الفصل السادس والعشرين
لم يكن همام قط ممتنا لوجود كل من ابني عمته قائد ورائد كما كان خلال الأيام الثلاثة الماضية ... إذ وقفا إلى جانبه وإلى جانب العائلة منذ وفاة والده حتى الآن وأيام العزاء توشك على الانتهاء ... كانا كالصخرة في وقت فقدت العائلة فيها تماسكها ولم يتخطى أحدهم الحدث المفاجيء والصادم .. لوفاة أبيه وقد كان بخير في صباح ذلك اليوم عندما رآه همام في مكتبه .. حتى همام ... الذي كان يجاهد كي يتمكن من استقبال المعزين بما يليق بابن أيمن الشاعر الوحيد .. كان ما يزال مذهولا عندما ربت قائد على كتفه بعد انتهاء المساء الأول .. وقل عدد الحضور .. قائلا له بهدوء :- أستطيع تدبر الأمر في غيابك يا همام ... خذ بعض الوقت لنفسك .. اذهب ..
وكان يفعل .. كل يوم عندما يبدأ المعزين بالانصراف .. كان همام يتسلل إلى خارج المنزل .. فيدور حوله ليعتكف لساعات في زاوية مظلمة لا يراها أحد ... يجلس على الأرض الحشيشية الخضراء .. و يفعل ما لم يكن يجرؤ على فعله على الملأ ..
في الأمسية الأولى ... بكى كطفل صغير حتى تمكن منه الإرهاق .. ثم أرجع راسه إلى الوراء غافيا بعد قضاءه ساعات طويلة بدون نوم ... ثم استيقظ مرتعشا وهواء الليل البارد يلفحه ..
في الأمسية الثانية ... لم يطل اعتكافه ... إلا أنه لم يبك هذه المرة .. اكتفى بالتحديق الجامد في الفراغ .. عازلا عقله عما حوله .. حتى قرر أن يعود من جديد إلى العزاء ليعفي قائد الذي قام بكل الإجراءات اللازمة مستلما القيادة فور علمه بما حدث ... موفرا على همام عبئا لم يكن في حالة تسمح له بحمله ..
اليوم ... هو اليوم الثالث للعزاء ... تمكن همام من التسلل في بداية المساء ... والانزواء بنفسه في المكان إياه .. جامدا من جديد .. إنما مفكرا هذه المرة .. وهو يخاطب روح والده ... لماذا الآن ؟؟ لماذا بعد أن عدت أخيرا ؟؟ بعد أن استعدتك .. واستعدت باقي أفراد عائلتي ؟؟ لماذا الآن وأنا في أمس الحاجة إليك .. والعائلة كلها في حاجة إليك .. شقيقاتي .. لمن تركتهن ؟؟ لي أنا ؟؟
أطلق ضحكة مريرة والدموع تحرق عينيه فقاومها بإرادة من حديد .. ما الذي يستطيع هو تقديمه لهن ؟؟ هوالذي اعتاد أن يعيش حياته لنفسه فقط .. كيف له هو أن يعتني بهن ؟؟ بهزار الطفلة .. الضائعة تماما ... بنوار ... التي ربما هي تحظى بزوجها الذي كان دعما للعائلة هو الآخر مثبتا شهامته حين ترك نوار في منزل العائلة طوال الايام الثلاثة السابقة .. في حين كان يأتي هو منذ الصباح الباكر .. فلا يرحل إلا ليلا مطمئنا لعدم حاجة أي شخص إلى أي شيء ..
وماذا عن أسرار ... أسرار التي كانت تعاني من حالة إنكار شديدة ... أسرار التي كانت الثابتة بين نساء العائلة ..فكانت من استلم أمر المعزيات من النساء في حالة والدته الصعبة .. ثبات أسرار لم يكن نابعا عن قوة .. لقد كان نابعا عن رفض لتقبل الواقع لا أكثر .. رفض للاستسلام والاعتراف بحقيقة ما حدث خوفا من أن تنهار تماما هذه المرة .. أما والدته .. فهي لم تتوقف عن البكاء منذ أطلقت تلك الصرخة وهي تنادي باسم همام مذعورة .. ليقتحم الغرفة في اللحظات الأخيرة التي سبقت رحيل والده ... والده الذي أمسك بيده بقوة عندما وصل إليه همام ... وقال بصوت مختنق لم يسمعه سواه :- بناتي ... بناتي
رد محاربا نوبة ذعر كان سيصاب بها :- اهدا أبي ... شقيقاتي سيكن بخير
إلا أن والده لم يتوقف عن تكرارها :- بناتي ... بناتي يا همام ..
فكان الاسمان اللذان نطق بهما قبل أن يموت آخر ما قاله لهمام ..
مسح وجهه براحتيه وهو ينهض من مكانه ... شاء أم أبى ... هو وريث آل شاعر الآن .. وعلى عاتقه هو يقع عبء الاهتمام بشؤون العائلة .. هو الوصي .. وقد قضى تسع سنوات من حياته هاربا من عبء كونه الذكر الوحيد بين ثلاث إناث ... يبدو أن الإنسان يعود مهما حاول وابتعد نحو مصيره المحتوم ...
أنت تقرأ
في قلب الشاعر(الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للكاتبة blue me