الفصل الأول
أحدث باب المقهى صريرا معتادا حينما فتحه صاحبه مع أول إشراقة صباح...صوت سكب الماء يصل لها عبر نافذة غرفتها المطلة على الشارع...و هذا الدعاء الذي يلازم مسمعها منذ سنوات يتكرر بصوته الأجش..
(أصبحنا و أصبح الملك لله رب العالمين... يا فتَّاح يا عَليم يا رَّزَّاق يا كريم أفتح لنا أبواب رحمتك و فضلك و أجعلنا من عبادك الصالحين)
أدخلت بلوزتها البيضاء داخل تنورتها المرقطة بالعديد من الورود الصغيرة... ارتفعت يدها حيث حجابها المشابه للتنورة تعدله أمام مرآتها... عادت للخلف تقيم مظهرها ببسمة راضية عنه... اليوم بعد عودتها من الجامعة تتمنى أن تراه... كم مر من الأيام دون رؤيته؟!... امتحاناتها التي لا تنتهي مطلقا جعلتها بعيدة لفترة يشعر قلبها بأنها طويلة جدا... تحركت في غرفتها المرتبة رغم كونها صغيرة و بسيطة لتلتقط كتبها و حقيبتها و تسحب معطفها الطبي الأبيض من فوق المشجب لتخرج منها... قابلتها والدتها ببسمة صافية في الصالة بينما تضع أطباق الفطور فوق مائدة الطعام الصغيرة... تقدمت منها لتقف قرب المائدة و تضع عليها ما بيدها ثم تضم كتفي والدتها لصدرها من الخلف و تلثم وجهها بحنان... ربتت أمل على ذراعها تقول...
(صباح الخير حبيبتي... هيا أجلسي)
لثمت وجهها مجددا تقول بمسكنة و صوت طفولي...
(لا وقت للفطور يا أمي... يجب أن أسرع قبل أن تزدحم المواصلات)
ابعدتها والدتها عنها توبخها بنبرة أمومية...
(و هل تناول شطيرة في دقائق سيعطلكِ؟.... لا خروج دون فطور)
هتفت بتذمر رافض...
(أمي أقسم لكِ سأتأخر... لا تقلقي سأتناول شطيرة بعد المحاضرة)
عادت تحمل اغراضها من فوق المائدة و تتجه نحو باب الشقة... خروج والدها من غرفته جعلها تتجه نحوه و تطبع قبلة فوق خده قائلة...
(صباح الخير أبي...)
ربت والدها فوق ظهرها يرد تحيتها ببشاشة...
(صباح الخير غسق... ستذهبين دون فطور اليوم أيضا؟)
اومأت له ببسمة صغيرة تتحدث بينما تتجه نحو الباب...
(سأتناول فطوري في الجامعة يا أبي...)
بعدما ارتدت حذائها من جوار الباب فتحته لتلوح لهما ببسمة مودعة و تناكف والدتها التي تنزعج من تهربها من الفطور...
("أمولتي" الحلوة لا تحزني سأتناول حصتين من الغداء أعدكِ)
هزت أمل رأسها بتعب من ابنتها لتكمل رص الأطباق فوق المائدة و هي تهمس بقلة حيلة...
(على أساس ستعود في موعد الغداء!!)
جلس زوجها فوق الكرسي يسألها بينما يلتقط الخبز...
(هل ستتأخر بالخارج؟)
جلست على الكرسي المجاور له تخبره بلا حيلة...
(هل نسيت أن اليوم هو الخميس... ستمر على أريج في المشفى قليلا)
دس قطعة خبز في الطبق أمامه ليقول بصدق...
(صداقتها مع أريج جميلة خصوصا أنها عانت في بداية عيشنا هنا و كانت رافضة الحي بمن فيه..)
اومأت له أمل رأسها ثم قالت...
(أريج فتاة رائعة حتى و إن كانت تسكن في حي مجاور و لكنها...)
قطعت جملتها فجأة ليرتفع نظر زوجها لها و يكمل هو نفس الحديث الذي كلما فُتح موضوع صداقة ابنته الوحيدة هنا يُقلِق والدتها...
(هل لا زلتِ رافضة صداقتهما كون أريج أكبر منها في العمر؟!)
وضعت قطعة الخبز من يدها فوق المائدة تقول بتفكير أمومي خائف على ابنتها...
(ليس كذلك يا ثروت... أريج طبيبة ناجحة و فتاة محترمة و رائعة لكنها تقارب على سن الثلاثين دون زواج... هي في نظر الكل عانس و ابنتي ربما تتضرر من صداقتهما معا)
ارتفع حاجبه بدهشة يقول...
(ما هذا التفكير يا أمل؟!... الزواج قسمة و نصيب و أريج ابنة تفتخر بها أي عائلة... ارجوكِ لا تتحدثي بهذا المنطق أمام غسق)
أسرعت تقول بتصحيح لوجهة نظرها...
(أعرف أن أريج فتاة ممتازة لكن ابنتك تتخذها مثلا أعلى...أخشى عليها من أن تحذو حذوها و ترفض العرسان إذا تقدموا لها!!)
هز ثروت رأسه نفيا يقول...
(لا تشغلي بالكِ بأمور لم تحدث بعد ثم أن الزواج أمر بيد الله وحده)
تنهدت أمل بصمت و عقلها لا يستسيغ فكرة أن تصادق ابنتها فتاة أكبر منها و عانس!!... ليس هناك عيب واحد في أريج هي تعترف لكنها أم في نهاية المطاف تخشى على طفلتها...
**************
تحركت بقامة شامخة في بيتها بينما رنين أساورها يصدح معلنا عن هويتها... عباءتها الملونة ذات الفصوص اللامعة... شعرها الأسود المفرود أسفل وشاح رأسها الغير معقود و يتدلى فوق كتفيها... وجهها الأبيض المتورد بطبيعته رغم انها أصبحت جدة منذ ثمان سنوات... وقفت أمام باب غرفتها تطرقه قبل الولوج... سمعت صوت زوجها يأذن لها ففتحته ببسمة حلوة لتدلف تقول بنبرة حانية...
(الفطور جهز يا سليمان...)
فوق الأريكة الموضوعة في جانب الغرفة كان يجلس يقرأ في المصحف بعدما أدى صلاة الفجر مع ابنيه في مسجد الحيّ... عادته توارثها من والده رحمه الله و زرعها في ابنائه منذ الصغر... قبّل المصحف بعدما أغلقه ليقف مبتعدا عن الأريكة و يتجه يضعه في مكانه على المنضدة الجانبية... تقدم من زوجته بهيبته الكبيرة يبتسم برفق في وجهها الصبوح قائلا...
(سلمت يداكِ يا صفية... هل أجتمع الأولاد كلهم؟)
بادلت بسمته ببسمة رغم مرور السنوات بينهما إلا أنها خجولة... هذا الرجل "ابن عمها" الذي كان شابا تتمناه كل فتيات المنطقة... و الذي شغل بالها برجاحته و سُلطته و طاعته لوالده... كان حلما لم تقوى على ترديده مع نفسها حتى استحياءً من والديها و لم تكن تعرف أن الله استمع لمناجاتها ليستجيب و يجعلها زوجته... وقفت جواره تربت فوق كتفه بمحبة قائلة...
(سلمت لنا يا سليمان... نعم الكل ينتظرك بالخارج)
اومأ لها ليتحرك تجاه باب الغرفة لكنها أوقفته بتردد تهمس...
(سليمان... أليس من المفترض أن يعود كرم اليوم؟!)
عاد ينظر لها ببسمة صغيرة... يعرفها جيدا و يعرف خوفها على اولادها و خاصة كرم أصغر ابنائها الرجال... تنهد ببطء يعيد نفس حديثه كلما ذهب ابنه في رحلة صيد يغيب فيها بالأيام...
(نعم يا صفية من المفترض أن يعود بعد ساعات ان شاء الله... كفي عن القلق عليه لقد أصبح رجلا)
غمغمت بخفوت متذمر...
(حماه الله... لكنني أخشى عليه من البقاء في البحر لأيام دون أن أراه أو أسمع صوته)
تقدم منها يلتقط كفها الناعم بين كفيه اللذين أصابهما العجز المريء... يشعرها بالأمان كلما فعل هذا و كأنهما جديدي العهد و لم يمر عليهما كل هذا العمر معا... همس بصوته الرخيم...
(ابنكِ ليس أول من يذهب للصيد في مراكبنا... لقد فعلتها أنا و أخواه قبله... إنها مجرد أيام يا صفية و هاتفه بالتأكيد لن يعمل في عرض البحر لسوء التغطية هناك...)
وضعت وجهها أرضا تهمس بخفوت...
(لكنه أصبح الوحيد الذي يذهب بعدما تولى خالد و صالح العمل في شوادر السمك... أنت لا تعرف كم يوجعني قلبي و أنا أتخيله يصارع الموج في الليل الكحيل)
ترك كفها ليضحك بخفوت يرفرف قلبها له قائلا...
(من يسمعكِ لا يقول أنكِ كنتِ تذهبين مع والدكِ في رحلات كهذه و أنتِ صغيرة و تبيتين في المركب أيضا يا ابنة الحاج زكريا المراكبي)
ضحكت بخجل من تذكيره لها بالماضي... لقد فعلتها و هي صغيرة فقط كي تبقى معه هو و تراه كيف يتعايش مع البحر و العمل خفية مستغلة حب والدها الكبير لها و موافقته على مطالبها رغم تعجب الجميع حينها من تواجدها...و لكن من ذا الذي يزعزع فرد من افراد المراكبي عن فعل ما يريد؟!... قطعت ذكرياتها لتهمس بصدق...
(لكنه ابني يا سليمان غصبا أخشى عليه حتى لو فعلتها قبله...)
اتجه ناحية الباب مجددا يخبرها بتأكيد يبث بها الراحة...
(ابنكِ رجل يا صفية و الرجال لا نخشى عليهم)
**************
يجلسون جميعهم في انتظار وصول سليمان على طاولة الطعام... خالد يجلس في مواجهة كرسي والده جواره زوجته و ابنهما على اليمين... أما على اليسار يجلس صالح و زوجته و جوارها تجلس فاطمة أصغر ابناء سليمان... حينما استمعوا لصوته قادم تأهبوا لحضوره و أسرع مازن ابن خالد بترك كرسيه ليهرول لجده باسما و يرتمي عليه يضم ساقيه من خلف العباءة البيضاء... استقبله سليمان بفرحة يربت فوق رأسه برفق قائلا...
(يا مرحب بالغالي حبيب جده...)
رفع مازن رأسه لجده دون أن يترك ساقيه يقول ببسمة..
(صباح الخير يا جدي...)
مسح سليمان فوق وجهه بينما صوت خالد أتى موبخا لأبنه بتأنيب..
(مازن لا تقف في طريق جدك و دعه يتقدم ليتناول الفطور...)
خفتت ضحكة مازن ليبتعد عن ساقي سليمان بينما سليمان ينظر لأبنه نظرة يطلب منه أن يتوقف... قضم خالد حديثه احتراما لوالده الذي مال يرفع مازن فوق ذراعيه يقول بمحبة...
(مازن سيجلس جوار جده و يتناول فطوره...)
بسمة الصغير تزامنت مع بسمة راضية من والدته لترفع رأسها و تقول بقصد بينما ترمق زوجة صالح..
(عشت لنا يا أبي الحاج... مهما يحدث فهو حفيدك الوحيد)
وضعت هبه زوجة صالح وجهها في طبقها بحزن جعل صالح يقبض كفه بقوة فوق الطاولة... نظرة عين فاطمة لسهر زوجة خالد كانت معاتبة لكن الأخيرة ردتها لها بنظرة لا مبالية... تقدم سليمان من الطاولة ليضع حفيده فوق الكرسي المجاور له و يجلس بوجه رافض لما يحدث من زوجة ابنه الكبير... إنها دوما هكذا مصدر للإزعاج مدعية حسن النية و متخذة من الجهل بمشاعر الغير طريقا!... و كأن صفية فهمت ما يريد قوله و لكنه يتجنبه لعدم رغبته الخوض في كلام النساء... اقتربت تجلس فوق كرسيها تقول بسيطرة متأصلة في شخصيتها تتحكم في قاطنين بيتها هي و تفرض حواجز لا يجب أن يتعدوها كي لا ينالون عقابها... و عقابها شديد الصعوبة كما يعلمون جميعا فهي مالكة هذا المكان و لن تسمح لزوجة بِكرها بفرض هيمنتها هنا كما تريد منذ تزوجت...
(من قال أن مازن حفيد الحاج الوحيد يا سهر... هل نسيتِ ابناء ابنتي قمر أم تهمشوا قصدا؟!)
ابتلعت سهر ريقها بقلق من جدال لا تحبه مع حماتها... لتهمس بخفوت مرتبك...
(لا أقصد يا أمي الحاجة حفظ الله ابناء قمر... لكن بالنهاية من يحمل اسم أبي الحاج هو مازن فقط)
زاد انكسار هبه جوار زوجها الصامت احتراما لوالده و لأخيه الكبير... امتدت يده حيث يدها فوق حجرها أسفل الطاولة يتمسك بها بقوة مرسلا اعتذاره عما تسمعه من سخافات زوجة أخيه... الوضع لم يعجب فاطمة بالمرة و التي تراقب توتر و حزن هبه و صالح فهتفت بغضب لم تستطع كبحه في وجه سهر...
(ألن ينتهي هذا الحديث يا سهر؟!... كلما اجتمعنا لا يوجد في جوفكِ غيره...)
صوت خالد العالي و الموبخ لأخته الصغيرة زاد من نظرة التشفي في عيني سهر...
(فاطمة احترمي كونها زوجة أخيكِ الكبير...)
تمسكت سهر بكفه المتشنج فوق الطاولة تقول برجاء زائف...
(لا توبخها يا خالد ففاطمة لا تزال صغيرة... كما أنني لا أحزن من أفعالها غدا تكبر و تتعقل)
صوت صفية المقتضب خرج بعدما راقبت نفور زوجها لتعكير الصباح بزوبعة معتادة من سهر التي لا تزن احتراما لأحد...
(ألا يوجد احترام لوالدكم؟!... انتهينا هيا ابدأوا بتناول الفطور لتذهبوا لأشغالكم)
الدموع اللامعة في عين فاطمة لاحظها والدها المتابع لهم من مجلسه... لكن ابنته رغم صغر سنها إلا أنها عاقلة و واعية فها هي تكبح دموعها لتبدأ في تناول طعامها بصمت راضخ لأمر والدتها... نظرة حانت منه لسهر التي شرعت في تناول الطعام بهدوء و كأنها لم تفتعل شيئا... هذه البنت مزعجة لدرجة كبيرة لا تتشابه مع والدها أو والدتها مطلقا و لا يعرف غيرة النساء التي تنهشها من الجميع متى ستنتهي؟!... خالد ابنه ليس لينا لكنه يمرر لها الكثير و هذا لا يعجبه و عليه أن يقومه في هذا الأمر...
وقفت فاطمة بعد قليل تستأذن والدها بأدبٍ..
(لقد أنهيت فطوري و سأنزل الآن للجامعة...)
ابتسم لها والدها ليبدل حالها الحزين بفرحة ترتسم عليها كلما ناظرته... يكفيها فخرا انها ابنته و لا يهم شيء آخر... اومأ لها برأسه ثم نظر لصالح يأمره...
(صالح لو أنهيت فطورك بني أنزل مع أختك كي توصلها...)
ترك صالح رغيف الخبز ليقف في طاعة قائلا...
(الحمد لله يا أبي أنهيت فطوري... من عيني يا حاج لحظة أرتدي قميصا غير هذا و آتي)
تدخلت سهر بسماجة تقول بسخرية..
(و ما به قميصك أم أن محامية المستقبل تشعر بالمَعَرَّة من ملابسك عندما تأخذها للجامعة؟!)
اهتاجت فاطمة في وقفتها و قد تخلت عن تعقلها ناوية الصراخ بها لكن وقفة والدها و صوته المحذر المخيف جعل الجميع يصمت...
(سهر... لا تحشري أنفكِ في حياة الجميع، اهتمي بزوجكِ و ابنكِ فقط..)
وقف الكل بعدما وقف سليمان احتراما و خوفا من خروجه الغير معتاد عن هدوئه... تلعثمت سهر مرات لتهمس...
(لم أقصد سوءا يا أبي الحاج...)
رمقها سليمان نظرة غير راضية ليتحرك تاركا إياهم حيث غرفته استعدادا للذهاب للعمل... تابعت صفية ما حدث حتى اختفى زوجها لتنظر لسهر بغضب و توبخها بصوت متضايق...
(لا تزيدي من غلطاتكِ يا سهر فصبري قليل...)
تركتهم صفية لتتجه خلف زوجها بينما احتقن وجه سهر بغيظ من توبيخها و تقليل شأنها أمام الجميع... ازاحت كرسيها بعنف مصدرا صوتا عاليا لتتجه نحو غرفتها بغضب... راقبها الجميع ليزفر خالد بتعب مما يحدث و يُعاد من زوجته هامسا بملل...
(يا له من صباح مزعج...)
نادى لأبنه بأمر أن يتحرك و يأخذ حقيبة مدرسته ليوصله في طريقه... اومأ مازن لكنه تحدث بخفوت..
(لكني لم أخذ شطائري بعد يا أبي...)
أسرعت هبه بعاطفة كبيرة تتجه نحوه و تقول بحنان...
(لحظة حبيبي سأحضرهم من المطبخ و أضعهم في حقيبتك... أسرع أنت في ارتداء حذائك حالما أعود)
تتبع صالح زوجته بقلب يخفق لأجلها و دعوة متكررة في نفسه تتردد و تزداد بإلحاح... عاد ينظر لأخته قائلا ببسمة...
(سأسرع أنا أيضا في تبديل قميصي لن اتأخر...)
اومأت له ببسمة شاكرة و عادت تجلس فوق كرسيها حتى ينتهي...
أنت تقرأ
لقياك لي المأوى(مكتملة)
Romanceرواية للمتألقة آية أحمد حقوق الملكية محفوظة للمبدعة آية أحمد لُقياك ليّ المأوى خليط من حكايات يعزف لحنها بحر الحياة...بين أمواج متلاطمة تارة و ناعمة تارة أخرى نعيش... و على شاطئ رماله ذهبية تعكس رونق الشمس يحاوطنا الدفء و يتسلل لشرايين الروح قبل الج...