الهيام: الجنون الخالص في الحب.
نمحو عقولنا ونتحول إلى مجاذيب، نعشق القرب، بل نُدمنه حتى لو كان يقتلنا، فالموت حينها أرحم من الفراق.
الفصل الثاني والعشرون
ارتدى خالد نظارته السوداء وخرج من المكتب متجهًا إلى السيارة، استوقفته رسالة على هاتفه، مشهد لنور وهي تبكي وتقبل يد ياسر وقدمه كي لا يتركها، تطلب منه أن يأخذ مبلغًا من المال ليبقى معها، وهو مصمم على الرحيل بحجة أنه لا يستحق كل هذه المشاعر، ولا بد أن يبتعد خوفًا من أن تموت إذا أصابه مكروه.
كم هو مخادع! يتلاعب بمشاعر بريئة لفتاة كل ما اقترفته هو إعطاؤه قلبها، فكر لدقائق بعد أن ألقى هاتفه على مكتب ميرا وذهب مسرعًا إلى منزل والد ياسر، يقسم له أنه لولا العشرة لقتل ولده وهدده بغضب:
- إن لم يبتعد ياسر عن ابنتي سيدفع الثمن غاليًا، وإذا رأى أي شخص هذا التسجيل سأرفع قضية تشهير ضده!
رجع إلى الخلف بظهره وهو يقول:
- هذه آخر مرة سأدخل هذا البيت وأوجه لك الحديث، لأنك لم تجد تربية ابنك من الأساس.
حاول الرجل أن يفهم ماذا فعل ابنه ثانيةً، لكن خالد كان في حالة لا يحسد عليها.
ما أقسى أن يرى الإنسان فلذة كبده ذليلًا أمام شخص لا يعرف للرحمة معنى!
وضع رأسه على تارة السيارة وهو يبكي بحرقة على حال ابنته، وضحكات ياسر وأصدقائه عليها التي أرسلها إليه بالفعل مع كلماتهم الساخرة من مشاعرها، ماذا لو رأت هي هذا؟ بالتأكيد ستنهار، ستتأخر حالتها، رفع رأسه على صوت أجراس السيارات التي تقف خلفه، فتذكر كريم الذي ينتظره، بحث في جيبه عن هاتفه، فلم يجده، خبط رأسه وبنفاد صبر:
- يا ألله.
ثم توجه إلى المطعم مباشرة، وحين رآه كريم قادمًا من بعيد، جرى نحوه وهو يسأل بلهفة وخوف:
- أين كنت أ. خالد؟
أخبره خالد أنه كان في مهمة لا بد من إنجازها.. سأله عن سبب طلب الاستقالة فامتنع عن ذكر السبب كي لا يغضب على نور، فأكد له خالد أنه يعلم أن لياسر يدًا بالموضوع، فحكى له كريم كل شيء وهو يسأل خالدًا بفضول:
- هل تصدقني؟ أقسم لك هذا ما حدث!
هز خالد رأسه، فهو سيصدق أي شيء بعد ما رآه، تنازل عن كبريائه وهو يقول بصوت يكاد يكون منعدمًا:
- ما جعلني أتأخر هو أن ياسرًا أرسل إليَّ مشهدًا لنور هانم يهددني به.
اتسعت عين كريم، فهل هذا مشهد إباحي؟ هل تنازلت نور عن جسدها أيضًا مقابل هذا العشق؟
استكمل خالد:
- المشهد عبارة عن استهانة بمشاعر ابنتي، يسخر منها هو وأصدقاؤه.. ما ذنبها؟ كل ما اقترفته أنها أحبته بصدق، أهذا ثمن الحب؟
جن جنون كريم، فهو يؤكد لخالد هذا ليس حبًّا، هذا ذل! نور حقًّا تحتاج إلى المساعدة، هي لا تتخيل غياب ياسر من عالمها، حتى وإن كان قد مات كما ادعى، ستعيش على ذكراه وقلة قليلة من مواقفه معها، وحين علمت أنه ما زال على قيد الحياة مفضلًا آسيا عليها، انحصرت في دائرة مظلمة وشعرت حقًّا أنها فقدته، هي ترغب بتفريغ طاقة الحب بداخلها ولم تجد أمامها سواه.
هز خالد رأسه متفقًا مع كريم فيما قال تمامًا، لاحظ أن كريمًا يهز قدمه ويحك جبهته بيده، فعلم أنه يرغب بقول شيء ما، فابتسم.
- تحدث تحدث، أعطني ما تخفيه هيا.
اعترف له كريم أنه انفعل على نور وقسا عليها بالحديث، فلامه خالد كأي أب أشفق على ابنته المسكينة، اعترف له أن ما فعله كان بدافع الحب والغيرة، لم يعلم من أين أتى بهذه الجرأة، وقال لوالدها بأنه بالفعل بدأ يشعر بالحب تجاهها، وحين لمس ياسر يدها كاد أن يهشم عظامه، فهو أيضًا لم يشعر بالحب الصادق طيلة حياته وبداخله مشاعر كثيرة، لكنه يخفيها ليعطيها لمن يستحق، حتى هاجر لم يعطها كل الحب الذي تمنى أن يخرجه لشريكة حياته.
بعد أن تأكد خالد أن علاقته مع زميلته انتهت، اتفق خالد معه أن يحاول التقرب إلى نور هذه الفترة، لكنها ليست فترة ارتباط، هي لا تزال جريحة ولن يداوي العشق الوقوع في علاقة أخرى، حينها ستكون النتيجة انهيار العلاقة رأسًا على عقب، لأنها مجرد تحصيل حاصل، وحين يدخل المرء في علاقة، لا بد أن يتأكد أنه محا من قلبه كل العلاقات السابقة محوًا أبديًا ويبدأ بمشاعر جديدة وكأنه مولود للتو على يد عشيقه، هذا هو العشق الأبدي. أخذه معه إلى المنزل ليصلح بينه وبين نور بعد أن مزق ورقة استقالته وهو يمزح:
- تُغضب نور وتستقيل! من أين جئت بهذا الجنون؟
***
وفي جلسة نور الثالثة مع طبيبها، تحكي له تفاصيل كي يساعدها، ترغب بالتوقف عن تناول العقاقير، تستكمل قصتها:
- وأنا في المرحلة الجامعية، تعرفت على ميرا، في البداية لم أتقبلها، لكن مع الوقت اعتدت المكوث معها، فأنا أخشى أن أعود إلى المنزل بمفردي، سنوات قليلة وحدثت ثورة يناير، فقررت أن أُظهر شجاعتي حين طلبت ميرا أن أذهب معها إلى هناك، فهي فقدت عائلتها وتذهب إلى هناك كي تنعم بالشهادة لتتخلص من وحدتها.
ونور أيضًا، كانت تظن أنها فقدت ياسرًا والموت سيرسلها إليه. أشار الطبيب إليها أن تتوقف:
- لكن أهلك يعيشون معك، صديقتك تحبك، لمَ اخترتِ الموت؟ ألم يوجد في الدنيا سوى ياسر؟ أليس هناك علاقات في الكون سوى العلاقات العاطفية؟
تعترف أنها بغياب ياسر غاب النور عن طريقها كمصباح يرشدها طريقها، وحين رحل أغلق قلبها بمفاتيح ذهبية مختبئة فقط بقلبه.
وفي الميدان، تقابلت مع كريم وشعرت به حين توفي تامر صديقه، وفي مراسم العزاء، تخيلت أنها جنازة ياسر الذي ما زال على قيد الحياة، حتى الآن كانت تظنه توفي، كما قال لها أبوها. استكملت وعيناها تدمع:
- وتركني أبكي وأمزق ثيابي وأحطم زجاج مرآتي وهاتفي، أصرخ بأعلى صوت، لكنه كان مصممًا تمامًا ألا أحضر مراسم جنازته وألا أراه للمرة الأخيرة، أغلق باب غرفتي وتركني أموت بها، رأيته يومها يجلس على حافة المضجع، يلومني على تركي له في ظلمة القبر، احتضنني بقوة وهرب، لم أرَه من يومها، حتى رأيته منذ أيام.
أدرك الطبيب أنها وصلت معه إلى مرحلة الوصب، وهي أقسى مراحل الحب، حين تصل إلى شدة الألم.
سألها الطبيب بدهاء:
- ألا تخافين من ميرا صديقتك؟
هزت رأسها بالإيجاب، ولفت يدها حول قدميها، وقالت وهي ترفع شفتيها إلى أعلى مستعدة للبكاء:
- نعم، أخاف أن تقتلني في بعض الأحيان.
سألها عن السبب.
ميرا تصرفاتها في الفترة الأخيرة غريبة بالنسبة إلى نور، كيف تخفي عنها ارتباطها وتعرف بكذبة ياسر وتوافق على رؤيتها مجروحة، بل مذبوحة أمامها، كيف وكيف، وضعت حولها علامات استفهام، شوهت صورتها أمامها، لكن حل هذا اللغز الخاص بإخفاء معلومات عن ياسر هو فقط (الخوف)، تخاف عليها من نتيجة ما تفعل بحالها، لكن موضوع إخفاء ارتباطها جعل الطبيب يتناقش مع نور عن سبب إخفائها، فلم يقتنع لكنه سألها:
- هل هذا سبب كافٍ لتخافي أن تقتلك؟
أشارت لا.
فهي لا تشعر بالأمان في أي مكان في الكون بعد وقبل خروج ياسر من حياتها، أنهى الطبيب جلسته بطلبين، أحدهما جعلها تتعجب، والآخر جن جنونها، فماذا طلب منها؟!
أنت تقرأ
استكانة
Romanceرومانسية نفسية في اطار اجتماعي قد يتسبب الحب لك بالهلاك، ويحول حياتك إلى جحيم يزلزل ثقتك بذاتك؛ فكم من علاقة تسببت لأحدهم بجرح عميق لم يشفَ أبدًا.. من منا لم يصب بالاكتئاب حين فقد الأمل فيمن يحب؟ عندما تقرأ استكانة ستفكر كثيرًا إلى أي درجة وصل...