الفصل السادس والعشرون

105 5 0
                                    

الاستكانة: الإهانة في الحب.
تحمُّلك للإهانة قد يضعك محلًا للشك، يظنون أنك قدمت تنازلات عديدة لم تفكر أنت بها يومًا ما.


الفصل السادس والعشرون
نور تقف في الشارع ترفع شفتيها إلى أعلى، البشر من حولها يضحكون، يشيرون إليها بسخرية، وكل منهم يثرثر بأذن الآخر، نزل خالد من السيارة ليفهم ما يدور، سألها:
- ماذا بك يا نور؟ ماذا فعلتِ كي يضحكون؟
اغرورقت عيناها بالدمع وهي تقسم أنها كانت هنا، كانت هنا، أخذها من يدها إلى السيارة، سألها بفضول:
- مع من كنتِ تتحدثين يا نور؟!
فأجابت:
- سيدة عجوز صفعتني، اتهمتني بالفشل والخوف من كل شيء، قالت إنني لا أستحق العيش، وحين وددت أن أرد عليها اختفت فجأة، نظرت حولي وكأنني استيقظت فجأة من غفلة، فوجدت الناس يضحكون ويشيرون إلي، ألا تعلم أين ذهبت أبي؟ هيا نبحث عنها لنعرف لمَ تقول لي كل هذا.
أشار إلى شفتيها كي تصمت، وضع رأسها فوق صدره وقال بحنان:
- لم يكن أحد أمامك ابنتي، كنتِ تحادثين الهواء!
بكت وهي تكتم صرخاتها، تفتح فمها كي يخفي صوتها الذي لو خرج لزلزل الكون، أخذها والدها إلى المنزل، أعطاها دواءها وجلس بجوارها وهي نائمة يعبث بخصلات شعرها، يتفقد جبهتها، يتمنى أن تكون محمومة كي يعتبر ما حدث مجرد تخاريف، لكنها فقط مخدوعة موجوعة.
***
ميرا ورويدا تقفان بعيدًا، لا تدركان ماذا أصاب نورًا، فاعترفت كل منهما لخالد بما حدث قبل أن تخرج نور، أخبرته ميرا عن رسالة ياسر لها وهو يتغزل بملامحها يطلب منها أن يقابلها، فهو حين رآها لأول مرة شعر تجاهها بشيء غامض، صمتت قليلًا وقالت:
- لم ترَ نور كيف رددتُ على حديثه هذا.
فميرا ليست ساذجة أو مسكينة كنور، بل هي واعية تمامًا بما تقول، هددته أنها ستأخذ الرسالة إلى الشرطة وتطلب منه إقرارًا بعدم التعرض بعد أن عنفته وطالبته بالابتعاد عنها وعن صديقتها، استكملت حديثها وهي تقول:
- بعد أن ضربتها والدتها ازداد بكاؤها، ونامت وهي تضم قدميها وكأنها متقوقعة بحالها.
نظر خالد إلى رويدا بلوم، كيف تضربها وهي في هذا العمر وفي هذه الظروف؟ فرويدا مختلفة تمامًا عن خالد، هي تقسو كي ترى ابنتها بأحسن حال، أما خالد يحن ويحن ويدلل حتى أفسد كل شيء بخوفه عليها، والاثنان مخطئان، فالوسطية في التربية هي الحل الأمثل.
دلف إلى غرفة نور ليسألها من أين علمت برقم هاتف ياسر، فسمع صوت هاتفها يدق، إنه كريم، أجاب خالد:
- نور وضعها سيئ جدا.
شعر كريم بخوف دفين، فطلب من خالد أن يراها، لكنه رفض وأعطاه موعدًا في اليوم التالي، فهي ليست جاهزة لمقابلة أي شخص، استيقظت وهي تعبث بعينيها، فطلب والدها أن تغسل وجهها وتأتي إليه كي يتحدث معها بأمر هام، فعلت، وعادت، سألها:
- من أين علمتِ برقم ياسر الجديد؟
فأجابت بخبث:
- رأيته على برنامج توضيح الأرقام.
لم يصدقها، فقرر أن يراقب تصرفاتها من بعيد، ليعلم هل عاد يعبث بقلبها وعقلها من جديد أم هو مخطئ.
***
كريم يعبث بصور قديمة، تفقد صوره مع تامر في مراحل عمرهم المختلفة، تذكره حين كان يمزح معه أنه سيتزوج من فتاة تشبه عسكري المرور، لسخريته من الجميع، لا يعجبه أحد، مسح عينيه بيده وترحم على صديقه، بل أخيه تامر، دخل والده فقبل جبينه واعتذر له أنه لم يسمح لوالدته أن تنجب له طفلًا آخر ليؤنس وحدته، فربت كريم على يده وقال بابتسامة تعتلي الدموع:
- أنت أخي وأبي، أصبحت أحبك وتعوضني كثيرًا عما سبق.
اطمأن والده بعد أن سمع منه هذه الكلمات، فكلمة واحدة قادرة على تغيير حالته النفسية.
***
نور تقف أمام والدتها، نظراتها لم تخلُ من اللوم والخوف، طلبت منها والدتها أن تجلس فجلست على طرف المقعد وهي تضم ذراعيها، تحدثت رويدا:
- أنا والدتك، أخاف من الهواء الطائر أن يهمس بأذنك، لم يحبك أحد مثلي، أخاف عليك حبيبتي، والآن سأسألك سؤالًا وتجبيني بكل صراحة، لن أؤذيك مهما كانت الإجابة.
كان السؤال صادمًا إلى درجة جعلت نور تفتح فمها وتصمت تمامًا.
لم تتعجب والدتها من صمتها، روت لها ما حدث:
- حين تعرفت على والدها، حينها علم والدها بالأمر فراقبها وهي تقابله، وأخذ رجال العائلة ليلقنوه درسًا لم ينسه، حينها وقفت رويدا أمامهم وبيدها سكين توجهه ناحية صدرها وهي تهدد الجميع إذا لمس أحدهم خالدًا ستقتل حالها، وكان هذا الأمر وصمة عار لوالدها بعد أن وقفت أمامه صوب رجال العائلة جميعًا.
استكملت والدمع يكاد يقفز من عينها:
- هددوني بالوأد، فهربت في الليلة نفسها مع والدك بعيدًا، جئت معه إلى القاهرة، وبدأ من لا شيء، تركت كل شيء وراء ظهري وهربت، لأنه حقًا يستحق التضحية، حينها حالتي النفسية تأثرت كثيرًا، والدك يدخر المال ليبتاع لي دوائي ونعيش حياة بسيطة في شقة صغيرة يملأها الحب، تعب والدك كثيرًا، عمل في مجالات عديدة، تحمل فترة تعبي وخوفي -حين حملت بك- من أن تكوني مشوهة من كثرة الأدوية التي تناولتها كل يوم في التسعة أشهر، مرت علينا كسنوات عجاف، الرعب جعلنا لا ننام خوفًا عليك، لكن ليس بيدي يا ابنتي، كنت مريضة، كنت أرى فتاة تضربني وأنا وحدي تنهرني، كنت أرتعب من المكوث وحدي ولو لدقيقة واحدة، لازمتني لفترة لا بأس بها حتى أثبتت لي طبيبتي أنها سراب، ذات يوم كنت في عيادة طبيبتي، رأيتها هناك تنظر إلي نظرات مرعبة، كان دوري لم يأتِ بعد، دلفت غرفة طبيبتي دون استئذان وأنا أمسكها من يدها أطلب منها أن تأتي معي كي تراها، وكانت المفاجأة، هذه فتاة تتناول العلاج عند الطبيبة نفسها، وحين رأيتها تجسدت أمامي الصورة التي أخشاها.
بكت كل من رويدا ونور، روت لوالدتها ما حدث بالشارع وهي مع والداها، فضمتها، فما أقسى أن يرى المرء أشياء ليست واقعية ويسخر منه من حوله دون رحمة، دون وعي، يجد حاله في العالم وحيدًا، يتزلزل داخليًا، رفعت رويدا ذقنها قليلًا، أغلقت فمها وبكت حسرة على ما شعرت به ابنتها.
سألتها نور:
- هل فعلًا أمي تظنين أن ياسرًا اعتدى عليّ بإرادتي أو غير ذلك؟
رويدا بثقة:
- لو لم أكن في مكانك يومًا ما، كان سؤالي حقيقيا، فأنا وضعت في موقفك نفسه، لكن مع رجل يستحق الحب والتضحية.
ثم استكملت:
- أخذنا والدك أنا وأنتِ إلى والدي لأعتذر له على ما بدر مني، لكنه لم يسامحني، وحين أنجبت وعرفت معنى كلمة أبناء، ندمت على كسر خاطر والدي أمام الرجال، لكن لا داعي للبكاء على كسر الخواطر، فليسامحني الله على ما فعلته.
دلفت نور غرفتها لترتاح قليلًا فدق هاتفها.

استكانة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن