الفصل الثاني

6.6K 152 5
                                    

الفصل الثاني





حدق كل منهما في الآخر لأكثر من دقيقة ... لم يشعر خلالها أحدهما بعدنان ينسحب مغلقا الباب ورائه تاركا إياهما في حربهما الصامتة .. كان هو أول من قطع الصمت بقوله الساخر :- أسرار الشاعر ..... صامتة .... لم أتخيل أني قد أعيش قط لأرى هذا اليوم ..
بدأت تفوق من ذهولها تدريجيا .. نظراتها الذهبية تستعيد صلابتها ... فمها الجميل الرقيق يستحيل إلى خط متوتر وهي تنظر إليه وكأنها ما تزال غير متأكدة من أنه هو ... بأنها تقف بالفعل مباشرة أمام قائد .... قائد الذي احتل مكتب السيد نور وملأ مقعده الجلدي الكبير بعرض كتفيه مسببا لها الارتباك وهي تقارن تلقائيا بين بنيته القوية والضخمة .. وبنية السيد نور القصيرة والمستديرة نوعا ما ..
مشاعر عارمة انتابتها في تلك اللحظة ... مشاعر متناقضة ومتزاحمة من الغضب والغل والحقد والإحساس بالذنب .. كللها إحساسها كفأر علق في المصيدة وهي تدرك الحقيقة المرة .. قائد هنا ... يجلس أمامها كمديرها الجديد ... مديرها هي .. الجديد ..
قالت أخيرا بتوتر :- أنت .... أنت هو الرجل الذي ابتز السيد نور تقريبا حتى انتزع منه أملاكه ...
لقد كانت على مر السنوات تسمع خلسة والدها وهو يتحدث عما عرفه من إنجازات قائد الكبيرة رغم سنه اليافع .. كان الزهو الذي يتخلل صوت والدها وهو يذكره لصديق أو أمام والدتها .. يثير كل براكين غضبها .. فكيف لوالدها أن ينسى كل ما فعله قائد وكأن إنجازاته العظيمة تشفع له ... بينما يظل هو وجميع أفراد العائلة يذلونها حتى الآن على ما فعلته هي ..
تراجع فوق مقعده وهو ينظر إليها متفحصا بهدوء .. ثم قال :- الابتزاز ليس من طبعي يا أسرار ... لقد امتلكت هذا المكان بطريقة قانونية تماما ..
:- لماذا .. ؟؟؟
كان هذا أول سؤال خطر في بالها منذ سمعت اسمه وقبل حتى ان تراه ... لماذا ؟؟؟ لماذا هذه الشركة بالذات ؟؟ حيث تعمل .. وتركز جميع طاقاتها ... وتكرس نفسها بعيدا عن الأشباح التي تظلل حياتها منذ وفاة عمار .. قال ببرود :- أنا لم أعرف بوجودك في هذه الشركة كموظفة حتى رأيتك صدفة هذا الصباح .. فلا تطري نفسك كثيرا يا أسرار .. أنت لا تستحقين الثروة التي دفعتها مقابل وضع يدي على شركات النور ..
زحف لون أحمر فوق وجنتيها الشاحبتين مما جعله يرمش بعينيه وهو يتشرب تفاصيلها بشيء من التوتر .. أسرار لم تتغير كثيرا عن ابنة الثامنة عشرة التي رآها لآخر مرة منذ تسع سنوات ..
طويلة القامة ... نحيلة ... وجهها الشاحب كان صغيرا .. بذقن مدببة ووجنتين مرتفعتين .. معالمها دقيقة تماما .. فم رقيق الشفتين وأنف حاد شابه طبعها الذي يذكره حادا كالسيف ... عيناها فقط كانتا الشيء الوحيد البعيد عن الدقة في وجهها المألوف ... واسعتين برموش كثيفة تتوسطهما بركتين عسليتين ناريتين مثلها تماما ..
شعرها الأسود و الذي يذكره أجعدا ... ثائرا ... مجنونا ... والمكبوح بمعجزة الآن في عقدة صارمة خلف رأسها .. كان العلامة الوحيدة على نضوجها ... على أن المرأة الواقفة أمامه .. الأرملة ذات السبعة وعشرين عاما ... ما عادت ذات المراهقة المتمردة والوقحة التي يذكرها .. أم تراها ظلت كذلك ؟؟
قالت بلهجة لاذعة :- لماذا استدعيتني إلى مكتبك إذن ؟؟ كي تطردني بنفسك ؟؟ لست مضطرا لهذا إذ أنني أنا من سيرحل ... سأجمع متعلقاتي كلها وأغادر هذا المكان فورا ..
اندفعت دون تفكير نحو الباب يحركها غضبها الأعمى الذي راكمته السنين .. وإذ بصوته الحاد كلسع السياط يوقفها على الفور :- توقفي ..
استدارت نحوه .. النار تتراقص في عينيها وهي تراقبه ينهض من مكانه بهدوء .. إنما تبدو ملامحه الصارمة أبعد ما يكون عن هدوئه هذا .. عيناه تحاصران عينيها وكأنه يتحداها أن تعصي أمره ..
دار حول مكتبه حتى استند إلى واجهته مقابلا لها .. عقد ساعديه أمام صدره وهو ينظر إليها مطولا مما اثار أعصابها .. قبل أن يقول :- لقد تحريت عنك يا اسرار .. أنت موظفة مجتهدة .. لماذا قد أرغب في صرفك من العمل ؟؟
ردت على الفور وكأنها تبصق :- كي تنتقم ..
:- أنتقم مم بالضبط يا أسرار ؟؟ ... والدك طردني ليس أكثر من منزله أمام ضيوفه من علية سكان المدينة تقريبا ..إلا أنه لم يزوجني لأول طالب يقرع بابه ..
اصفر وجهها مرة واحدة وكأنه قد صفعها بقوة حتى خشي للحظة من أن تفقد وعيها أمام عينيه .. هو لم يكن متأكدا حقا من معلوماته التي استمدها من تساؤلات والدته حول زواج أسرار المفاجيء والسريع من رجل لا يرقى حقا لمصاهرة أيمن الشاعر ... لقد كان شكا لا أكثر حتى أكدته الصدمة التي ارتسمت على وجهها ..
وهكذا ... وخلال لحظة ... تلاشى كل غضبه ليحل محله إحساس عارم بالذنب لمهاجمته غير العادلة لها ... بالعطف حتى وهو يعرف بأنها مستعدة لبصق أي عاطفة يقدمها نحوها في وجهه ..
بقوة مثيرة للإعجاب تمكنت من تمالك نفسها وهي تقول ببرود :- لماذا استدعيتني إلى مكتبك يا قائد ... ما الذي تريده مني إن لم يكن صرفي من العمل .. ؟؟
:- إعادة تعارف .... فنحن أقارب في النهاية .. لقد مرت تسع سنوات طويلة جدا يا أسرار .. وقد بدأت الجسور بين كل من والدك ووالدتي تمتد مجددا منذ وفاة زوجك ... والآن مع مرضه ... أظن الوقت قد حان لانتهاء العداوة بين العائلتين .. كما أفكر أنا بوالدتي يجب أن تفكري أنت بوالدك .. البداية يجب أن تكون من هذه اللحظة .. في هذه الغرفة ... بيننا أنا وأنت ...
نظرت إليه مطولا دون أن يظهر أي تعبير على وجهها الجامد ... قبل أن تقول بصوت مكتوم :- هل سيؤثر ردي على مصير عملي هنا ؟؟
قطب متوترا وهو يقول :- لا ...
ساد صمت ثقيل أحس قائد بأن الهواء خلاله كان مشحونا بدوره بذبذبات توتر ثقيلة جعلت حتى التقاط أنفاسه عملا صعبا .. قالت أخيرا بهدوء :- هل أستطيع العودة إلى مكتبي الآن ؟؟
استعاد بروده مرة واحدة والغضب يعود ليغلف قلبه وكيانه ... قال بهدوء مماثل :- بالطبع ..
وبدون أي كلمة إضافية .... غادرت المكان ..





في قلب الشاعر(الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن