الفصل الأربعون

4.9K 125 5
                                    

الفصل الأربعون






عندما فتحت ريا باب الشقة لترى رجلا غريبا يقف أمامها ... زفرت قائلة بنزق :- لا .. لا تقل بأنك واحد آخر ..
عبس رائد ... في وجه المرأة التي رمقته بازدراء من رأسه حتى أخمص قدميه وكأنه حشرة تجرأت على طرق باب بيتها مرددا باستنكار :- واحد آخر ؟؟
:- شاعر آخر ... لو أنني تركت قطعة حلوة مكشوفة أمام النافذة لما رأينا من الذباب المتطاير بقدر ما رأينا منكم منذ وفاة أبي ..
ابتسم رائد بدون مرح وهو يقول :- تشبيه بديع جدا .. لعلمك .. أنا لست شاعر .. وقد جئت لرؤية زين .. فلم لا تلهي نفسك باختبار تلك النظرية حول الذباب .. وتناديها في طريقك كي تأتي لرؤيتي ..
عبست وهي تهتف به غاضبة :- أنت وقح ...
:- أنا مستعجل وأنت تضيعين وقتي ..
:- ريا ... هل عادت أمي ؟؟
وقد كان ذلك صوتها الرقيق والناعم ... شعر رائد بقلبه يخفق بين أضلعه وهو ينظر من فوق كتف الفتاة المدعوة بريا لتلتقي نظراته بنظرات زين الجامدة .. وجهها الجميل شحب تماما عندما رأته .. في حين تراجعت إلى الوراء باضطراب ورهبة .. وكأنها لم تتوقع أن تراه مجددا
أظنته يتخلى عنها حقا ويتركها وشأنها ؟؟ أظنته ينسى أمرها .. ويخرجها من حياته بهذه السهولة ؟؟
قالت ريا بريبة :- زين ... هذا الرجل الغريب والوقح يطالب برؤيتك ... هل تعرفينه ؟؟
كاد رائد يضحك لما في السؤال من سخرية ... أتعرفه ؟؟؟ هي تعرفه فقط بقدر ما على أي زوجة أن تعرف زوجها .. بل ربما هي تعرفه أكثر من أي شخص مر بحياته ..
لم يبد على زين أنها سمعت ما قالته شقيقتها ... إذ ظلت تنظر إليه متسعة العينين .. وكأن ما من أحد في المكان سواهما .. قالت من بين أنفاسها :- لماذا جئت ؟؟
قال بصوت أجش :- أتريدين مني شرح سبب مجيئي هنا ؟؟ على مسمع من الجيران ؟؟
قالت ريا بفظاظة :- أنت لن تدخل إلى منزلنا ... أنت ستظل واقف مكانك كأي رجل غريب .. وتشرح بفصاحة ما تريده من زين ..
قال بصوت مكتوم و نظراته لا تحيد عن عيني زين :- وهل أنا رجل غريب حقا يا زين ؟؟
دوى صوت بكاء قادم من غرفة داخلية .. بكاء رضيع جعل ريا تتململ مكانها فقالت زين بجمود :- زين الصغيرة تحتاج إليك يا ريا ..
كانت إشارتها الغير مباشرة لريا بأن تتركها وحدها مع الرجل الغريب واضحة .. نقلت ريا أنظارها بين كل من زين ورائد .. قبل أن تقول بجفاف :- نادني ان احتجتني ..



تركتهما وغابت وراء أحد الأبواب الجانبية .. فخطا رائد إلى داخل الشقة بحذر .. وكأنه يتوقع منها أن تطرده .. إلا أنها لم تفعل ... كانت واقفة مكانها .. تحيط جسدها بذراعيها .. وتنظر إليه بهدوء .. وكأنه .. وكأنه ما عاد يعني لها شيئا ..
هذه الفكرة في حد ذاته صدمته ... أن يكون قد خسر حبها في معركته ضد نفسه خشية وقوعه في حبها .. أن يكون قد خسر ثقتها في خشيته من منحها ثقته .. أغلق الباب وراءه وهو يقول بهدوء :- لديك شقيقة شرسة للغاية ..
:- هي حمائية فقط .. وشرسة ضد كل من يحاول أذيتي ...
قال واجما :- تعرفين أنني أبدا لن أؤذيك يا زين ..
لم تمنحه تأكيدا على كلامه .. قالت ببرود :- لماذا جئت ؟؟ وكيف عرفت عنواني ؟؟
:- من همام ... لقد عرفت بأنه قد جاء لرؤيتك
قالت بقسوة :- نعم .. لقد جاء .. وأنا أخبرته بألا يتدخل فيما لا يعنيه ... لم يكن من حقه إخبارك عن مكان وجودي ..
قال بصوت أجش :- لماذا ؟؟ كي أظل أتعذب بنار الخوف عليك ؟؟ لم أعهدك بهذه القسوة يا زين ..
أشاحت بوجهها قائلة باقتضاب :- لقد تعلمت بالطريقة الصعبة أن أحجب مشاعري إن أردت الا أتأذى ..
هز رأسه قائلا :- لا تستطيعين حتى لو حاولت ... أنت أكثر رقة من أن تتظاهري حتى بالقسوة ... حتى نفورك هذا من همام ... هو مجرد تظاهر منك .. كي أنصف الرجل حقه .. هو ما كان ليخبرني بعنوانك لو ما كان يمر بظروف أخذت كل تركيزه مساء الأمس .. أحسب أنك لم تعرفي بأمر زوجته ..
نظرت إليه وهي تقول عابسة :- زوجته !!
:- زوجته وشقيقته .. أم تراك لا تهتمين ؟؟ أنت ترفضين انتمائك لعائلة الشاعر على أي حال .. وترفضين أي علاقة بهم ..
تجهاهلت تعليقه الأخير وسألته بتوتر :- ما الذي حدث ؟؟
حكى لها باختصار ما حدث .. وراقب بدقة الرعب يرتسم على وجهها وهي تستمع إلى تفاصيل اختطاف هزار وليلى ... انتهاءً باضطرار هزار لقتل خاطفها .. وخروج ليلى من غرفة العمليات غارقة في غيبوبة قد لا تصحو منها .. ثم راقب القلق والتأثر وهي تسأل بخفوت :- كيف هي الآن ... هزار ؟؟
:- مصدومة ... أظنها تحتاج إلى الكثير من الوقت قبل أن تتخطى ما فعلته .. خاطفها أم لا ... هي قتلت إنسانا .. لا أحد .. أي أحد .. يستطيع تخطي أمرا كهذا بهذه السهولة ..
جرت أحد المقاعد الخشبية المحيطة بمائدة الطعام الصغيرة التي كانت تقف إلى جوارها كي تتمكن من الجلوس عليه وهي ترتجف .. يبدو عليه الارتباك والضياع وهي تقول :- أنا آسفة .. آسفة لهم جميعا ..
:- أصدقك ..
اقترب وهو يقول :- لأنه ما أنت عليه ... أنت إنسانة رقيقة ... حساسة .. ومفعمة بالمشاعر يا زين .. ولن تتمكني من كرههم حتى لو حاولت ..
صمتت للحظات .. ثم قالت دون أن تنظر إليه :- أنت أخبرت همام عن زواجنا ..
قال بهدوء :- هذا صحيح ... كما أخبرت أخي قائد ... وأنوي إخبار والدتي .. فور أن تعود إلى البيت إذ أنها لم تفارق زوجة خالي منذ الحادثة ...
رفعت رأسها إليه وهي تقول عاجزة :- لماذا ؟؟؟
هز رأسه مستنكرا سؤالها :- أحقا لا تعرفين ؟؟
قالت باضطراب :- أنت لا تريد أن يعرف أحد بزواجنا ...
صحح لها بحزم :- أنا لم أرغب بأن يعرف أي احد بزواجنا ... حتى خرجت من بيتي تاركة إياي مع ملاحظة مختصرة بأنك لا تحتاجين إلي .. وأنك لن تعودي أبدا ..
قالت بصوت مختنق :- أنا آسفة ... هل أزعجت ملاحظتي كبريائك الهش ؟؟ أهذا ما جاء بك ... الثأر لكرامتك لأنني أنا من رحل أولا ...
توتر فمه وهو يقول بغضب :- لا ... ملاحظتك صفعتني لأنني أدركت إلى أي حد أنا أحتاج إليك .. إلى أي حد أحبك .. وأتمسك به ..
هبت وافقة وهي تهتف به بانفعال :- توقف ... توقف بحق الله .. استمع إلى نفسك .. منذ يومين كنت تخبرني بأنك لن تحبني أبدا .. بأنك لن تثق بي أبدا ... بأنك ستحتقرني فور أن تنالني .. كيف تجرؤ على المجيء إلى هنا و ادعاء مشاعر زائفة اتجاهي ؟؟؟
قال بخشونة :- أنا كذبت ...في كل ما قلته لك سابقا ... أنا كذبت ..
صرخت به فاقدة أعصابها :- ظننتك لا تكذب أبدا ...
رد عليها صارخا بنفس الانفعال :- بسببك أنا أفعل كل ما وعدت نفسي يوما ألا أفعله ...
ساد الصمت إلا من أنفاسهما العنيفة التي دوى صداها في فضاء الغرفة ... قبل أن يقول بقهر :- بسببك ... ولأجلك .. أنا أحطم كل الأدرعة التي أحطت بها نفسي لسنوات ... لأجلك أنا أكذب .. وأخلف وعودي .. وأقع في حبك .. وآتي إليك جاثيا على ركبتي كي أطلب منك السماح ..
أفلتت منها شهقة بكاء وهي تقول :- أنا لا أصدقك ... أنا لا أريدك .. أنت جرحتني مرة ...وأنا لن أتمكن من احتمال أن تجرحني مجددا ..
:- زين ..
تراجعت عندما اقترب منها وهي تقول بصوت خنقته الدموع :- إذهب .... أرجوك .... أريدك أن تذهب ... قبل أن تعود والدتي .. إذ لا أريدها أن تعرف عن علاقتي بك ..
أطلق ضحكة مريرة وهو يقول :- أتخفينني أنت عن عائلتك الآن ؟؟
قالت بصوت أجش :- نعم .. أخفيك .. إنما ليس جبنا .. كما كنت تفعل أنت .. حرجا فقط .. إذ أنك عاري الأكبر ... عار لن أتمكن أبدا من محوه من حياتي ...
شحب وجهه وهو ينظر إليها غير مصدق ... في حين كانت هي تتحاشى النظر إليه .. وكأنها ستنهار فور أن تفعل .. دوى فجأة صوت ريا يقول بهدوء :- من الأفضل أن تذهب ... إذ اقترب موعد عودة والدتنا .. أنت لا تريد لها أن تعرف عنك ... على الأقل ليس بهذه الطريقة ..
كاد رائد يرد بلهجة لاذعة ... ما الذي تعرفه أم رمت ابنتها التي ربتها طوال حياتها في الشارع .. عن الحمية والأمومة .. إلا أن ما رآه في عيني ريا أسكته .. لقد كانت تحذره .. تخبره صامتة بأن رحيله هو الحل الأفضل في الوقت الحالي ... بطريقة ما ... عرف رائد أنها كانت تستمع إلى حديثهما .. وأنها لا تكرهه بقدر ما كانت لحظة فتحت له الباب ..
أخذ نفسا عميقا .. ثم قال مخاطبا زين :- سأرحل ... إلا أنني سأعود يا زين .. أعدك .
بدون أي كلمة أخرى ... غادر الشقة مغلقا الباب وراءه بهدوء ... تاركا الشقيقتين تتبادلان نظرة طويلة .. قبل أن تقول ريا بهدوء :- علينا أن نتحدث ..




في قلب الشاعر(الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن