04

67 4 53
                                    

تسعٌ و خمسونَ محاولةَ اتّصالٍ فائتةٍ من أوليفييه ، عشرةٌ من ميشيل ، و واحدةٌ من هوغو.
أطفأتُ هاتفِي و أعَدْتُ توجيهَ تركيزِي كاملاً نحوَ الطَّريقِ و قيادةِ سيّارةٍ تتَّجِهُ بي نحوَ حياةٍ جديدةٍ أفترضُ وجودَها.
ليسَ في يدِي حلٌّ مُنجٍ ، و لهذا أهرب ، أهربُ من نفسِي ، أستبدلُ بالهربِ مُجابهةَ فشلِ مسيرةِ حياتِي بأكملِها ، أهربُ من حقيقةِ أنَّني و بعدَ كلِّ هذه السّنواتِ ما حقَّقْتُ أيَّ شيءٍ ، ما حقَّقْتُ غيرَ أهدافٍ فارغةٍ أضَعْتُ في سبيلِها سنواتِ عُمرِي و أَبَحْتُ لمرضٍ مجهولٍ احتلالَ جَسَدِي.
اتّصلْتُ قبلَما وضَّبْتُ أغراضي بالخنزيرِ لينكولن ، أخبرتُه بأنَّني ما عُدْتُ أريدُ أيّةَ وظيفةٍ تجمعُني به ، و لو أرادَ طردي ، فلن ألومَه و لن أجعلَ طُلّابي يقفون في وجهِه كما يُخيَّلُ له.
ساهمَتْ خضرةُ الطّريقِ في تبديدِ شيءٍ من حرارةِ غضبي المرتفعة ، كما ضاعَ عن الأفكارِ عقلي إذ تاه ما بين حيواناتِ الطّريقِ و لافتاتِه و مناظرِه.
أشعرُ باسترخاءِ أعصابي لأوّلِ مرّةٍ منذُ أعوامٍ مضَتْ ، و هذا الشّعورُ كانَ الدّليلَ الأوّلَ و الوحيدَ إلى أنَّني كُنْتُ قَدْ نسيتُ نفسي تماماً في منعطفاتِ تحقيقِ أهدافي المتعالية.
أنا في طريقي إلى الجبلِ الآن ، تخيَّرْتُ في كوخٍ أملكُه مكانَ موتي ، و حتّى لو كُنْتُ وحيدةً دون مُودِّع ، المهمُّ لديّ ألّا تُهدَرَ سنواتُ عملي و دراستي في سمعةِ أنَّني لم أحسنِ استكشافَ خطبي.
وصلْتُ بسلامٍ في السّاعةِ الثّانيةِ ظهراً ، يبدو الكوخُ من الخارجِ غارقاً في الفوضى و الغبار ، لذلك أظنُّني مضطرّةً لتأجيلِ التّفكيرِ في أيِّ شيءٍ إلى ما بعد حملاتِ التّنظيف.
تركْتُ السّيّارةَ جانباً ، و ترجّلْتُ منها أتركُ فيها كلَّ أغراضي إلى حين أنتهي من تنظيفِ الكوخِ و إعدادِه لاستقبالِ الحياة.

..

في الثّامنةِ مساءً ، أتممتُ كاملَ الأعمالِ و دخلْتُ غرفةَ النّومِ لأريحَ جسدي ، شعرْتُ باقترابِ نوبةٍ جديدةٍ من الأعراضِ غيرِ المميتةِ بعد ، فضبطتُ المؤقِّتَ في هاتفي ، و استندتُ إلى السّريرِ أرجو أن تكونَ آخرَ نوبة ، أو أن تكونَ موتاً حقيقيّاً.
بدأ تنفُّسي يضيقُ كما العادة ، كما لو أنَّ هناك صخراً مستنداً إلى صدري يمنعُه عن الحركةِ و يزدادُ ثقلاً بمرورِ الوقت.
ثمَّ وصلْنا المرحلةَ التّاليةَ حيث تُشَلُّ أطرافي من بعدِها كاملُ عضلاتِ جسدي ، و لا أعودُ قادرةً على التّحكُّمِ فيها إذ لا تظهرُ أيَّ استجابةٍ مهما بسطَتْ لكلِّ أوامرِي الحركيّة.
أمّا في المرحلةِ الأخيرة فتبدأ الرّؤيةُ بالتّناقُصِ حتّى تفنى

..

وجدْتُني في غرفةِ عمليّاتٍ و حولي كثيرٌ من الأطبّاء ، عرفتُ الذّكرى التّي رُدَّ إليها إدراكي ، ذكرى عمليّتي الأُولى.
كُنْتُ أقفُ إلى قُربِ البروفيسور جيرو ، أنظرُ بشغفٍ إلى تحرُّكاتِ الأدواتِ التّي يحملُها فوقَ رأسِ المريضِ و أسجّلُ في ذاكرتي تفاصيلَ ما يفعلُ و كيف يظهرُ وجهُه من تحتِ القناعِ الطّبّيّ ، حَفِظْتُ من تلك العمليّةِ كلَّها ، من الضّروريِّ و حتّى الأسخف ، و لذلك فإنَّ عقلي يستعيدُها في لحظاتِه الأخيرة.
كُنْتُ أبدو في ذلك الوقتِ يانعةً خرقاءَ متحمِّسة ، كما بالضّبطِ بدا لي الطّبيبُ هوغو ، رأيتُ فيه نفسي ، و بِتُّ في اللّحظةِ أخافُ عليه من هذه الحقيقة.
انقلَبَتِ الصّورةُ في لحظةٍ ما ، و انتقلَتْ إلى استذكارِ اللّحظةِ التّي أردتُ أن أتذكّرَها حتّى موتي في وقتِ كُنْتُ أخوضُها.
كُنّا قَدْ أنهينا العمليّةَ الأولى ذاتَها ، و كُنْتُ أقفُ أمامَ غرفةِ العمليّاتِ ألتقطُ أنفاسي ، و أتأمّلُ قدوتي البروفيسور جيرو الذّي تمنّيتُ دائماً أن أكونَ مثلَه ، و فجأةً ، رأيتُه يلتفتُ نحوي ، و يقتربُ منّي ، مبسمُه الفخورُ جعلَني أهذي بكلماتِ شكرٍ غيرِ مفهومة ، ثمَّ و آنَ وضعَ يديه على كتفيّ ، أحسستُ بنموِّ أجنحةٍ خياليّةٍ في موضعِ كفّيه

_"دارسي مارتن ، أنتِ أفضلُ طالباتي ، عديني بأنَّكِ ستبقين الأفضل ، عديني دارسي"

_"أعدُكَ بروفيسور جيرو!"

...

تفتَّحَتْ رؤيتي ببطءٍ شديد ، لم تكن رائحتُه أوّلَ حقيقيٍّ استهلَّ به وعيي الاستفاقةَ كما في المرّةِ السّابقة ، و إنَّما صوتُ هاتفي.
أقمْتُ جذعي ببطءٍ شديدٍ و تناولْتُ الهاتف ، كانَ المؤقّتُ يشيرُ إلى مرورِ تسعِ دقائق و أربعٍ و عشرين ثانية ، لكنَّ هذا الوقتَ لن يفيدَني في استشرافِ موتي ، فأنا استغرقْتُ ما لا أعرفُ منه غائبةً عن الوعي.
نظرْتُ إلى لائحةِ الإشعارات ، و إذ بي أجدُ مئاتِ الرّسائلِ من أناسٍ أعرفُهم ، أوليفيه و طلّابي على العادة ، و رسالةً واحدةً من رقمٍ لا أعرفُه.
شدَّني المرسلُ غيرُ المعروفِ أوّلاً و رحتُ أقرأ المكتوبَ في رسالتِه ببطءٍ شديدٍ إذ لم تصبحِ الرّؤيةُ واضحةً بعد

'ليسَ هذا ما وعدتِني به'

فركْتُ عينيّ بتهالك ، ثمَّ التقطتُ الهاتفَ أهمُّ بإجابةِ مُحدِّثي.
آخرُ وعدٍ قطعتُه على أحدٍ غيري و ما وفيتُ به كانَ وعدي للبروفيسور جيرو ، و حياةُ البروفيسور قَدِ انتهت منذُ أعوام ، لا يُعقَلُ أنَّني المقصودةُ بالرّسالةِ إذاً

'عفواً ، لكنَّك على الأرجحِ مخطئ'

'لستُ مخطئاً طبيبة دارسي'

'من أنت؟'

'ليس مهمّاً ، تصبحين على خير'

'سأحظرك ما لم تخبرني'

'و سأكلّمُكِ من رقمٍ آخر ، ليس الأمرُ صعباً'

'أنت وقح'

'و أنتِ متعالية ، تصبحين على خير'

.
.
.
.
.
🩺يتبع🩺

هوني هناا🥺🥺💓💓
لاف يووو😭😭😭💓💓💓💓

أربعٌ وَ عِشرُونحيث تعيش القصص. اكتشف الآن