسللت اثناء جلوسها فاعادتها لخلف اذنها ، استرقت نظرة متفحصة بعيناها الواسعتان للمكان ثم اخفضت نظرها وكأنها تحاول تجنب التواصل مع الاخرين !، مازلت مسحة الحزن تعلو وجهها ، لم تتغير تعابيرها منذ آخر مرة رأيتها عند البركة في الغابة ... مرت عدة دقائق وانا اراقبها من خلف صندوق المحاسبة في مقهى المدرسة !، تعجبت لأمرها ؟!!، لم ينتبه لها احد من زملائي ولكنها رغم ذلك لم تحرك ساكنا أو تنادي على ساره وهي المسؤولة عن اخذ الطلبات ؟!!، هل هي محرجة ؟!!، كلا !، لا اظن ذلك ، من قد يحرج من مناداة النادل ؟!!.
لم استطع ابعاد نظري عنها حتى بعد مرور عشرون دقيقة منذ ان جلست هناك !، كان توترها يزداد مع الوقت وأصبحت تتلفت باستمرار وكأنها تظن بأن كل العيون هنا مسلطة عليها !!، امسكت بحقيبتها التي تركتها على الأرض بجانب قدمها استعدادا للذهاب فهرعت إليها مسرعا .... امسكت حقيبتها من الخلف قبل ان تصل الباب ، استدارت نحوي متفاجئة وقد ملأها الخوف .... عندما وقعت عيناي على وجهها اصبت بالدهشة للحظات وتجمد لساني تماما !!، كانت عيناها متورمتان وكأنها خرجت من نوبة بكاء شديدة قبل ان تدخل المقهى ... نظرت حولها بحرج شديد ثم قالت بصوت منخفض :

_ ارجوك اترك حقيبتي !!!.

_ آه !، انا اسف .. حقا اسف .. اعتذر ...

ابتسمت لي ابتسامة مصطنعة سببها توترها الواضح فيما كانت شفتها ترتجف !!، همت بالخروج فقلت مسرعا :

_ نسيت ان اسألك عن اسمك تلك الليلة ؟!!.

_ ندى ( استدارت نحوي واكملت مبتسمة ) اسمي ندى ...

_ لماذا كنت تبكين يا ندى ؟!!

_ ها !!! انا !!، لم ( اشاحت بنظرها بعيدا عني ) انت مخطئ ... لم اكن ابكي ...

_ هيا عودي معي سأشتري لك كوب قهوة وتخبريني بما يزعجك ...

_ كلا تأخر الوقت ...

_ هيا ، خمس دقائق لن تأثر ..

عدنا للطاولة وهي تحاول الانسحاب بخجل والعودة لمنزلها ولكنني اصريت عليها حتى جلسنا ...
كانت تداعب كوب القهوة بأناملها متجنبة النظر إلي او الحديث ، تقرع الأرض بحذائها الأبيض المزين بخط زهري طويل ، لم اجد ما أقوله لها ولست خبيرا في فتح حوارات .. انا انطوائي متشدد !!، ولكن ضياء انقذني عندما أتى ليقطع لحظات الصمت المحرجة قائلا :

_ لقد بحثت عنك في كل مكان !!، انها ساعة الذروة هيا احتاجك معي ( نظر لندى ثم عاد إلي مبتسما ) آه !، لم انتبه .. انت مع صديقتك ، لا بأس قد اصمد لساعة أخرى دونك .. لا تتأخر ...

_ ليس كذلك ، بل !!، آه ... حسنا ...

اضطربت ندى وقررت أخيرا ان ترفع رأسها وتنظر إلي فور ان ذهب ضياء !، ظهرت على خديها غمازتان غير واضحتان ... وبعد تأمل قصير منها قالت :

_ انا محرجة .. اريد الخروج من هنا .... الجميع ينظر إلينا ..
_ الجميع ؟!! لا احد ينظر إلينا ندى !...

_ لا ادري ، ولكني اشعر هكذا ... اصبح الألم لا يطاق يا آدم .. ارجوك دعني اذهب ...

غادرت المقهى راكضة وانا مازلت اجلس مصدوما ولا افهم شيء ، لمحت حقيبتها .. لقد نستها !!، حملت الحقيبه لألحق بندى واذا بورقة بيضاء تسقط من الحقيبة ... انحيت لالتقاط الورقة واذا بي اقرأ ما هو مكتوب عليها .

 (( 1 _ توديع ابي وامي بطريقة عادية حتى لا يقلقا .
 2 _ شراء المثلجات وتناولها على الشاطئ .
 3 _ مشاهدة فلم في السينما .
 4 _ اطعام الطيور في ساحاة المدينة .
 5 _ التجول ليلا وربما احتساء كوب من القهوة في احد المقاهي .
6 _ الجسر . ))

وجدت نفسي اركض في الطرقات ليلا متوجها للجسر .. اعتقد بأنها الامنيات الأخيرة لندى قبل ان تقدم على الانتحار !!؛ هذا ما فهمته من الورقة ، كلا ! كلا !!، يجب ان اصل إليها قبل ان .... !!، يا إلهي !، ما الذي ورطت نفسي فيه ... كنت مرتعبا وقلبي يضرب بسرعة وانا اتجاوز المارة واتفادهم كنت ابحث يائسا عن ندى ، كنت كشخص أضاع ابرة عزيزة على قلبه في كومة قش !!، المدينة كبيرة وهناك عدة طرق تؤدي للجسر لا طريق واحدة من المقهى !!، أي طريق سلكت يا ترى ... هذا يفسر سبب بكاءها ... انها تتألم .. اشعر بذلك .. ولكن هذا لا يعني ان تنهي حياتها .... يا إلهي !!، يجب ان اصل لها قبل ان تقوم بعمل مجنون !، هذه كارثه ....
لمحت ندى تقف عند الإشارة منتظرة العبور ... كان كل شيء يدعو للتشاؤم .. الظلام .. شعرها المتطاير مع الرياح القوية !، البرودة القارسة !، خلو الشارع هذا بالذات من المارة ؟!!.. كل شيء هنا يدعوا للتشاؤم .. امسكت يدها بقوة ثم جذبتها نحوي :

_ ايتها المجنونة !!، ما الذي تفكرين فيه ؟! اتريدين القفز من الجسر !، اتريدين ان تنتحري يا ندى ؟!!.

_ افلت يدي .

_ كلا لن اتركك لتذهبي إلى الجسر لقد قرأت الورقة يا ندى ..

_ افلت يدي .

انار ضوء الاشارة الأحمر وجه ندى فبانت شفتيها الصغيرة المقوسة للأسفل !، حدقت بي لبرهة !، سالت دموعها !، تنهدت في محاولة منها لكبت بكاءها :

_ افلت يدي يا ادم .. انت تؤلمني ..

_ كلا ...

_ انا اتألم يا ادم !، اتألم من كل شيء !!، امقت حياتي ... امقت نفسي .. انا اختنق يا ادم .. اريد ان امزق هذا الجسد لأخرج منه .. لم اعد احتمله .. لم اعد احتمل الحياة بحد ذاتها !!، لا اجد السعادة ، بحثت عنها في كل مكان ؟!!، ولكني ببساطة ... لم اجدها ... اشعر بالعزلة .. اتدري قسوة هذا الشعور ؟!، ان تجد نفسك وحيدا في مواجهة عالم شاسع مليئ بالشر والخبث والمكائد .. اتعلم كم هو صعب ان لا تجد حضنا تبكي عليه ؟! ان تبقى تحدق في سقف غرفتك لساعات وانت تتساءل عن مدى الجدوى من تحمل هذه الحياة وما الجدوى من الاستمرار فيها ؟!!، انا اشعر بالوحدة حتى وان كنت محاطة بالعديد من الأشخاص .. هذا هو اعلى مستويات الوحدة واصعبها ، وانا أعيش في هذا المستوى من الوحدة منذ وعيت الحياة يا ادم ... انا سبب تعاسة والداي .. انا اقتلهم في كل يوم !!، اجل .. هم تعساء لانهم يعرفون بأني تعيسة أيضا ولا يملكون مساعدتي في شيء رغم انهم لم يتوقفوا يوما .. لا احتمل العيش مع هذا الذنب يا ادم .. اصبح الوقت بطيئا جدا والعذاب ثقيل .. اتركني يدي ارجوك ... اتركني لأذهب ... لم اعد احتمل .....


انسلت يدها الصغيرة من يدي !!، لا اعرف ان كنت انا من تركها ام انها استطاعت تخليص نفسها مني !!، ركضت ندى تعبر الشارع وشعرها الأسود الطويل يتطاير على كتفيها ، كانت محكمة قبضة يديها .. شاهدتها وهي تبتعد !!، شاهدتها وهي تركض نحو الجسر .. تركض نحو موتها !!.. سمعت مكابح سيارة بالقرب منا !، كان ضوء السيارة شديد الانارة ، اغمضت عيناي !، صوت اصطدام قوي ... وبعده باجزاء من الثانية .. رايت حذاء ابيض بخط زهري طويل يتدحرج امامي على الشارع ....

(( بقيت ندى تهرب من الألم طوال حياتها .. ولكن الألم لم يكن يذهب لمكان !!، بل بقي يتجمع ويكبر كل هذه السنين !... وحين لاحت له الفرصة انقض عليها بكل قوته  ))

يتبع ....


مراهقة بطعم الحب الأسود !.. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن