الفصل الرابع والأربعون

5.1K 143 5
                                    

الفصل الرابع والأربعون






الدقائق بدت له كأنها دهور .. كان جالسا خارج غرفتها بانتظار انتهاء الطبيب من إجراء جميع الفحوصات اللازمة بنفاذ صبر .. يكاد يشعر بإرهاقه يغلبه إذ لم ينم منذ البارحة .. غير مصدق لحقيقة أنها قد استيقظت أخيرا . حتى وثماني عشر ساعة قد مرت على فتحها عينيها ..
الصدمة التي أحسها عندما رآها تحدق به جعلته يجمد مكانه للحظات وهو يتساءل إن كان يتخيل .. لابد أنه يتخيل .. حتى ضغطت على أصابعه مجددا والذعر يرتسم في عينيها الزرقاوين مما جعله يدرك بأنها قد أفاقت بالفعل ..
:- رباه ... ليلى .. لقد أفقت حقا ... رباه .. الحمد لك .. الحمد لك ..
رفع يدها إلى فمه يقبلها .. ثم مال ليطبع القبلات فوق وجهها وجبينها وهو يردد بهستيريا :- الحمد لله .. الحمد لله ..
حتى أصدرت صوتا مكتوما من وراء قناع الأكسجين الذي غطى نصف وجهها .. فاستعاد ما يكفي من صوابه كي يتركها لاستدعاء الطبيب .. وخلال دقائق كان قد أخرج من الغرفة التي احتشدت بالأطباء والممرضات .. حيث وقف ذاهلا لدقائق .. يحدق بالباب المغلق في وجهه كما هو الآن .. فلم يشعر بهزار تعود لتقف إلى جانبه سائلة إياه بقلق :- همام ... ما الأمر ؟؟
ما حدث بعدها كان شيئا لم يفعله منذ... منذ وفاة أبيه .. إذ سمح لساقيه أن تخذلاه ... وترك نفسه يسقط فوق أحد مقاعد الانتظار في الخارج .. بينما ترك العنان لدموعه تفيض من عينيه بدون تحفظ ..
لم يدرك أنه أصاب هزار بالذعر حتى رآها تهتف به بهستيرية سائلة إياه إن كان مكروها قد أصاب ليلى .. عندها تمكن من تمالك نفسه إلى حد سمح له بإخبارها بأن ليلى قد أفاقت ..
عاد إلى حاضره من ذكريات ما حدث ليلة الأمس عندما فتح باب الغرفة وخرجت إحدى الممرضات فهب همام سائلا إياها بقلق :- هل انتهى الطبيب من فحصها ؟؟
ابتسمت له بدون أن تفضح ملامح وجهها الهادئة أي شيء من أفكارها وهي تقول :- دقائق أخرى فقط ..
أغلقت الباب ورائها ثم مرت من أمامه دون أن تمنحه أي إجابة أخرى شافية ... فعاد يجلس مكانه متوترا وهو يتمنى لو أنه لم يرغم والدته وشقيقاته على الرحيل وقد ظللن هنا منذ اتصل همام بوالدته صباحا مخبرا إياها بالأخبار ... حتى أسرار .. جاءت للزيارة برفقة قائد ظهرا كي تطمئن على ليلى ... التي كانت منذ يقظتها في حالة من التشوش واللا مرئية .. تراقب الجميع من حولها وكأنها لا تراهم ... حتى قرر بأنها قد اكتفت من الزيارات وضجيجها فطلب منهم الرحيل ..
خرج الطبيب أخيرا في اللحظة التي كاد فيها همام يفقد أعصابه ... وعندما تمكن من الدخول إليها من جديد ... جمد عند الباب مرتبكا .. ينظر إليها وهي تبدو كالملاك فوق سريرها الناصع البياض ... عيناها الزرقاوان كانتا تحتلان نصف وجهها الشاحب الذي نحل كثيرا ..
لقد أكد له الطبيب أن خروج ليلى من غيبوبتها الطويلة بدون آثار جانبية تذكر يعد معجزة بحد ذاتها ...وأكد له بأنها تحتاج إلى كثير من الوقت حتى تستعيد تركيزها الذهني والحركي ... وأنها على الأرجح مشوشة للغاية الآن .. وتحتاج إلى الكثير من المراعاة ...
