سراب ( الرحلة ٢ )

50 8 5
                                    

افزعني المنظر عندما اقتربت من المخيم !، أشارت لي المعلمة بيدها فذهبت إليها وبدى لي أنها تنتظرني ، اصابني توتر جعل معدتي تتقلب كسعدان مشاغب !، يتجمع كثير من المشرفين وبعض الطلاب حول الخيمة الرئيسية ( الإدارة ) حيث تقف معلمتي !، والجميع يحدق فيّ  وبعضهم يهمس بخفة في اذن صاحبه !.

داخل الخيمة

يجلس مدير المخيم على مكتب صغير وعيناه مثبتتان علي يتفحصني من الأعلى للأسفل بتمعن !، امرأتان ورجل يقفان معي ويبدوان انهم معلمين من مدارس أخرى ، لمحت لؤي متقوقعا على نفسه مطأطأ رأسه في زاوية من الخيمة تداعب رأسه بعطف امرأة ترتدي ثياب لا تنتمي لمن هم قائمين على المخيم ، ربما تكون أمه . نهض المدير ثم شبك يداه خلف ظهره وتقدم نحوي ، وضع يده على كتفي ثم قال بصوت لطيف وكأنه يحاول اخباري بأن كل شيء على مايرام :

_ هل حقا أجبرت لؤي على البقاء معك ؟!

_ أنا ؟!!... ( قاطعني لؤي صارخا )

_ نعم ، لقد قال لي أني لو لم استمع له وابقى ... فسوف يغرقني في البركة ، كنت اريد العودة للمخيم حتى لا تغضب المعلمة ( مريم ) علي ولكنني خفت منه ... 

بنبرة غاضبة قالت المرأة بجانب لؤي :

_ هل هددت ابني فعلا وخوفته .

تدخل المدير وقال بلطف حتى يخفف من حدة الموقف :

_ انتظري قليلا يا سيدتي !، دعينا نسمع منه أولا !، ولا حاجة لنا لنفقد اعصابنا الآن . لقد اخبرتك قبل قليل ، يجب ان نستمع لآدم أولا . فابنك ما زال صغيرا وربما قد اهمل بعض التفاصيل .

اتجهت الأنظار كلها لي ، فقلت وانا مازلت لا ادري ما الذي يحدث :

_ ما هذا الهراء ؟!!. أنا هددته ؟! كيف لكم ان تصدقوا كلاما... ( قاطعني لؤي مرة أخرى ) .

_ اترين يا أمي ؟!!، سيقولون بأني كاذب الآن ، تماما كما يحدث في كل مرة !، انا لا اكذب يا أمي ، لقد أخافني وهددني بإلقاء في البركة فخفت وبقيت معه لاني لا استطيع السباحة .

نظرت إلي والدته بغضب :

_ أيها الوحش !، كيف لك ان تفزع ابني المسكين ؟!.

قالت احدى المعلمات مسرعة :

_ يا سيدتي ، ربما تكوني مخطئة !، ابنك يغير الحقيقة في كثير من الأحيان ولقد تحدثنا في هذا الامر في المدرسة كثيرا كما تعلمين ، وانت تعلمين جيدا كم مرة اتضح ان لؤي يغير الحقيقة حتى يفلت من العقاب ، اعطي الفتى فرصة ليدافع عن نفسه .

هدأت والدة لؤي فجأة !، وكأن كلام المعلمة قد اقنعها ، اردت الدفاع عن نفسي واثبات براءتي ، اردت اخبارهم بأن شروق عندما وجدتنا لم اكن ممسكا بلؤي من تلابيب قميصة أو اكن مكتفا إياه بحبل ما !، بل كان يلعب بحرية تامة ، ولكن ... ولكن ما رأيته جعلني امتنع !!، عندما امسك بثياب أمه ونظر لها بعينان يائستان وكأنه يطلب النجدة !، وبدأ يبحث عن أحد في الخيمة ليصدقه ، ولكنه ايقن أن لا احد هنا يصدقه فبدأ في البكاء ... وليس أي بكاء !!، شعرت بأنه يرغب بشكل مستميت ان يصدقه أحد وان لا يظهر كاذبا مرة أخرى وبالذات وامه تقف بجانبه !!، وما جعلني احسم قراري ... تلك النظرة التي رمقني إياها لأول مرة بعد ان تفاداني منذ دخلت الخيمة ، طلب مني المساعدة !!، نظراته تلك كانت تستنجد وتطلب مني المساعدة حتى لا يظهر امام امه كاذبا رغم اني غريمه الآن !!. جثت والدته على ركبتيها حتى أصبحت على مستوى ابنها ثم امسكت يداه بلطف وهي تهز رأسها بشيء من الحسرة وقالت :

_ ألم نتفق يا ابني على ان لا نقول إلا الحقيقة ؟.

_ ولكن يا أمي انا لا اكذب...

قاطعته قبل ان يكمل :

_ حسنا .. حسنا ، لقد حصل سوء تفاهم ، نعم !، انا لم اجبره على البقاء بل اصريت عليه فقط !، ويبدوا انه ظن أني اجبره فخاف ، ومن شدة خوفه عندما قلت له بأننا نستطيع السباحة فيها أيضا ، ظن اني اهدده ، لقد كانت البركة جميلة وودت لو يشاركني لؤي اللعب هناك . هذا كل مافي الامر .

اعتدلت والدة لؤى وعيناها تقدحا شرا !، ولم تكن هي فقط من تحولت من حال إلى حال فكل من حولي اتسعت عيونهم على آخرها من الصدمة ، صرخت والدة لؤي في وجهي :

_ ستنال عقابك أيها المجرم ، لن اتركك حتى تتعفن في السجن ، ساتصل حالا في الشرطة .

هرعت معلمتي إليها وقالت بتوتر :

_ لا داعي يا سيدتي !، بإمكاننا حل المسألة هنا دون الحاجة لإستدعاء الشرطة .

دائما هناك خطة بديلة

شرطة !!، عمت الفوضى ارجاء الخيمة فيما انا متسمرٌ في مكاني كالابله من الدهشة !!، لمحت الباب بطرف عيني ، خلاصي يكمن في الباب !، ولكن ... اخخ !، أيها المغفل الشرطة في طريقها إليك !، انطلقت مستغلا إلتهاء الجميع وبكل قوتي نحو الباب ثم خرجت اسابق الرياح ، رآني البعض ولكن لم يلحقني احد ، وما هي إلا عدة امتار حتى اختفيت عن الأنظار بفضل الظلام وكثافة الأشجار .
مر على هروبي عدة ساعات قضيتها متجولا بين الأشجار ، شعرت بحمل ثقيل يربض على صدري من الحسرة واليأس !، نما مع الوقت إحساس مزعج بأنها نهايتي ، سأجلب العار لعائلتي عندما تلقي الشرطة القبض علي وتزجني في السجن ، أي خذلان سيعيش معه والديّ ؟!! يا إلهي !، ما الذي فعلته بحق السماء ؟!. بدأت قدماي بالتشنجع من التعب وبالكاد يداي تبعد اغصان الأشجار عن طريقي ، خارت قواي وكنت بحاجة ماسة للماء ومكان لا تصل إليه الأنظار لكي انال فيه قسطا من الراحة ، وفيما انا اسير منهكا شعرت بالرطوبة تتسلل إلى حذائي !، نظرت للاسفل واذا انا اسير فوق جدول مياه صغير جدا ، تبعته لعلي اجد اين يصب لاشرب منه واغتسل ، وبعد عدة دقائق مرت كالساعات وجدت نفسي امام البركة التي قضيت النهار بأكمله عندها برفقة لؤي !!. هه !، سخرية القدر ، حملتني قدماي إلى المكان الذي تسبب في نهاية حياتي !، ولكنني لا امانع مادام فيه مياه !!.
ألقيت قميصي فقط واكملت السير حتى غطت المياه خصري ، شربت من البركة غير مكترث لما يعيش فيها ثم انخفضت حتى طمرت رأسي المياه ، كتمت انفاسي وبقيت في الأسفل .. كانت لحظة خيالية رغم انها لم تتجاوز الثواني ، الظلام يحيطني ولا اسمع سوى ذبذبات المياه ، لا شيء من صخب الحياه !، هدووء تام !، هدوء شل عقلي فتوقف عن التفكير تماما ، كانت الأرض تغني فقط ولاشيء آخر !، لها لحن ثابت وجميل لا يتوقف ، يا لها من راحة تلك التي شعرت بها اثناء غطستي القصيرة في البركة ، ولكن وكما تعرفون ... لاشيء يدوم ، نفذ الهواء واصرت على رئتاي الخروج لملئها بالهواء . اللعنه !، اللعنه ، اللعنه . أخرجت رأسي من المياه واخذت نفسا عميقا ثم مسحت عيناي من المياه وعندما فتحت عيناي رأيت ندى تقف على طرف البركة المقابل لي !، كاد قلبي يتوقف من الخوف ولولا ان سيطرت على نفسي لكنت صرخت فزعا بأعلى صوتي !!.
اسرعت بإحراج شديد نحو ندى ، وما ان خرجت من البركة واقتربت منها قالت وعلامات الدهشة واضحة على وجهها :

_ آدم ما الذي تفعله هنا ؟! ولما هربت من المخيم ؟! وهل ما يقولونه صحيح ؟! لحظة !!، لما انت في البركة ؟!.

_ اهدئي قليلا ندى !، لقد سألت مئة سؤال في لحظة !!. ولكن !، كيف وجدتيني ؟! يا إلهي !، لا تقولي انك جئت مع احد آخر ، هل رجال الشرطة قادمين خلفك ؟!

_ كلا أيها الاحمق ، لقد جئت لوحدي ، يبدو انك لم تتذكر هذا المكان ؟!.

نظرت حولي في محاولة لتنشيط ذاكرتي وفجأة تذكرت :
_ انها نفس البركة التي قابلتك فيها اول مرة !!!.

مالت برأسها مبتسمة :

_ أجل .

جلسنا على ضفة البركة يقابلنا قرص البدر المكتمل في كبد السماء المزينة بالنجوم ، كان جميلا كما في تلك الليلة تماما رغم انه يبدوا اكثر قربا واكبر حجما هذه المرة !، انعكس ضوءه على صفحة مياه البركة المتراقصة ليظهر امامي سرب من الحشرات يحلق قريبا من المياه التي شربت منها قبل وقت قليل ، شعرت بالغثيان عندما رأيت اسراب الحشرات على سطح البركة فاستدرت انظر لندى التي كانت غارقة في تأمل الأفق المنير أمامها بضوء القمر القريب ، شعرت براحة نفسية جعلتني اخرج كل ما كان يقبض على صدري من مشاعر مزعجة بسبب الحادثة على شكل تنهيدة عميقة ، انها تبتسم ولإبتسامتها سحر يجذبك ويحثك على الابتسام معها أيضا !!، لا ادري من اين غمرتني هذه الراحة ؟! ولكن انا متأكد ان سببها وجود ندى ، ولكن هل يكمن السر في ابتسامتها أم ان راحتي نابعة من ادراك أني احظى برفقة في هذا الوقت الصعب من حياتي ؟ لا ادري !....
احتضنت ندى قدميها ثم خبأت وجهها خلفهما بطريقة لطيفة ، لحظات ثم قالت وعيناها مثبتتان إلى الامام :

_ لماذا هربت يا آدم ؟!

_ آه !، هربت خوفا من ان اقضي بقية حياتي في زنزانة .

_ لقد اخبرتني شروق انك اعترفت بتهديدك لؤي ولكن بطريقة غير مباشرة (اعتدلت ونظرت إلي بعينان مملوءتان بالجدية ) انا لا اصدق انك قد تفعل شيئا شريرا كهذا !.

_ بالطبع لم افعل !!، لا يمكن ان أقوم بشيء كهذا !!، كنت اريد اخبارهم يا ندى ولكنني لم استطع !، عندما رمقني لؤي بتلك النظرة ، لم استطع !، لم اقدر !، كنت اريد ان اتحدث ولكن ... ولكن ... ( شعرت برطوبة غريبة في عيناي ) ولكن كل ما اريده هو حياة بسيطة يا ندى !!، اريد شيئا حقيقيا لا وهم فيه ؟ هذا فقط ما اريده !، كل ما اراه حولي هو أوهام وادعاءات وعلاقات مزيفة تربطها المصلحة !، انا اريد فقط ان أعيش !، اريد ان أعيش بسلام وبصدق !، اهذا شيء كثير لأطلبه ؟! لست شخصا سيئا !، ولست شريرا ولكنني ابحث عن الحقيقة ، ابحث عن المعنى ، انا لا أرى حولي سوى السراب ، لن اقبل بأن أعيش مدعيا ان السراب حقيقة حتى لو كان المقابل ان يحدث لي ما يحدث الآن ، لن أقول عن السراب حقيقة ، ولكن الحياة بهذه الطريقة صعبة يا ندى !، صعبة جدا !، ومؤلمة ، ليتني كنت كالبقية اظن ان ما نعيشه هو الحقيقة ، ولكن ليس هذا ما اراه ( بدأت دموعي تجري على وجهي ) كل ما اريده هو حياة بسيطة لا أخاف فيها من ان يكون من امامي كاذبا او محتالا او يدعي مودته لي ، كل ما اريده حياة مبنية على الصدق والحقيقة لا السراب . هل هذا كثير لأطلبه ؟! ...

ارغمني البكاء على الصمت والتوقف ، لا ادري ما الذي اصابني ؟!، ولكني شعرت بأني امام سيل جارف لاقوة لي به فاستسلمت للبكاء !، انحيت لأمام حتى اقتربت من الأرض وكأنني ابحث عن حضن أمنا الأرض !، شعرت بيد ندى تستقر على ظهري ، انسلت خصلات شعرها الأسود الحريري من خلف رأسي ، احاطتني بيدها ، ثم تركت وجهها حتى ربض بلطف على رأسي من الخلف .....

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Aug 13, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

مراهقة بطعم الحب الأسود !.. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن