الخاتمة

64 3 2
                                    

ساد هدوء تام تلك الحديقة الصغيرة الملحقة بأحد المنازل البسيطة، في أقصى جانب من جوانب إحدى المدن الصغيرة الساحلية التي تعجّ بخليط عجيب من البشر ما بين سكان ومسافرين عبر مينائها المحدود.. كانت الشمس قد غربت منذ بضع ساعات، وسكن المكان كله في ذلك الحيّ الهادئ.. ولم يقطعه إلا ذلك الصوت الذي صدر من على كرسي بسيط وضع في الشرفة الملحقة بالمنزل الذي يتكون من طابق واحد.. وعلى ذلك الكرسي، جلست ساما وعلى ساقيها طفلة لا تتجاوز الخامسة من العمر، وهي تدندن لها بأغنية خافتة لتساعدها على الاسترخاء والنوم..

كانت ساما قد شبّت وتجاوزت سنوات الطفولة والمراهقة، وأصبحت تتجاوز العشرين من العمر بثلاث أو أربع سنوات.. استطال شعرها الأسود الحريري، وغدا وجهها أكثر امتلاءً وصحة مما كانت عليه في طفولتها.. انشغلت ساما بطفلتها الناعسة انشغالاً تاماً حتى سمعت صوتاً من إحدى الشجيرات التي تشكل طوقاً حول الحي يفصلها عن الغابة خلفه.. نظرت لذلك الموضع بشيء من القلق خشية أن يكون صاحب الصوت حيواناً برياً شرساً، عندما اصطدمت عيناها بعينين فضيتين لامعتين..

ظلت ساما تنظر للذئب الذي برز وجهه من خلف الشجيرة دون أن تبدي حراكاً لوقت طويل.. كان ذئباً أبيض بفرو لامع، وعينان فضيتان تبرزان وسط ظلمة هذه الليلة.. وللدهشة بدل أن يراودها شيء من الذعر لرؤيته فإن قلقها السابق قد هدأ تماماً.. ظلت تبادل الذئب الصامت النظرات بينما لم يتحرك الذئب من موقعه وكأنه تمثال برز من العدم.. ولما انتبهت الطفلة للذئب قالت بقلق وذعر "أمي.. إنه ذئب.."

ربتت ساما على رأسها ومسحت على شعرها الناعم قائلة "لا تخافي يا صغيرتي.. إنه لا ينوي بنا شراً.."

غمغمت الطفلة "كيف تعرفين ذلك؟"

ابتسمت ساما مجيبة "لا أدري.. لكني أعرف ذلك فقط.."

ونظرت للذئب من جديد مضيفة "إنه دائم الاقتراب من هذا الجزء من المدينة.. وفي كل مرة أراه فيها يكتفي بالوقوف في موضعه للحظات قبل أن يغيب تماماً.."

تساءلت الطفلة وهي ترمق الذئب بقلق "ألا يأكل الذئب البشر؟"

أجابت ساما بتأكيد "لا.. هذا الذئب لا يأكل إلا حيوانات الغابة.. ولا يسيء للبشر بأي صورة.."

ثم نظرت لوجه الطفلة مضيفة بابتسامة "لقد أخبرني هو بذلك.."

اشتعلت نظرات الطفلة انبهاراً للفكرة، وأمطرت ساما بأسئلتها عن كيفية التحدث مع الذئاب، لكن ساما اكتفت بالصمت وهي تبتسم وتنظر للذئب.. لا يمكن للذئاب أن يتحدثوا بلغة البشر.. لكن لا تدري لمَ يراودها شعورٌ بأن الذئب قد أخبرها بهذا الأمر بنفسه.. متى؟.. وكيف؟.. لا تدري..

كل ما تعرفه أن الذئب يأتي في كل شهر مرة ليقف وقفته الصامتة يحدق بها من بعيد.. وكأنه يراقبها ويطمئن عليها بشكل أو بآخر.. ورؤيته تحمل لها بعض الأمان رغم تناقض هذا الأمر الصارخ، ورغم أنها لا تستطيع التصريح بما تفكر به حتى لأقرب الناس إليها..

اتسعت ابتسامتها الموجهة إليه، فيما ظل الذئب واقفاً وعيناه توحيان لها بمعانٍ شتى لا يمكن للسانه نقلها.. أو أن هذا ما يبدو لها من نظرته الصامتة الطويلة تلك.. وبعد بعض الوقت، يثني الذئب عنقه ويستدير مغادراً بصمت كما حضر.. وتبقى ساما بعدها تراقب رحيله، وفروه الأبيض يبدو لامعاً في سواد هذه الليلة، حتى تغيّبه الغابة بين ثناياها.. وتبقى بعد غيابه تُسائل نفسها إن كانت قد رأته حقاً، أم أنه جزءٌ من الخيالات التي تتراءى لها في لمحات تبرز في عقلها بين وقت وآخر.. لمحات تحمل لها ذكرى عن حياتها التي نستها.. أم أنها مجرد تهيؤات لا يصدقها عقل؟..

لن تعرف جواب هذا السؤال أبداً..

لن تعرف جواب هذا السؤال أبداً

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

༶༄༶༄༶༄༶༄༶༄༶༄༶

༶ تمت ༶

يتبع بصفحة عن الكائنات الواردة في الرواية

طريق الأطيافحيث تعيش القصص. اكتشف الآن