الفصل الأول

8.8K 161 3
                                    

الفصل الأول





:- أهلا بك في مكتبك يا سيد قائد ..
خطا قائد إلى داخل مكتبه الذي كان قبل يوم واحد فقط ملكا لرجل آخر .. يلحق به مساعده الشخصي ( عدنان ) ... برفقة أحد أقدم الموظفين بالشركة .. والذي كان يحاول إخفاء توتره وقلقه من خسارته لوظيفته مع وصول المالك الجديد للمكان .. مظهرا بشاشة زائفة لم تخف عن قائد وهو يتقبلها ببروده الشهير .. قبل أن ينظر من حوله متأملا الديكور المبهرج لمكتب سلفه بشيء من الازدراء .. أول مهمة سيكلف بها عدنان كانت تحديد موعد مع شركة التصميم الداخلية التي اعتادت شركاته التعامل معها لأجل إعادة تنسيق هذا المكان بأكمله ليناسبه ..
ربما نجح بعد أشهر من العمل في الاستيلاء على شركات النور بكل ما تتضمنه من مصانع ضخمة للغزل والنسيج فيصبح الآن بالإضافة إلى إنجازاته التي أمضى ما يزيد عن عشر سنوات في تحقيقها أحد أباطرة عالم النسيج في البلاد .. إلا أن تلك الفجوة داخل صدره ما تزال تصرخ بالفراغ .. وكأنه يركض ويركض لأجل الوصول إلى هدف ليس بعيد المنال فحسب .. بل هو غير معروف له على الإطلاق .. غير معروف .. إلا أنه مألوف بحيث يدرك قائد ويصحح لنفسه على الفور معترفا بأنه لا يحاول الوصول حقا إلى هدف ما .. بل هو يحاول الابتعاد عنه ... بكل قواه .. منذ سنوات .. سنوات طويلة ..
سار نحو النافذة العريضة ... ونظر عبر الزجاج اللامع نحو المدينة التي ظهرت العديد من معالمها من مكانه المرتفع .. وهو يفكر بأن لا شيء .. لا شيء أبدا بقادر على إشباع تلك الحاجة الوحشية لديه للإنجاز .. نعم الإنجاز .. بالإضافة إلى الهرب من شيء يخاف من تعريفه ..
ربما كان السبب عائدا إلى أن والده .. والذي كان يفعل كل هذا بسببه .. لم يعد موجودا في عالم الأحياء ليشهد على نجاحه .. مما جعل طعم الانتصار مريرا في فمه .. وكأن المغزى من كل ما يفعله قد تلاشى فجأة تاركا معه الفراغ .... الفراغ من جديد ..
أو ربما كان سبب إحساسه النادر هذا بالغضب .. بالعجز .. بالحاجة .. قد تفاقم هذه الصباح بالذات ... فقط لأنه رآها ..
في آخر مكان حسب بعد تسع سنوات بأنه قد يراها فيه ...
ربما لن يكون الاتصال بشركة التصميم الداخلية هي أول المهام التي سيكلف بها عدنان ...
قال دون ن يلتفت نحوه ... بلهجته الباردة والعملية .. بينما يتجاهل في سياسته الترهيبية المعتادة الموظف الغارق في العرق .. والذي وقف في الزاوية منتظرا مصيره بقلق :- أريد لائحة بأسماء جميع موظفي الشركة فوق مكتبي خلال ربع ساعة ... أريد أسمائهم جميعا بدون استثناء

:- أسرار .....
توقفت أسرار قبل أن تدخل مكتبها مباشرة فور وصولها صباحا عند سماعها النداء فأغلقت عينيها للحظة واحدة قبل أن تفتحهما ساحبة نفسا عميقا حاولت فيه تمالك أعصابها وهي تلتفت نحو هدى .. زميلتها في العمل وصديقة دراسة قديمة لها .. صديقة لدود في الواقع .. إذ أنها ومنذ كانتا معا في المرحلة الثانوية وهي تكن بغضا غير مفهوم نحو أسرار يدفعها دائما لمحاولة إيذائها بكلامها الملغوم ..
قالت بابتسامة متكلفة وهي تنظر إلى الفتاة السمراء متوسطة الجمال .. إنما جذابة بملابسها التي بذلت جهدا قليلا جدا في إخفاء مفاتن جسدها البارزة ... وبزينة وجهها المبالغ بها :- صباح الخير هدى ... أنت مبكرة على غير العادة ..
:- وكيف لي أن أتأخر في يوم كهذا .... أنا لم أنم تقريبا ليلة الأمس من القلق منذ سمعت بخبر بيع الشركة .. قد نخسر جميعنا وظائفنا إن قرر المالك الجديد استبدالنا بموظفين من طرفه ..
هنا .. تمكنت من جذب اهتمام أسرار كاملا ... اعتدلت وهي تقول بقلق كاد يستحيل إلى جزع :- هل تم بيع الشركة ؟؟ متى ؟؟ كيف ؟؟ لماذا لم أعرف أنا بهذا ؟؟
قالت هدى بنعومة :- من الواضح أن السيد نور – المالك القديم – لم يرغب بأن يسبب لك القلق قبل أوانه .. أذكر أن علاقة وثيقة كانت تجمعكما ..
بجهد جبار ... وبمهارة بدأت أسرار تكتسبها خلال سنوات من الممارسة .. أخفت مشاعرها .. مانعة نفسها بصعوبة من تذكير هدى بما تعرفه جيدا .. وهو أن السيد نور .. الرجل الأربعيني الصالح .. المتزوج والأب لثلاثة أطفال .. كان قريبا لزوجها الراحل .. بل كان فعليا قريب عمار الوحيد .. وقد وقف إلى جانبها هو وزوجته بعد وفاة زوجها قبل عامين بإخلاص شديد .. لقد كان هو من عرض عليها العمل لديه في الشركة منقذا إياها من عبء اضطرارها للعمل لدى والدها .. لقد منحها مخرجا من ورطتها .. إلا أنها في جميع الحالات ما كانت لتعمل في شركات والدها .. ما كانت لتخرج من التزام لترمي نفسها في التزام آخر ..
قالت أسرار بهدوء :- لم أتحدث إلى زوجته مؤخرا .. إلا انني اعذرك لإحساسك بالقلق .. فليس من السهل أن يكون المرء مهددا بفقدان وظيفة جيدة كوظيفتك ... ربما عليك القيام بزيارة إلى مكتب المدير الجديد وإقناعه بكفائتك .. ووفرة مواهبك .. فما فشلت به مع السيد نور قد ينجح معه إن كان من هواة العبث الرخيص ..
التفتت مرة واحدة تاركة الفتاة فاغرة فمها بذهول سرعان ما تجاوزته وهي تقول :- من الطبيعي ألا تشعري بالقلق .. فأنت ابنة أيمن الشاعر .. رجل الأعمال المعروف .. وإن كان ما سمعت به صحيحا عن إصابة والدك بأزمة خطرة في الفترة الأخيرة .. وتدهور حالته الصحية .. فأنت ستكونين وريثة ثرية وآمنة تماما في وقت قريب جدا
لم تتوقف أسرار ... حتى ووجهها يفقد كل ألوانه فيحيل بشرتها إلى لوحة طبشورية لا حياة فيها ... دلفت إلى مكتبها وأغلقت الباب .. وظلت للحظات طويلة واقفة هناك . تحاول التقاط أنفاسها واستعادة انتظام ضربات قلبها وهدوئها كي لا تعاود الخروج فتنهال على هدى ضربا وخمشا بأظافرها المدببة ..
أجبرت نفسها على استعادة صورة وجه والدها كما رأته مساء الأمس في المستشفى قبل أن تعود إلى شقتها .. لقد كان بخير .. شاحبا .. إنما بخير .. لقد تخطى الأزمة بنجاح كما أكد الطبيب .. بل ويستطيع العودة إلى البيت خلال أيام قليلة .. إلا أسرار أن لا تستطيع أن تمنع نفسها من تذكره ممددا على الأرض بعد جدال عقيم آخر بينهما .. من غير المنطقي أن تحمل نفسها مسؤولية الأزمة التي أصابته .. إلا أنها لا تستطيع إلا أن تتذكر المشاكل التي كانت تسببها له طوال سنوات حياتها .. طفلة ثم مراهقة .. وحتى أثناء زواجها بعمار .. والآن .. لو أنها كانت أكثر انقيادا .. أكثر خضوعا .. لو أنها كانت أقل حقدا ...
أغمضت عينيها بقوة وهي تذكر نفسها بأن والدها لم يلمها أبدا على ما حدث .. عندما فتح عينيه ليجدها إلى جانب والدتها وشقيقاتها حول سريره في المستشفى .. ابتسم فقط .. وقال :- لا تخشين على قلب الشاعر يا نبضه ..
أجبرت نفسها على استعادة هدوئها .. واستخراج هاتفها المحمول من حقيبتها لتتصل برضوى زوجة السيد نور كي تفهم منها ما حدث
:- لم يخبرني بالكثير يا أسرار .. فقط أن ديونا كثيرة قد تراكمت فوق كاهله فما عاد بقادر على الإيفاء بها دون إشهار إفلاسه .. هو لا يبوح بالأمر إلا أنني فهمت بأن الرجل الذي اشترى الشركات منه كان يطارده منذ سنوات .. منافس له يسعى لاحتكار الصنعة على ما يبدو .. وقد نجح ..
أنهت أسرار المكالمة .. وظلت للحظات تفكر بالوضع الجديد بهدوء .. ليس عليها أن تجزع لتغير المالك .. فقد كانت ترفض الأفضلية التي كان نور يعرضها عليها على أي حال .. هي موظفة جيدة وما من سبب يدفعهم لصرفها من العمل .. وإن اضطرت للرحيل فمكانها في شركات والدها موجود ..
الامتعاض الفوري الذي أحست به ضايقها .. كفى أسرار .. كفى .. توقفي على التفكير كابنة الثامنة عشرة التي كنتها .. لقد تغير كل شيء بعد مرور تسع سنوات كاملة .. ربما كان إصرار والدها على عملها لديه لا يتعلق بحبه للسيطرة بقدر ما يتعلق بحاجته إليها .. ربما هو يحتاج إلى وقوفها إلى جانبه خاصة مع غياب همام واعتماده التام على مساعدة ليلى له في إدارة العمل .. أتراها كانت أكثر عنادا وجحودا من أن ترى الحقيقة ؟؟
توقفي .. توقفي عن إثارة كل هذه الأفكار العقيمة داخل رأسك فأنت لم تصرفي من العمل بعد .. أنت آمنة من الحاجة للتفكير بالخيارات الأخرى حتى يتضح اتجاه الإدارة الجديدة ومخططاتها ..
باشرت عملها ملقية مخاوفها وراء ظهرها .. وإن كانت عاجزة عن كبح القلق السقيم الذي بدأ يتصاعد داخلها .. قلق شبيه بقلق ظبي شارد عرف بغريزته وجود فخ قريب منه دون أن يعرف مكانه ..





في قلب الشاعر(الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن