المقدمة
قصاصة من مذكرات لا تاريخ لها ....
هل من قلة الإحساس أن أشعر بمزيج من الرهبة والبهجة لوجودي في منزل عائلة الشاعر في مناسبة مأساوية كهذه ؟؟ ربما ..
لحسن الحظ أن لا أحد من بين الضيفات المتشحات بالسواد .. واللاتي جسدن غطاءً مموها لي .. قد لاحظ نظراتي الفضولية التي كنت أمررها خلسة من بين الرؤوس المغطاة بالمناديل الداكنة .. لا أحد أيضا كما يبدو من سكان المنزل قد تعرف إلي .. ولماذا يفعلون وقد مرت ... كم سنة بالضبط ؟؟ سبعة !! نعم .. سبعة سنوات منذ آخر مرة كنت فيها هنا .. منذ آخر مرة سرت فيها بين أروقة هذا المنزل الكبير .. ولعبت فيها مع رفيقات سني .. أسترق نظرات فضول نحو العروس الشابة التي ما كانت تكبرني بكثير ..
إنها مفارقة غريبة .. صحيح ؟؟ أن تكون زيارتي الأخيرة لهذا المكان أثناء مناسبة مهمة .. لأعود إليه من جديد بعد كل هذه السنوات لأجل حضور مناسبة مهمة أخرى ..
طبعا شتان ما بين مناسبة وأخرى .. فلا وجه شبه بين حفل زفاف انتهى بفضيحة .. وجنازة تنعي حياة رجل ................ انتهت بفضيحة هي الأخرى ..
لكزتني والدتي خفية كي أصحو من شرودي المعهود .. ورمقتني بنظرة تحذيرية وهي تحثني على إنهاء الآيات التي تبرعت بقرائتها ( مرغمة ) في حملة مشتركة لختم القرآن للمرة ال ..... لقد نسيت في الواقع ..
تلوت الآيات همسا من المصحف الثقيل ذو الغلاف المذهب و الذي تم توزيع نسخ منه على المعزين شفاعة لروح الفقيد .. ثم رفعت عيني مجددا لأتأمل عائلته التي جلست إلى جانب واحد من الصالة الواسعة ذات الديكور الأنيق والموحي بالثراء و التي خصصت لاستقبال المعزين من النساء
سبع سنوات مرت ... إلا أنني كنت قادرة على تمييز تلك الوجوه التي تراوحت تعابيرها بين حزن وجمود ..
السيدة التي تجاوزت الخمسين .. والتي احتفظت بسواد شعرها مستعينة بالأصباغ غالية الثمن كما هو بديهي .. والتي حملت فوق صفحة وجهها بقايا جمال ذابل .. ووقار منحتها إياه مكانتها الاجتماعية .. كانت السيدة مريم .. حرم السيد أيمن الشاعر .. رجل الاعمال المعروف .. تبدو كما أذكرها .. مثال للأناقة والرقي .. المرأة المثالية .. كما كنت أنعتها في طفولتي كلما استغرقت في التحديق المنبهر بها .. غير أنني .. ولا أعرف إن كنت الوحيدة التي لاحظت هذا .. أم أن رؤيتي لها بعد سنوات سبع جعلت صورتها تبدو أكثر وضوحا لي .. كنت أرى المرأة التي تجاهد من وراء مثاليتها المزعومة .. كي تستحق مكانتها كزوجة لرجل كأيمن الشاعر ...
إلى جانبها جلست بناتها الثلاثة .. الصغرى .. هزار .. تصغرني بعامين .. إلا أنني أذكرها دائما كعصفورة صغيرة يشبه حديثها الحماسي دائما زقزقة عصفور ناعمة .. كانت كما رأيتها آخر مرة عندما كانت مجرد طفلة في الثانية عشرة .. شعر ناعم كستنائي لا يتجاوز قط كتفيها .. وعينان عسليتان كعيني والدها بالضبط .. وحلاوة طفولية تخترق الفؤاد تلقائيا .. أتراها تذكرني إن تقدمت نحوها وتحدثت إليها مخترقة هالة الذهول المحيطة بها والتي تتواجد دائما حول أي شخص مر بتجربة فقدان عزيز ما ؟؟
المرأة الجالسة إلى جانبها كانت نوار .. الإبنة الوسطى لأيمن الشاعر .. حسناء العائلة .. بعيني والدتها الخضراوين وملامحها الكاملة الجمال كانت قادرة على إيقاف أي عابر يمر بها في أي مكان لأجل إلقاء نظرة ثانية .. نوار كانت الروح الشفافة في العائلة .. روح تميزت بجمال داخلي كما هو خارجي .. مقيد دائما بذلك التردد والقلق الذين كان من الطبيعي أن يرافقا شخصا مثلها مطالب بالكثير ... سمعت بأنها قد تزوجت منذ أشهر قليلة من ابن عائلة معروفة بثرائها الفاحش وسلطتها الكبيرة .. لم أحضر الزفاف طبعا .. لم يحضره أي من أفراد عائلتي لأسباب ...... من المحرج سردها .. إلا أنني سمعت بأنه كان زفافا أسطوريا ضم كافة أفراد الطبقة المخملية في المدينة .. نوار المحظوظة .. هي محظوظة بالفعل .. لولا ما تبديه من انكماش غريزي منذ طفولتها كلما تواجدت شقيقتها الكبرى بشخصيتها الجبارة حولها .. وكلما رمقتها نظرات الناس في ترقب لأي خطأ من الإبنة المثالية كأمها لأيمن الشاعر ..
أخيرا ... أسرار .. الإبنة الكبرى لأيمن الشاعر .. لطالما أحسست حولها بالقلق والرهبة .. فمنذ الطفولة كانت تحيط بها هالة من التمرد والنزق .. وكأن روحها لا تطيق البقاء لحظة واحدة أسيرة لجسدها .. قوية .. شقية .. غاضبة أبدا كحصان جامح .. هكذا كان اخي الأكبر يصفها فيما مضى .. حصان جامح غير قابل للترويض .. لقد كانت في الثامنة عشرة عندما رأيتها آخر مرة .. والآن .. وهي على مشارف الخامسة والعشرين .. حتى وهي تبدو كما على امرأة قد توفي زوجها لتوه أن تبدو .. منضبطة .. متحفظة .. جامدة المشاعر .. حتى و شعرها الذي أذكره أسودا كجناح الغراب .. أجعدا ثائرا .. وكأن عشرات الألعاب النارية تنفجر بين خصلاته كل يوم .. مصفف بعناية ووقار ... وعيناها العسليتان ترسمان تلك النظرة المحايدة .. وكأنها تتحدي أن يتمكن أي أحد من قراءة أي إحساس من خلالهما .. كانت تبدو وكأنها ما تزال تلك المراهقة التي ولدت بأحلام وطموحات كانت أكبر من أن يتسعها العالم .. كانت ترهبني ... وتلهمني في وقت واحد .. من الغريب أن تظل مشاعري نحوها كما هي رغم مرور سبع سنوات على لقائنا الأخير ..
امرأة إلى جواري همست لرفيقتها بصوت مسموع تماما :- سمعت بأنه قد قتل نفسه .. هل هذا صحيح ؟؟
:- هكذا يقولون .. إلا أن العائلة تنكر هذا بالطبع .. ولماذا قد ترغب عائلة الشاعر بأن يعرف أي أحد بحقيقة وفاة زوج ابنتهم الكبرى انتحارا ..
:- لن يرغبوا بهذا بالتأكيد .. حتى وزواج ابنتهم الوسطى من فراس الحولي مثار حسد وحديث جميع سكان المدينة .. فالجميع يذكر فضيحة زفاف ابنهم قبل سبع سنوات .. يقولون بأنه قد هرب ليلة الزفاف مغادرا البلاد ولم يعد منذ ذلك الحين ..
:- يقولون بأن والده قد أرغمه على الزواج .. بأنه لم يرغب بها عروسا ..
:- لا ... ما أعرفه هو أنه قد صدم عندما اكتشف بأنها لم تكن عذراء ليلة الزفاف .. فهرب عندما منعه والده من إثارة فضيحة ..
:- لا أظن هذا ..... وإلا لما ظلت مقيمة في منزل العائلة منذ ذلك الحين .. كانت لترسل إلى منزل عائلتها بعد فترة وجيزة .. مطلقة إنما بدون أي ضجة .. انظري إليها وهي تتجول بين الضيوف وتوزع القهوة هنا وهناك .. وتتلقى التعازي وكأنها سيدة المنزل ..
:- أين كانوا ليرسلوها .. إنها يتيمة .. توفي والدها بعد زفافها مباشرة .. من الصدمة على الأرجح ..
:- استغفر الله العظيم .. فليستر الله على ولايانا ..
أدرت عيني بصبر وأنا أقاوم رغبة عنيفة في صفع السيدتين اللتين كانتا أبعد ما يكون في نميمتهما عن الخوف من الله .. ثم نظرت إلى ليلى .. الكنة المذكورة .. وهي تتجول بين الضيوف برشاقة ورقة ملاك .. لا أحد إطلاقا يعرف حقيقة ما حدث قبل سبع سنوات .. باستثناء مغادرة العريس وهروبه من البلاد في نفس الليلة ..
في الواقع ... كان كل ما يحيط بعائلة الشاعر غامضا .. مخيفا وكأن اسرارا سوداء ومظلمة تختبيء بين جدران منزلهم الكبير .. المؤثث بترف وفخامة كانت منفرة بعض الشيء .. الذي بدا من الخارج بتصميمه الذي ذكرني بقصور العهد القوطي وكأن أشباحا لا مرئية تقطن به .. إلا أنها كانت قادرة على إبعاد المتطفلين بسهولة من خلال الطاقة السلبية التي كانت تفوح منه دائما ..
آه .. أمي تلكزني مجددا .. يبدو أن الوقت قد حان لإلقاء التحية على عائلة الفقيد .. لماذا أشعر بالقلق والتوتر من مواجهتهم مباشرة بعد ما حدث في الماضي وكأنني أنا المسؤولة عما حدث ؟؟ حسنا ... أخي هو المسؤول ... تقريبا ... فلماذا علي أنا أن أشعر بالخوف ؟؟؟
ماذا ؟؟؟ من أكون أنا ؟؟ وما علاقتي بعائلة الشاعر ؟؟؟
أنا لست شخصا مهما .... أنا مجرد بيت منسي في قصيدة أظن معناها سيظل في قلب الشاعر
حتى حين !!متابعة ممتعة..
يتبع...
أنت تقرأ
في قلب الشاعر(الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للكاتبة blue me