الفصل العشرون
توقفت خطواتها البطيئة أمام السور الحديدي الصدئ المطل على البحر...رفعت كفها تستند به عليه بينما الأخير يتقبض على ورقة بيضاء بداخله...رفعت بصرها للبحر تتطلع فيه بصمت مطبق...انفاس مهتزة تهرب من رئتيها بارتجاف يوازي نظرة عينيها المصعوقة و الخائفة...ظلت فترة طويلة كما هي تناظر البحر بموجه الهائج و كأنه يعاني معها كارثية ما عرفته للتو...لحظات طوال مضت حتى تحركت يدها الى حقيبتها تلتقط منها هاتفها و تتصل به...عليه ان يعرف و ان يفي بعهده معها...عليه فعل هذا و إلا لا خلاص لها!!...
(داغر أريد رؤيتك ضروري في شقتنا)
في بيت السمري...
أغلق الهاتف معها موافقا على مقابلتها بشق الأنفس...فعقله ما عاد يستوعب ما عرفه قبل قليل من ابن عمه...لقد تغيب طيلة الاسبوع الماضي بحثا عن الشابين كحاله مؤخرا ليضمن صمتهما بنفسه و ابتعاده عن قبضة الشرطة لكنه فشل و كأنهما مكعب ملح ذاب في الماء...و الخبر الأشد وطأة هو ما سمعه قبل قليل ابن المراكبي تزوج الدكتورة!!!!
(ماذا ستفعل يا داغر؟!)
صوت حكيم القريب من أذنه اخرجه من دوامة عميقة معتمة...رفع بصره له بتيهٍ يسأله بعدم تصديق
(هل أنت متأكد من خبر زواج كرم بالدكتورة حكيم؟)
فلتت ضحكة ساخرة من حكيم يقول...
(أنزل و لف شوارع الحي و اسأل اصغر طفل يقابلك سيخبرك أن كرم تزوج منها)
اسودت ملامح داغر بشرٍ رغم تيه افكاره...زاد معدل تنفسه بصورة مخيفة فكل اوراق اللعبة تبعثرت بل احترقت و صارت رمادا لا قيمة له...صوت حكيم تسلل له مجددا يسأله...
(ما هي خطوتك مع ابنة عبد الصبور؟!)
ابتلع داغر ريقه بتفكير فهدير باتت لا قيمة لها في مخططه...لكنها الوحيدة التي وقفت جواره الأيام الماضية...قربها منه بات شيئا يخصه وحده و للعجب يستنفر ان يُمنح قربها هذا لغيره...صوت حكيم عاود التسلل مجددا
(لماذا صمت؟!!...هل اعجبتك الفتاة داغر و تريدها لك؟!...هل ستتخلى عن مخططك بهذه السهولة؟!!!)
ابعد داغر عينيه عن ابن عمه يقول باقتضاب...
(لا شيء يثنيني عن الانتقام من عائلة المراكبي)
ربت حكيم فوق كتفه بقوة يقول...
(هذا هو الكلام السليم يا ابن السمري...و الآن دعنا نستغل ما تبقى معنا من ورق)
ضيق داغر عينيه متسائلا بعدم فهم...
(أي ورق هذا الذي تبقى؟!)
ابتعد حكيم عنه ليقف قبالته قائلا بصوت منتشي...
(لا يا داغر لم اعتد عليك غبيا...لدينا العديد من الاوراق التي ستحقق غرضك كاملا)
اتسعت ابتسامته الخبيثة ليكمل...
(مثلا صور الدكتورة و التي بالتأكيد ستعلو قيمتها الآن بعدما اصبحت زوجة كرم...و هناك الحلوة ابنة عبد الصبور المتزوجة عرفيا منك...تخيل معي لو انتشر خبر زواجكما للعلن سنضع وقتها رأس سليمان ارضا)
تغضنت ملامح داغر بالضيق الغير مبرر له هو نفسه...فقاطع كلام حكيم بشدة
(نحي هدير جانبا الآن حكيم لأنني لن استفيد ما اردته كما لو كانت زوجة كرم...و الصور لأخر مرة سأقولها اخرجها من رأسك لأن ظهورها سيورطني مع الشرطة)
فلتت ضحكة متهكمة من حكيم ليقول بعدها...
(في كل مرة لا اريد التسرع في حكمي عليك لكنك في كل مرة تثبت انك اضعف من مجابهة ابناء المراكبي...كرم يسبب لك عقدة منذ الصغر و لا يزال داغر)
جن جنون داغر بعدما لفظ حكيم كلامه الجارح لشخصه...لم يشعر بنفسه و هو يكور قبضته ليضرب بها حكيم بقسوة في وجهه... يضرب مخلصا نفسه من متاهات دخل بها بإرادته و الآن ضل الطريق...لم يبتعد عنه إلا عندما ظهر سلطان يكبل كف داغر و يزيحه بعيدا عن أخيه...وقف داغر بصدر ينهت قائلا بكلمات متقطعة لاهثة بينما عيناه مسلطتان على عيني حكيم الذي نزفت شفتاه...
(كررها حكيم مجددا لأقتلك بيدي)
حجب سلطان جسد اخيه ليواجه هو داغر بطلته القابضة للروح قائلا بصوت لا يبرز ما خفي في بواطن روحه...
(و أنت لا تغتر بقوتك داغر و تذكر نحن اثنان بينما أنت واحد)
احتدت نظرة داغر بشدة فاكمل سلطان بهدوء مقيت...
(إن كان حكيم يساعدك فهذا لا يعني أنه تحت اشارتك وقتما تشاء...و ان كنت غرا لا يفقه من الانتقام ابجديته لا تلومه هو بل لُم نفسك...يا ابن العم)
زاغت عينا داغر بقلة حيلة و ضياع...ماذا الآن عليه ان يفعل...لقد كسر عرائس ابن المراكبي بالفعل لكن لماذا لا يقوى على التشهير بهما...كرم يتفوق عليه مجددا يسيطر مجددا...رفع بصره لابني عمه بينما انفاسه تحترق بغضب...تحكم في صوته المهدد رغم تأرجح تفكيره فقال...
(سيريكم داغر كيف يكون الانتقام و وقتها الزما جحوركما لأنني لن ارحم احد...يا ابن عمي)
تحرك قاصدا باب البيت ليخرج منه بعقل مشتت و روح غاضبة...عليه ان يصل لحل يمكنه من انهاء عائلة المراكبي...لا لم ينسى سنوات عمره في السجن و لن ينسى...هدير وقفت جواره و ماذا بها لقد فعلتها لأنها غبية وثقت بشخص مثله...يجب أن يعود لنفسه التي لا تتردد قبل الاقتناص من احدهم و سيفعل...ان هربت دكتورة الحي من تحت قبضتيه الآن سيهتم بشأن هدير حتى يرتب لزوجة كرم الحقيقية انتقاما مزدوج يليق بما فعلته ماضيا و حاضرا...
بعد نصف ساعة...
سمعت صوت المفتاح فتأهبت حواسها لتقف مبتعدة عن طاولة الطعام و تهرول ناحية الباب تستقبله...دلف بوجه محتقن و غضب مرتسم فوق ملامح روحه قبل وجهه...لم يقل حرفا واحدا بل تخطاها ليتحرك للداخل حتى جلس امام طاولة الطعام...تبعت خطواته بخطوات مترنحة و قلب مقبوض برعب...جلست جواره و همت بقول شيء ما لكن سؤاله قاطعها ليصيبها بالغباء...
(لماذا لم يتزوجك كرم؟!)
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم تهمهم بتيهٍ...
(ماذا تعني داغر ما شأن كرم بي أنا؟!)
احمرت عيناه بحقد ليقبض بقسوة فوق ذراعها و ينظر داخل عينيها بعينيه المخيفتين قائلا بهدير...
(ألم تعرفي بعد أن سليمان ارادك زوجة لابنه؟!...أم انك كنت ذكية كفاية لتلمحي رغبة كرم في الزواج من الدكتورة فوجدت ان تقبلين زواجا سريا فرصة لك)
اغرورقت عيناها بدموع متوجعة من قبضته و من كلماته الغير مرتبة و التي لم تستوعب منها اي شيء...تأوهت بضعف لتبكي بصوت مسموع بينما تقول...
(لا افهم ما تقوله داغر حقا لا أفهم اي شيء و أعتقد أن زواجنا تم دون رغبتي...أنا هنا اليوم لأخبرك عن شيء هام للغاية)
افلتها ليبعد وجهه عنها بحدة بعدما لمح دموعها اللعينة...صوت بكائها يصله فيلجمه و يخرسه بينما هي تعاند ضعفها لتهمس بخفوت باكٍ...
(داغر أنا في ورطة كبيرة...مصيبة تأكدت منها اليوم)
لم يمنح كلامها اهمية بل ظل على جلسته مبتعدا بوجهه عنها حتى افضت عن المزيد الذي جعله يتشنج في جلسته شاعرا ان الكون كله يتآمر ضده...
(أنا حامل داغر)
التفت وجهه لها كالطلقة يمرر نظراته فوق ملامحها الباكية مهمها بصدمة...
(ماذا؟!!!)
اطرقت برأسها يعلو نشيجها برثاء لما آل اليه حالها معه...تكلمت برجاء كبير نابع من ثقتها الواهية به و حبه الذي حكى عنه مرارا لها...
(يجب ان نسرع في اعلان زواجنا داغر...يجب ان تفي بوعدك لي)
صوتها الباكي تداخل مع صوت حكيم في رأسه ليزيد من تيه تفكيره أكثر...اشاح بوجهه بعيدا عنها و قد تكررت جملة حكيم التي انتقصت من شأنه في روحه فجعلته يغلي...وقف فتبعته عيناها الحمراوان بأمل وأده هو في لحظته حينما قال بهدوء شديد...
(هذه غلطتك هدير فتحملي عواقبها وحدك)
انتفضت خلاياها بهلع رهيب لتسرع و تقف تتشبث بذراعه متسائلة بهستيرية...
(ما الذي تعنيه داغر...هل تتخلى عني و عن ابنك...هل ترفض اشهار زواجنا للعلن كما وعدتني؟!!!)
سحب ذراعه من تحت كفها بحدة ليقول...
(لم أقل لك احملي مني كما لم اجبرك على الزواج...كله حدث برغبتك هدير تصرفي وحدك)
انحصرت انفاسها بصدمة جلية لتراقب وقفته بأعين متسعة تعاني التشوش...دموعها تتساقط و نبضها يخفت و عقلها يؤكد انها في خطر...وجهه الذي اصبح في مجال رؤيتها حينما مال اليها تنظر له برجاء و توسل أن يفي بعهده لكنه بدل وفاءه بكلمات اثارت رغبة التقيؤ بداخلها...
(لا تنكري انك استمتعت برفقتي كما استمتعت انا هدير)
فلتت الكلمة من بين شفتيها بوهن...
(رفقة!!!!)
ابتعد عنها يكمل بنفس اسلوب الحديث الملتوي لتتوه في تفكيرها غير عابئ بحجم الكارثة التي حلت بها...
(كنت سأفي بعهدي و اتزوجك علنا لكنني اكتشفت للتو ان عروس البحر الملاك ليست سوى فتاة تركض خلف المال...حينما عرفت ان كرم لا يرغبها لهثت خلف داغر لكن داغر لا يقبل ان يكون بديلا)
هزت رأسها نفيا ببكاء مرير تقول...
(انا لست كذلك اقسم لك داغر...ارجوك لا تتركني و انا في هذا الوضع...و اذا احببت ان تطلقني فلتفعل لكن اعقد علي رسميا بين الناس احفظ لي سمعتي و شرف ابي ارجوك...هل هذا جزاء ثقتي بك؟!!!)
هدر فيها بحدة آلمتها...
(لا أحد يضع داغر أمام الأمر الواقع يا ابنة عبد الصبور...أنت من حمل و أنت من سيُخلص نفسه بنفسه)
ضيقت عينيها الباكية بعدم فهم ما لبث ان تحول لصدمة كبيرة حينما قال...
(تخلصي منه قبل أن تكبر بطنك فأنا لم أعد أريدك)
صرخت بصوت كسير تتمسك بذراعه تتوسله ببكاء يقطع نياط القلب...
(لا داغر ارجوك لا تفعلها بي بعدما اجبرتني على زواجك)
ازاحها يقول بجمود حط على روحه فلا ينكر انه في هذه اللحظة لا يريد فعل هذا بها لكنه عاد لينتقم و لن يتراجع...
(ابتعدي عن طريقي هدير)
بهتت ملامحها بجزع تنظر له بأعين التهبت من فرط البكاء...لم يتحمل مزيد من التشتت او الخروج عن طريق خطته لذا ابتعد عنها مشيحا بنظره حتى وصل الى باب الشقة يخرج منه سريعا متحاشيا صوت بكاءها...
راقبت الباب الذي اغلقه بوجه تلبد...عيناها حانتا منهما نظرة الى بطنها من خلف عباءتها لتهمس بصوت مقهور مرتعد...
(يا للمصيبة...لمن ألجأ أنا؟!!)
تهاوت على الكرسي خلفها تبكي دامي...تعتصر بقبضتها بطنها و عقلها يعرض لها صورا من المستقبل القريب جدا حال عرف الجميع عن زواجها و حملها...اغمضت عينيها تنتحب بصوت مسموع...ماذا قال هو عن كرم؟! هل فكر بها كرم كزوجة حقا؟! إذًا لماذا لم يتخذ خطوته اليها بل ذهب بها الى الدكتورة!!...يا ليتها عرفت انها في بال سليمان لابنه يا ليتها لم تصدق داغر و لو للحظة يا ليتها لم تخشى فضيحة كانت بريئة منها حينها أما الآن جلبت لنفسها فضيحة شاركت بها...وصفها بالملاك بكل قسوة و هي فعلا كذلك هي مجرد ملاك تدنس حينما وطأ جنته...لم تكن جنة هدير بل كانت نارا احرقتك!!!
أنت تقرأ
لقياك لي المأوى(مكتملة)
Romansرواية للمتألقة آية أحمد حقوق الملكية محفوظة للمبدعة آية أحمد لُقياك ليّ المأوى خليط من حكايات يعزف لحنها بحر الحياة...بين أمواج متلاطمة تارة و ناعمة تارة أخرى نعيش... و على شاطئ رماله ذهبية تعكس رونق الشمس يحاوطنا الدفء و يتسلل لشرايين الروح قبل الج...