لو تعرف إلى أي حد كان مستعدا لمراعاتها ... لتوقفت عن النظر إليه بتلك الطريقة وكأنه رجل غريب لا تعرفه .. منذ فتحت عينيها وهي تتحاشى النظر إليه .. دون أن تخفي عنه ضياعها ... مشوشة كانت .. إلا أنها تذكر تماما ما حدث قبل غيابها عن الوعي إذ كان أول ما نطقت به هو اسم هزار ..
طمأنها على الفور بأن هزار بخير .. وأن الرجل الذي اختطفهما لن يؤذيهما مجددا دون أن يخبرها بالتفاصيل .. إذ ما كانت بحاجة إلى معرفة ما حدث حقا فتتعرض لصدمة هي ليست بحاجة إليها الآن .. فكان سؤالها عن هزار هو أول وآخر ما نطقت به مخاطبة إياه ..
سلبيتها هذه لم تكن منحصرة به هو .. فهي أيضا بدت عاجزة عن التعاطي مع لهفة عائلته عليها .. مع دموع هزار وهي تعتذر باضطراب مرارا وتكرارا على ما حدث .. مع فرحة والدته بإفاقتها ودفء كل من نوار وأسرار .. إذ بدت وكأنها في حاجة ماسة للبقاء بمفردها كي تتعاطى مع كل شيء .. وهمام كان قادرا على لمس ذعرها الواضح من إحساسها المفاجيء والمقيت بالعجز والهشاشة في وضعها الحالي ..
أحست بوجوده أخيرا ... فأدارت رأسها لتنظر إليه .. لتلتقي نظراتهما بصمت .. كل ما فيها كان صامتا .. عيناها .. شفتاها .. لغة جسدها .. وكأنها ترفض التعاطي معه بأي طريقة .. وكأنها .. وكأن جزءا منها يحمله مسؤولية ما حدث ...
كبح رعدة جسده الرافضة تماما للفكرة .. لن يسمح لها بحجب نفسها عنه .. ليس الآن على الأقل .. ليس وهي في أمس الحاجة إليه ... ولاحقا .. عندما تستعيد قواها .. تستطيع أن تقاتله كما تريد ..
قال بهدوء :- كيف تشعرين الآن ؟؟
لم تمنحه ردا .. بل أشاحت بوجهها من جديد ... تذكر ما قاله له الطبيب عن حالتها النفسية الهشة .. عن تعرضها للإصابة بالاكتئاب بعد غيبوبتها الطويلة ..
خطا داخل الغرفة وهو يقول :- يقول الطبيب أنك تستطيعين العودة إلى البيت خلال أيام .. عندما تستعيدين قواك بشكل تام ..
رددت بصوت متهكم :- البيت !!
لم يعلق ... اقترب .. وجلس على الكرسي المجاور للسرير وهو يقول :- لقد تحدثت إلى فراس الحولي هذا النهار .. هو يوصل لك تهنئته بالسلامة .. ويؤكد لك بأن عملك ما يزال في انتظارك .. وأنه أبدا لن يفرط بموظفة عبقرية مثلك ...
أيضا لم ترد .. فصمت متأملا يديه للظات قبل أن يقول :- أنا أعرف ما تتوقين لقوله لي يا ليلى .. حتى وأنت تعجزين في حالتك هذه عن العثور على صيغة تقولينه فيها .. اسمحي لي أن أوفر عليك عناء قوله ... لأنني لن أتحرك من هنا .. ولن أتزحزح من جانبك .. حتى تشفي تماما ... أتسمعينني ؟؟
نظرت إليه بحدة .. ثم شهقت عندما رأته ينهض ليجلس إلى جوارها على حافة السرير .. ملتصقا بها تماما ... نظر إلى عينيها المتسعتين بمزيج من الصدمة والخوف والترقب .. ثم التقط كفها وهو يبتسم بخبث قائلا :- ليلى سلطان معقودة اللسان .. لم أتخيل قط أنني قد أعيش طويلا بما يكفي كي أرى هذا اليوم ...
رفع يدها إلى فمه .. وقبلها برقة .. ثم قال بصوت خافت :- اسمحي لي فقط أن أكون إلى جانبك الآن ... الآن فقط .. وبعدها قاتليني كما تريدين .. وأعدك بأنني لن اردعك ...
التقت نظراتهما طويلا ... هي بحالتها المضطربة .. لم تكن تمتلك حقا ما تقوله .. وهو .. كان مكتفيا تماما بما لديه الآن ... حتى لو أنه في أعماقه كان يعرف أنه قد ينتهي قريبا .





في قلب الشاعر(الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن