وصلْنا الكوخَ عندَ تمامِ السّاعةِ التّاسعةِ و الدّقيقةِ العشرين من بعدِها ، كانَتِ الشّمسُ قَدْ بسطَتْ دفأها على صقيعِ ثلجِ الجبل ، و أيقظَتْ في الجحورِ كلَّ ما غفّاه البرد ، و لوهلة ، بلغَتْ أن أفاقَتْ بحلاوةِ انعكاسِ أشعّتِها قلبي في جحرِ صدري ، قلبي الذّي ما أكنّه إلّا الغرور.
ركنَ سيهون السّيّارةَ خلفَ الشّجرِ قريباً من الكوخ ، ترجّلْتُ منها أوّلاً ، و خطوتُ بعيداً منها بعضَ الشّيءِ دون أن أنتظرَه أو أنظرَ إليه ، لم تكن لي وجهة ، أبحثُ و حسبُ لنظري عن زاويةٍ أفضلَ يلاقي بها الطّبيعةَ مرّةً أُخرى ، فهو و بعدَ أن تركَها ساعاتٍ الآن قَدِ اشتاقَ إليها ، و باتَ يخشى الرّحيلَ عنها إلى الأبدِ قبلَ أن يشبعَ منها_"أتعرفين ما مشكلتُكِ؟"
انتفضَ جسدي إذ سمعتُ صوتَه ، لم أشعر به إذ كانَ يسيرُ ورائي أبداً ، لم أسمع صوتَ خطواتٍ و لم ألحظ تحرّكَ خيالِه ، كُنْتُ غارقةً في التّأمّلِ حقّاً.
التفتُّ إليه بوجهٍ متجهّم ، كانَ يقفُ خلفي ببضعةِ خطوات ، يدسُّ يديه في جيوبِه ، و يرفعُ كتفيه بعضَ الشّيءِ ليدفّئ بتلابيبِ سترتِه رقبتَه ، و الأهمُّ بالنّسبةِ لي من بين كلِّ ما سبقَ و ذكرت ، يحملُ ابتسامةً مريبةً أصابَتْني بقشعريرة_"ما هي مشكلتي يا حضرةَ الطّبيب؟"
_"أنَّكِ جميلة"
قطبتُ حاجبيّ ، و أخذتُ أحدّقُ فيه علّه يتراجعُ عن كلامِه أو يزيدُ في شرحه ، إلّا أنَّه ما نظرَ إليّ حتّى ، ظلَّ ينظرُ إلى الشّجرِ و العصافير ، كما لو أنَّه لم يقل شيئاً ، حتّى أثارَ حنقي.
لم أفكّر مُذْ بدأتُ دراسةَ الطّبِّ في أمرِ شكلي ، لم أعره الاهتمامَ الكاملَ و لم أنظر إليه على أنّه معيارُ جودة ، بل و كُنْتُ أظهرُه لنفسي على أنّه لعنةٌ أو دليلُ واحدٍ من اثنين ، إمّا غباءٍ أو قذارة.
أمّا بالنّسبةِ للنّاس ، فلم يحدث أن أخبرَني أحدٌ بأنّني جميلةٌ بهذه الصّراحةِ و بكلِّ هذه الجرأة ، لذلك تناسيتُ الأمرَ و أخذتُ أركّزُ على التّفاخرِ بإنجازاتي أنا ، لا إنجازاتِ مورّثاتي_"ماذا.."
_"سأذهبُ لأحضرَ المُمرِّضة ، اذهبي أنتِ إلى الكوخِ و استقبلي ميشيل ، و عندما يرحلُ اتّصلي بي ، لا أريدُ أن يراني"
تجاوزَ موقفي دونَ اكتراثٍ و تابعَ طريقَه ، أردْتُ استيقافَه لأفهمَ منه حقيقةَ ما حدث ، لكنَّه لم يمنحني أيّةَ فرصة ، كما لم يجد كبريائي الأمرَ ملائماً.
أقالَ أنّني جميلة؟ و قالَ أنَّها مشكلةٌ أيضاً؟ لماذا لا أفهمُه؟.
.
.مُشكلَتِي أنَّني جميلة؟ لماذا ما رأى من بين مشاكلي إلّا ما يعتبرُه غيرُه حسنة؟ أولَيسَتْ مشاكلي أكثرَ و أعظمَ من ألّا يكترثَ بها؟ أم أنَّه يسخرُ منّي و يقصدُ أنَّني قبيحة؟ أم يعتبرُ الجمالَ حسنتي الوحيدة؟
طرَحْتُ على نفسي خمسةَ عشرَ سؤالاً زائداً على السّابقين في عينِ الوقت ، و لم أتعب في إجابةِ أيِّهم أو تأييدِ واحدٍ من الخياراتِ المطروحة ، كُنْتُ و حَسبُ أخاطبُ نفسي ، و لا أنتظرُ من هذا الخطابِ منفعة.
وقفْتُ أمامَ ترّاسِ الكوخِ مأخوذةً بأضواءِ الغابة ، أحسستُ و كأنَّ لأرواحِ الشّجرِ القدرةَ على إضاءةِ أوراقِها ، و كأنَّ لها القدرةَ على ضبطِ إيقاعاتِ حفيفِها ، فتعطي أخيلةً أقربَ إلى حفلاتِ الأوركسترا منها إلى صباحِ الغابة.
قَدْ يبدو الأمرُ غريباً عند ذكرِه ، لكنّني اشتقتُ إلى أصداءِ أصواتِ الحيواناتِ و الرّياحِ في منتصفِ اللّيل ، اشتقتُ إلى صقيعِ رياحِ الصّباح ، و إلى فقدانِ الكهرباءِ أمامَ أنوارِ المجرّةِ العُظمى ، اشتقتُ إلى الطّبيعةِ في بعدِها عن البشر ، و بعدَ قضاءِ ما يقلُّ عن يومٍ واحدٍ بعيداً عنها.
صدحَ صوتُ عجلاتِ سائقٍ أهوجَ في المنطقةِ ، و تكهّنتُ مُذْ بدأ الصّوتُ يصدر ، هذه سيّارةُ ميشيل ليس غيرُه ، و ليسَ فقط لأنّني أترقّبُ قدومَه في القريبِ العاجل ، إنَّما لأنّني أعرفُ منهجَ هذا الصّبيِّ في العملِ و العيش ، تجدُه متسرِّعاً في كلِّ شيءٍ حاشى الطّبّ ، ففي غرفةِ العمليّات ، ينقلبُ رجلاً آخرَ أكادُ لا أتعرّفُ إليه ، يصلُ حالَه الأكثرَ جدّيّة ، و قَدْ ينسى هويّتَه في ظلِّ كلِّ هذه التّحوّلاتِ و إلى حين يستفيقُ من آثارِ التّركيزِ المفرط ، أناديه باسمِه بعدَ العمليّةِ فلا يردّ ، ثمَّ يسألُني في المغاسلِ إن كنتُ أقصدُه هو بالنّداء.
رنَّ هاتفي في تلكَ اللّحظة ، و ظهرَ اسمُ ’ميشيل المزعِج‘ على الشّاشة ، يفترضُ أن يتّصلَ بي عندما يبلغُ بدايةَ الطّريقِ الجبليِّ من جهةِ المراعي و القُرى ، غَيْرَ أنَّ المكالمةَ قَدْ قُطِعَتْ قبلَما أجبتُها.
حاولتُ الاتّصالَ به مرّتين من ثمَّ ، لكنَّ هاتفَه كانَ مغلقاً ، يبدو أنَّ شبكةَ الهواتفِ تعطّلَتْ بسببِ الثّلوج ، هذا ما أهوّنُ به القلقَ الآن.
عُدْتُ أنصتُ إلى أثيرِ الغابةِ أستنبطُ منه ما يمكنُ أن ينفعَني في بحثي عن طالبي ، كانَ صوتُ العجلاتِ ما يزالُ قائماً ، و قَدِ ازدادَ شدّةً الآن ، هذا النّبأ لوحدِه باعثٌ للسّرور.
جعلتُ أستعينُ ببعضِ الذّكرياتِ على الانتظار ، فاستذكرتُ أوّلاً وجهَ ميشيل الباسمَ أمامَ أحدِ المرضى ، ابتسمتُ بغيرِ وعيي ، ثمَّ و إذ أحسستُ بالأمرِ أخفيتُ ابتسامتي ، فأنا و على الأكيدِ لا أريدُ أن يلحظَها طالبي العزيزُ الأكثرُ مشاغبةً آنَ يصلُ عندي.
ميشيل شابٌّ أشقرُ متوسّطُ الطّول ، يحملُ ملامحَ رومانيّةً إيطاليّةً أكثرَ منها فرنسيّة ، عينان ضيّقتان زرقاوتان ، خدّان ممتلئان ، و لحيةٌ شقراءُ مُجعّدة ، يكملُ كلَّ ما سبقَ شعرُه القصيرُ الأشعث ، و هو ليسَ يجهلُ هذا الشّبه ، بل و يفخرُ به على نحوٍ واضح ، و مع أنَّه يزيدُ شكلَه سنّاً ، و هالتَه إزعاجاً فوق ما تفعلُ شخصيّتُه.
تنهّدتُ مستظرفة ، ثمَّ قفزتُ شبهَ جزعةٍ بصوتِ هاتفي ، هذا ميشيل حمداً للّٰه ، و أظنُّه قَدْ بلغَ يافطةَ أوّلِ الطّريقِ الجبليّ.
حملتُ هاتفي إلى أذني أجيبُ اتّصالَه ، و مضيتُ من فوري أبحثُ في الطّريقِ عنه
أنت تقرأ
أربعٌ وَ عِشرُون
Fanfictionمتوقّفة مُؤّقتاً أمامي أربعٌ و عشرون لأندمَ كما ينبغي ، أربعٌ و عشرون لأحلمَ كما أشتهي ، أربعٌ و عشرون لأُفاجَأَ حتى أكتفي و أربعٌ و عشرون لأستسلم.. أربعٌ و عشرون لأعيش .... الطّبيبةُ دارسي مارتن ، في مواجهةِ واقعِها و...