٢٨-|ضَرباتُ قَدرٍ|

1.7K 141 156
                                    

«للعناق لُغة، أبلُغها ذاك العناق الذي نحظى بهِ بعد أنتهاء سنوات الغياب العِجاف».

في لُغة العِناق كانت هي الكسرة، مكسورة على مدار الأزمنة، لم تحظى بـ"ضم" الأُم لصدرها، لم تتشمم رائحتها يومًا، فحقدت، كرِهت، وأبتعدت، لكن الآن وهي ترى الموت قريب، يفتح ذراعيه ليضُم أُمها بدلًا من أن تستبدل كسرتها بضمها لها تحركت لا أراديًا، تستوقفهُم بصوتٍ مُتحشرج باكي:
-لحظة بس.

ثم توجهت الهائمة بأحزانها بخطوات شبه سريعة لتلك التي شربت من كأس قسوتها حد الأرتواء، حتى تشبعت بها وتحولت كُل خلاياها لها، هرولت لأول مرة نحو تلك التي لفظت كفها يومًا تلتقط كفها رُغم الأبتعاد القديم، تتشبث بهِ بأنامل مرتجفة بفعل البكاء، تنظر لوالدتها الدامعة طويلًا وتلقائيًا رفعت السد عن كتمانها وفاضت في هذه اللحظة بسيول صدرها التي حبستها منذ أكثر من ستٌ وعشرون عامًا:
-أنا كدابة، آه والله كدابة، كُنت بقول كده علشان أجرحك، أنا غلطانة والله غلطانة أوي أنتِ قدمتي لي كتير كتير أوي...
هزت رأسها بنواح بموازاة سكب عشرات الدمعات:
-أنا معرفش يعني إيه أُم! أنا وعيت على الدُنيا دي لقيت خالتي هي أُمي ودلوقتي بقول لعمتي ماما، لكن ولا مرة أستشعرت بحلاوتها أو حسيت بطعمها حلو...
تهدج صوتها وأحمر وجهها أثناء حديثها المُختلط بشهقات بُكائها:
-كُنت ببُص عليكِ وأتمنى لو أقولك أنتِ ماما، كُنت ببان أني قاسية معاكِ بس أنا من جوة قلبي يحترق شوق ليكِ، كُنت عاوزة أسيب الدُنيا وأجيلك أنتِ وأقولك يا ماما علشان حتى لو ما نطقتها بلساني قلبي ينطقها...
مسحت دموعها بمحاولة فاشلة لتصمُت عن البُكاء لكنها لم تصمُت:
-أنا معرفكيش بس ... بس مش عاوزاكِ تموتي فقومي علشان أنا مش عاوزاكِ تموتي، ده مش كفاية عندك؟...
أنفجرت باكية بحرقة، تنظر لوالدتها نظرة فتت قلبها أثناء شدها على كفها بقوة:
-قومي علشان أعتبر نفسي إن النهاردة أتولدت ونعيش مع بعض أم وبنتها، من غير ماضي، من غير حزن، ومن غير فراق، العمر بيجري بيجري سريع وخايفة يخلص وأنتِ مش فيه.

بعُنف كانت ميعاد تنهض، تنفجر ببكاء مرير أشبه بالهستيري، تضم "زهرة عُمرها" وأول بذرة زُرعت برحمها نحو صدرها بشدة، تُرمم الشرخ، وتبني الكسر، شدتها لها بقوة فتعالى صراخ الأُخرى المرير أثناء أحاطتها لها تجذبها لصدرها بقوة عوضًا عنها، تُهديها عناق لطالما تمنته وحلمت به، وتميل بعفوية لتقبيل رأسها؛ أمتزج صوت بكائها بصراخ والدتها الحارق فعُزفت بالمكان سيمفونية الوجّع كما لم تُعزف من قبل.

بعد دقائق من العناق الذي توقفت بهِ الأرض عن الدوران أحترامًا لهُ أبتعدت الأبنة عنها، تمسح دموع والدتها بعطف وتميل لتُقبل كفها كدليل قوي يُثبت إنها صفحت وغفرت:
-تقومي بالسلامة.

أبتلعت ريقها الجاف وأبتسمت برضا كبير مع أهداء وجنت زهر تربيته خفيفة:
-مش مهم أقوم أهم حاجة أني حضنتك أنتِ وأخواتك.

قاسية أرهقت قلبي. لـ|هايز سراج|.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن