الفصل التاسع عشر
فتحت عمتها غالية الباب لتستقبلها بالارتياح الشديد الذي ظهر على وجهها المتعب وهي تقول :- آه .. أهلا بك يا أسرار ... شكرا لأنك قد استجبت لدعوتي وقدمت لرؤيتي
استسلمت أسرار لعناق عمتها وقبلاتها الحارة قبل أن تدخل برفقتها إلى منزل آل عمري الكبير شاعرة بأنها تتخطى حدودها بتجاوزها حرمات قائد .. وتسللها إلى منزله بدون علمه
تفكيرها هذا كان غريبا على اعتبار أن عمتها هي التي اتصلت بها مساء الأمس طالبة منها القدوم لرؤيتها نهارا .. أثناء تواجد قائد في مكتبه .. فلم تجد أسرار بدا من استغلال ساعة الغداء للمجيء محاولة إقناع نفسها بأنها لا تذنب ... حتى وعمتها تظهر لها بوضوح أن قائد نفسه هو السبب الرئيسي لرغبتها برؤية أسرار .. الأمر حيرها .. وأثار استغرابها .. أن ترغب عمتها بالتحدث إليها هي عن قائد بالذات .. إلا أنه أثار فضولها أيضا وهي تسرع بعد خروجها من مكتبها في قيادة سيارتها إلى هنا ... إذ كانت في نهم غير مألوف لمعرفة أي شيء عن ابن عمتها الغامض والصامت .. والذي تمكن بسهولة من إخراجها عن طورها في لقائهما الأخير في حفل خطوبة أفكار .. ودفعها للإفصاح عن أشياء لم يسبق أن قالتها لأحد
لقد أحست عندما تركته واقفا في مهب هواء الليل البارد عائدة إلى صالة الاحتفال بأنه قد انتهكها باقتحامه أدق خصوصياتها .. وبأنها لن تكون ندا له إلا إن اقتحمت هي الأخرى جدار غموضه الشامخ والذي كان يستفزها إلى أبعد الحدود ...
منذ صغرها ... كانت تنفر منه ... ابن عمتها الضخم الجاف ... هو لم يكن كذلك دائما ... إذ أنها ما تزال تمتلك تلك الذكرى الباهتة عندما كانت في الخامسة من عمرها ... وكان هو في الثانية عشرة ... عندما جاءت العمة غالية في إحدى زياراتها النادرة .. إذ عرفت لاحقا بأن زوجها كان كثيرا ما يمنعها من زيارة أقاربها ... برفقة أولادها الأربعة ... تذكر جيدا عندما أخذ رائد وهمام يغيظونها ساخرين من شعرها الأشعث .. عندما فقدت أعصابها واندفعت بكل قواها نحو رائد الوقح ... تدفعه ليسقط على الأرض ثم تنهال عليه ضربا بقبضتيها الصغيرتين حتى أحست بنفسها ترتفع عن الأرض ويدين تمسكان بخصرها وتبعدانها عن رائد الذي صاح ساخطا ( أنت كالقنفذ ... لست مغطاة بالشوك فحسب .. بل و تشكين أيضا )
كادت تهاجمه من جديد فور أن لامست قدماها الأرض ... ثم سمعت صوت قائد يقول بحزم ( أزعجها من جديد .. وسأضربك أنا هذه المرة يا رائد )
طبعا كانت ردة فعلها الدفاعية على دفاعه الغير معتاد عنها أن استدارت .. وركلته في ساقه بقوة دافعة إياه للتأوه بألم ... ثم ركضت لتختفي داخل المنزل مختبئة ..
كانت أسرار تخافه ... ولم تعرف قط السبب .. ربما لأنها لم تعرفه قط .. وقد نفرت دائما من كل مجهول لها .. إلا أنها الآن وقد وكشفت له الكثير عن نفسها .. تتوق بشدة لأن تعرفه .. لأن تعرف ما يصنع من قائد العمري الرجل الذي هو عليه .. المزيج بين رجل الأعمال الصارم والعبقري .. والرجل الهمجي المجنون الذي لا يتورع عن افتعال فضيحة إن فقد أعصابه .. الرجل الدافيء الذي احتضنها في لحظة ضعف مؤكدا لها بأنها أغلى من أن يسمح لها بأن تتألم ... الرجل المتفهم الذي استمع إليها ... ليقول لها ما احتاجت لسماعه بالضبط
من تكون بالضبط يا قائد العمري ؟؟
منزل آل عمري كان مختلفا في كل تفاصيله عن منزل آل شاعر ... لم يكن موازيا له بأي طريقة في الترف .. ذاك الذي تحرص والدتها على نثره حولها أينما حلت كي يراه الآخرون ... لقد كان بسيطا ... دافئا .. حميميا بأثاثه القديم والمريح .. وسجاداته الموروثة .. والصور العائلية المعلقة في كل مكان ..
كان من الصعب على أي شخص غريب أن يصدق أن هذا المنزل الواسع .. والقديم .. والمبني منذ ما يزيد عن مئات السنين في منطقة رغم قدمها إلا أنها ما تزال محافظة على عراقتها وانتقائية سكانها من عائلات لم يتغير معظمها منذ أجيال .. أنه حيث يقيم قائد العمري ... البليونير العصامي المعروف .. وكأنه لا يهتم أبدا بما يراه الآخرون .. وكأن الهدف من سعيه الحثيث طوال السنوات السابقة في بناء ثروته الهائلة لم يكن للعيش الرغيد بأي طريقة
ما الذي يحفز رجلا مثلك يا قائد العمري ؟؟؟
دعتها عمتها لمرافقتها إلى المطبخ كي تعد القهوة وهي تقول :- اليوم إجازة فتحية ... المرأة التي تأتي كل يوم من الصباح حتى المساء لتنظيف المنزل .. أفضل عادة القيام بكل شيء بنفسي ما دامت الصحة موجودة .. إلا أن قائد يصر على أنني لست مضطرة للعمل مادام قادرا على إحضار من يساعدني
ضحكت قائلة بحنان :- لوكان الأمر بيده ... لأخرجني من هذا المنزل منذ سنوات .. ولمنعني من الطهي والتنظيف وفعل أي شيء في حياتي ... قائد مهووس بالسيطرة ... إلا أنه يتوقف مكانه فور أن أقول لا .. أظنه ذكي جدا ليعرف متى أعني تلك اللا ..
منعت أسرار نفسها بمعجزة من التعليق بتهكم على هوس قائد بالسيطرة ... هو لم يتقبل اللا منها عندما قذفتها في وجهه ... بل ظل يسعى بعناد حتى حقق ما يريد ...
حملت صينية القهوة عن عمتها وسارت معها حتى غرفة الجلوس ... جلست عمتها أمامها وهي تمسك بفنجانها متأملة أسرار مليا قبل أن تقول :- لابد أنك تتساءلين عما دفعني للاتصال بك أنت بالذات يا أسرار .. في الواقع .. منذ سنوات طويلة جدا .. أنا ما عدت اعرف أي شيء عن قائد .. أي شيء .. هو ابني .. وأنا اعرف أي إنسان رائع هو .. أنه ابن مثالي تتمناه أي ام .. وأخ لا يعلى عليه لأفكار و أريج .. إلا أنني لا أعرف عنه أي شيء آخر .. قائد أشبه بـ ...
صمتت محاولة العثور على كلمة تصف ابنها .. ثم قالت :- بالبئر .. لا يعرف أحد قراره .. عندما أخبرني قائد قبل أشهر أنك تعملين لديه .. كان أول ما خطر لي هو أن هناك من يمتلك الوسائل للدخول إلى عالم قائد .. إلى معرفة ما يخفيه قائد .. من هو قادر على أن يطمئنني عن قائد
قالت أسرار غير مصدقة :- هل أنت تطلبين مني أن أتجسس عليه لأجلك ؟؟ .. أن أنقل لك أخبار عمل قائد يا عمتي ؟؟
هزت عمتها رأسها وهي تقول :- لا لا ... أنا لن أفهم أي شيء عن عمل قائد حتى لو أخبرتني .. ما أقوله هو أنك ربما ... ربما تستطيعين أن تكوني صديقة له ..
كبتت أسرار بصعوبة ضحكة كادت تفلت منها .. هي وقائد أصدقاء !!! عشم إبليس في الجنة ... قالت بنفاذ صبر :- أنا وقائد نادرا ما نتفاهم يا عمتي ... بل لا يحتمل أحدنا صحبة الآخر .. فكيف تتوقعين منه أن يجعل مني صديقة له ؟
( هذا إن قبلت أنا بأن أجعل ذلك الرجل المتعجرف الغامض صديقا لي ... أريد أن أفهمه .. طبعا .. ولكن أن أجعله صديقا !!!! مستحيييييييل )
قالت عمتها بحزن :- أعرف بأن الأمر صعب ... وأنا ... لقد كنت أتوقع تحفظك حول الأمر .. أنا فقط قلقة عليه .. إذ أنه لا يعيش أبدا ... حياة قائد منحصرة بين عمله ... والساعات القليلة التي يقضيها في البيت منغلقا على نفسه .. أحيانا .. أحيانا فقط يبدو لي طبيعيا .. فآمل أنه قد تجاوز الماضي .. وأتمنى أن يبدأ بالنظر إلى نفسه .. والاهتمام بمستقبله .. أن يتزوج .. وينجب أطفالا .. وإذ به يعود .. ليحبس نفسه بين جدران لا مرئية .. نابذا إياي مع الجميع خارجا .. كما لو أنه في السابعة عشرة من جديد ..
تدفقت دموعها بغزارة صدمت أسرار وهي تستشعر القهر الكبير الذي نضح به صوت عمتها وهي تطرق على صدرها بكفها .. محاولة أن تكبح الألم الذي كان يمزق أعماقها بلا رحمة فظهرت دلائله على وجهها المتشنج .. انتقلت أسرار لتجلس إلى جانبها قائلة بقلق :- اهدئي يا عمتي ... أنت .. أنت تعظمين الأمور .. فأنا لم أر في حياتي رجلا واثقا من نفسه .. مغرورا .. متكبرا وعنيدا كقائد ... أظن أنك تبالغين في خوفك عليه ..
رمشت عمتها بعينيها تطرد الدموع التي لم تتوقف عن الانهمار بدون توقف وهي تقول وكأنها لم تسمع ما قالته أسرار :- لا تغرنك المظاهر يا أسرار ... قائد لم يكبر قط عن سن السابعة عشرة .. قائد لم يعش يوما واحدا بعد تلك الأيام الثلاثة المشؤومة .. عديني بأنك ستحاولين التحدث إليه ... كوني صديقته .. موظفة لديه .. أي شيء .. أريده أن يتواصل مع شخص ما خارج نطاق العمل ... كنت لأطلب من همام أن يفعل ذلك .. إذ أن والدك قد اتصل بي مساء الأمس ودعا العائلة إلى العشاء في منزله بعد أيام ... إلا أنني لمست ردة فعل قائد خلال وجودك هنا في زيارتك الأولى لي ... لقد كان متحفزا كقط على صفيح ساخن .. وانا لم أر قائد قط متوترا إلى ذلك الحد .. أنت فقط من تستطيع إخراج قائد عن طوره
ضحكت أسرار قائلة بارتباك :- تعنين إغضابه ... أنا أقر بأنني اتمتع بوهبة في إثارة جنون قائد ..
هزت عمتها رأسها بحماس وهي تقول مؤكدة :- نعم ... هذا ما أعنيه بالضبط ... أغضبيه .. عانديه ... استفزيه ... افعلي كل ما يتطلبه الأمر كي يشعر فقط ... كل ما أريده هو أن يشعر ..
( لقد كنت ميتا لسبعة عشر سنة خلت يا أسرار)
( أنت ترغمينني بتحديك لي على أن أعيش .. وقد توقفت عن الحياة منذ فترة طويلة .. طويلة جدا )
لم تعرف لم أحست أسرار بأعماقها تهتز وترتجف مرة واحدة وصدى كلماته لها يتردد داخل عقلها ... أحست بصدرها يضيق ... وبأنفاسها تعلق في حنجرتها وهي تتساءل من جديد ... ما الذي قتلك قبل سبعة عشر سنة يا قائد ؟؟؟
(قائد لم يعش يوما واحدا بعد تلك الأيام الثلاثة المشؤومة )
أرادت أن تسأل عمتها عن الأيام الثلاثة المذكورة إلا أنها لم تستطع .. صوتها بدا وكأنه عاجز عن النطق بحرف واحد وهي تشعر بالدماء تتجمد في عروقها والأسئلة تنهمر فوق رأسها الواحد تلو الأخرى بدون أي جواب يشفي غليلها
لقد جاءت إلى منزل عمتها طلبا للأجوبة .. وها هي تكاد تخرج منه وقد تضاعف فضولها أضعافا .. وباتت مسألة معرفتها حاجة أكثر منها رغبة .. تمكنت من أن تقول أخيرا بصوت أجش :- سأحاول يا عمتي .... سأحاول
أنت تقرأ
في قلب الشاعر(الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Storie d'amoreرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للكاتبة blue me