الفصل الثامن عشر

103 2 0
                                    


النجوى: شدة الوجد ومناجاة طيف الحبيب.
والوَجد: يُعتبر من إحدى مراحل الحب المتطورة، ويدلُّ على مداومة التفكير في المحبوب، وعدم القدرة على نسيانه.
حين تعشق، ستجد عقلك مكبلًا وقلبك هو من يتحكم في نظراتك، همساتك وتصرفاتك، حتى الدمع يسقط من القلب، فما أقسى الحب حين يكون لمن لا يستحقه!

الفصل الثامن عشر
دخل رجل خمسيني العيادة، وبعد دقائق معدودة دخل شاب يلهث أنفاسه وفي يده زجاجة ماء، نظرت نور إلى الباب ووضعت يدها فوق فمها وبتعجب رفعت حاجبيها:
- كريم!
بعد أن ألقى السلام على خالد ورويدا، عرفهم بوالده وسألهم عن سبب زيارة الطبيب، فارتبكت نور وفكرت لدقائق ثم قالت بسذاجة:
- أنا مريضة.. تعلم، حكايتي مع ياسر أثرت عليّ كثيرًا.
فنظر إليها والدها ووجدها مرتبكة تهز قدمها بقوة وتقضم أظفارها، تتحدث بغضب داخلي، ترغب في كسر الأرض بقدمها، لم تشفع لها هذه الحالة، نظر إليها والدها بتوعد وجاء دورها، فدخلت إلى الطبيب، سألها عن اسمها فأجابت:
- نور.
الطبيب:
- كم عمرك؟
نور:
- ٢٦ عامًا.
- الحالة الاجتماعية؟
- عزباء.
الطبيب:
- ما هو ترتيبك في الأسرة؟
فأخبرته أنها وحيدة وليس لديها إخوة.
- أولًا، لمَ ترغبين في العلاج؟
فأجابت بحنق:
- لست مريضة! أمي هي من ترى ذلك.
الطبيب:
- لست مريضة.. بل من الممكن أنك تعانين من اضطراب نفسي وتحتاجين إلى مساعدة، وهذا ليس خطأ.
بعد أن اتفقا على أن تروي له كل ما يؤلمها، وكل شيء تسبب بألم نفسي لها منذ طفولتها، طلب منها أن تتحدث عن طفولتها:
- هل كنتِ تعانين من شيء؛ ظلم، قهر، انطواء، عنف...؟
- لم يتقبلني أحد! أنا أقل من الجميع.
سألها لمَ ترى نفسها بهذه الصورة، لم تجب، فقط رفعت شفتيها إلى أعلى، ثم أخبرته أن كريمًا أيضًا كان وحيدًا وتقرب منها حتى أصبح صديقها الوحيد. لم يسألها الطبيب من هو كريم، فهو يرغب أن يسمع منها أكبر قدر من المعلومات.
لاحظ الطبيب ارتباكها، فنهض من مقعده وجلس على الكرسي المقابل لها، أمسك المزهرية ورفعها ثم وضعها ثانيةً في وضع جديد، سألها:
- تبدو أجمل، أليس كذلك؟
ابتسمت، اعترفت له أنها كانت تتمنى منذ فترة طويلة أن تتحدث مع شخص لا يعرفها، تجمع ما بداخلها من قسوة البشر وتلقيه على عاتق شخص آخر، ثم تمحو كل ما قالت كي لا يتذكره، أو ترويه لشخص فاقد ذاكرته وهويته، أو تقتله بعدها بلحظة! فهي لا تعطي أمانًا لأحد رغم تلقائياتها المتفانية، لكن في جعبة الذكريات أمورٌ لم تخرج من قلبها أبدًا، مسلسلة بقيد الخوف الذي يسطو على حياتها، فاتفقا على شيء ما تفعله مؤقتًا حتى تتأكد أن هذا الطبيب يستحق ثقتها، اتفق معها أن تدون ما تريده في ورق ثم تمزقه وتشعل به نيرانًا لتتخلص منه تمامًا، وبذلك تكون أزاحت همَّ الخوف من البوح لأي شخص على وجه الأرض بما يدور بخلدها، ولكي تثق به قال:
- أخبريني بشيء ما لا يعرفه أحد سواكِ، وإذا أخبرتُ أي شخص في الكون فلا تثقي بي أبدًا، فأنا أقسمت أنني سأحفظ أسرار مرضاي.
فأخبرته نور وهي تتمالك أعصابها كي لا تبكِي، تصارع خوفها ورغبتها في الحياة والعيش، ارتعدت شفتاها:
- ما زلتُ أحب ياسرًا، كم أتمنى أن أرتمي بأحضانه، ألومه على ما فعل بي، لما وجدت الأمان في صحراء جرداء مملوءة بالأفاعي، قتلني بقسوته، قتل كبريائي، هشم كرامتي، ورغم كل ذلك أعشقه، إذا اعترفت بمرضي سأقول أنا مريضة به.
وعدها الطبيب أن هذا السر لن يخرج إلى شخص ثالث بينهما. خرجت من الغرفة وهي تكفكف دمعها ودخل والدها يسأل الطبيب، هل هي مريضة بالفعل أم هذه مجرد فترة وستمر؟، فصدمه الطبيب بأن ابنته تعاني من حالة اكتئاب حادة ولديها قلق وتوتر منذ طفولتها، تحتاج إلى المساعدة والاحتواء والمراقبة طيلة الوقت، أخبر خالد الطبيب أنه أعطاها إجازة طويلة من العمل، لكنه طلب أن تعود إلى العمل في أسرع وقت، وتُكلَّف بأعمال كثيرة كي لا تجد وقتًا للتفكير. انتهت الجلسة ودخل كريم مع والده الذي اقترب من عيش حياة طبيعية مع والدته، وبدأ يطمئن أن كريم حقًّا ولده بدأ يحب الحياة، يرغب أن يرى كريمًا سعيدًا.
***
خرج خالد من غرفة الطبيب عاقدًا حاجبيه، نور إليه من خلف نظارتها السوداء، يتمكن الخوف منها، تسأل نفسها برعب: هل أخبره الطبيب أنها ما زالت تحب ياسرًا؟
أخذها معه إلى الشركة، بعد أن رحب الجميع بها بعد فترة غياب لا بأس بها، دخلت مكتب والدها وجلست أمامه، خالد بغضب:
- إلى متى ستظلين مكشوفة أمام الجميع؟، كلما رأيتِ شخصًا أيًّا كان تروين له تفاصيل حياتك دون توخي الحذر؟! أما إذا قال أحد منا عنك شيئًا أو جرحك وتحدث عن خصوصياتك تغضبين كثيرًا!
أشارت بيدها إليه كي يصبر قليلًا، وبعدم اهتمام قالت:
- هذا طبيب، ظننته لم يفشِ سر مريضته!
قال بنفاد صبر:
- أقصد كريم، لمَ أخبرتِه بتفاصيل علاقتك مع ياسر؟ ولمَ غضبتِ حين كان معنا بالمكتب وتحدثت عن ياسر أمامه؟ بأي مكيال تَزِنين الأمور يا نور؟ هذا شاب، كيف سيراكِ الآن؟ لن يفهم أحد طيبتك وتصرفاتك البريئة.
صمتت قليلًا تفكر، إن ما فعلته كارثة تستحق الاعتذار، لكنه لم يقبل اعتذارها، هو يريد ابنته مسؤولة عن تصرفاتها، ليست دُمية يحركها قلبها.
اتفق معها أن تعود إلى العمل من بداية الأسبوع، فشعرت بالسعادة قليلًا.
***
ذهبت إلى مكتب كريم، جلست أمامه لتسأله عن أحوال العمل في فترة غيابها وتخبره بعودتها، لكن لم يكن هذا السبب الحقيقي وراء ذهابها إليه، سألته لمَ كان في عيادة الطبيب النفسي؟، فأخبرها أنه صديق والده ليس أكثر، رفعت حاجبيها وهزت رأسها غير مقتنعة، فليس من المنطقي أن يقابل الطبيب أصدقاءه في عيادته، تذكرت كلمات والدها وهو يحذرها من برائتها وأن ليس كل شيء يمكن أن يقال، عادت إلى مكتب والدها تطلب منه بعض النقود، وأخذت ميرا لتساعدها في شراء ملابس جديدة فوافق، ولكن حدث ما لا تتوقعه بعد أن دخلت محل الملابس.

استكانة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن