الفصل الثاني

12.7K 301 11
                                    

الفصل الثاني

المثال الحي للرجل الكامل يتجسد أمامها الآن... رامي هو حلمها الذي راودها منذ ثلاث سنوات... لم تكن تتوقع في يوم أنها ستقع في الحب لكنها فعلتها معه... في صمت يليق بمهابة شخصيته و وقاره... في هدوء يليق بقلبها العذري الذي يتذوق معه مشاعر تختلج صدرها للمرة الأولى... في سكينة كحال نظرتها له من بعيد لبعيد و كحال نظراته لها الخاطفة... هكذا في لينٍ و بساطةٍ أحبته...
(تفضل الملف دكتور رامي...)
خرجت من قصور خيالها الواسعة به على صوت أريج... تابعت تحركه للمكتب لتمتد ذراعه يلتقط الملف من صديقتها ثم يهبها بسمة ودودة و ساحرة هامسا بذوقه المعتاد...
(شكرا لكِ دكتورة أريج...)
غيّر وجهة جسده قاصدا باب الغرفة ليخرج بينما هي تترصد كل حركة... كل نفس... كل نظرة منه... انتصب جسدها في كرسيها حينما عبرت منه نظرة لتحتل شاطئ قلبها ثم رمى سهم ابتسامته ليصيبه مباشرةً... و الضربة القاضية كانت سؤاله الوقور بأدبٍ و جاذبيةٍ...
(كيف حال طالبتنا المجتهدة؟)
هذه البسمة البلهاء التي ارتسمت فوق شفتيها عجزت عن منعها من الظهور... لكنها تلبست وجه "العادي" رغم ان بداخلها لم يكن عاديا مطلقا و هي تهمس بخجل جعله يبتسم أكثر...
(بخير الحمد لله...)
راقبت يده التي أدارت مقبض الباب ليتجه بنصف جسده للخارج قائلا برصانة باسمة...
(المشفى كان كئيبا من غيركِ... لا تطيلي الغياب مجددا)
يدها التي تشبثت بكرسيها بقوة... عيناها التي راقبته يختفي تماما... قلبها الذي بعثر نبضه بكلماته... كل ما فيها تأهب له... هل ما تشعره منه حقيقة؟... أم أن قلبها البِكر يهيئ لها أن كل ما يفعله و يصدر منه يندرج تحت بند الاعجاب... إن لم يكن حبا!!...
نهرت نفسها بحدة و هي توبخها بمنطق و تعقل هو ميزة في شخصيتها...
(حب!!... هكذا وسع خيالكِ يا غسق... وسع جدا)
(غسق...)
نداء أريج لها أخرجها من شرودها لتسألها بترقب...
(ماذا بكِ؟!... أنادي عليكِ منذ فترة)
هزت رأسها بانفعال مبالغ به و كأن أريج تعري تفكيرها فيه... في رامي حبها السري الأول... ابتسمت بسمة مرتعشة تقول...
(آسفة لقد شردت قليلا... ماذا تريدين؟)
ابتسمت أريج بمحبة لتقترب بجسدها من مكتبها و تستند عليه بكفيها قائلة...
(أسألكِ هل ستتناولين الغداء معي هنا أم نخرج لتناوله في المطعم القريب من المشفى؟)
هزت رأسها بضحكة صافية تقول بمرح...
(لا هذا و لا ذاك يا دكتورة... أمولتي لن تدخلني البيت إذا تناولت طعام من الخارج..)
التمعت عين أريج بوجع أخفته بسرعة خلف بسمة مهتزة لتهمس...
(يبدو أنكِ خرجتي دون فطور كالعادة!)
هزت رأسها باقتضاب لتقف تضع حقيبتها فوق ذراعها قائلة...
(بكل أسف نعم... و قد وعدتها أن أتناول حصتين بدل حصة واحدة على الغداء لذا لا مفر..)
تأهبت أريج بدورها حينما تأكدت من سرعة رحيل صديقتها... هكذا أنقضى الوقت بسرعة... الوقت الذي تنتظره بفارغ الصبر لتنسى كل شيء في محادثتها اللطيفة مع غسق... لكن لا بأس فالكل رحالة حتى لو طالت مدة المكوث... هذا اعتقادها الأزلي الذي تعلمته من الدنيا... همست بحشرجة صوت فشلت في كبحها..
(الوقت يمر بسرعة معكِ...)
راقبت غسق التي وصلت عندها خلف المكتب لتتعلق بعنقها ككل مرة... و تقبل وجنتها بمشاعر صادقة قائلة...
(أعدكِ لن يطول غيابي في المرة المقبلة... سأراسلكِ في المساء...)
اومأت لها أريج ببسمتها الحلوة لتلوح لها حتى خرجت من مكتبها... و بعدها التفتت حيث هاتفها الذي صدح رنينه لتجد اسم والدتها عليه... اغمضت عينيها بتعب حقيقي و هي تتأكد من ان الاتصال لطلب ما أو عريس ما... جلست فوق كرسيها تفتح الخط و تصمت... تستمع... تتغير ملامحها للضيق... تتنهد دون صوت... حتى انتهت والدتها مما تقول فيحين دورها هي لتهمس بصوت مرهق... ليس ارهاق جسد بل ارهاق روح..
(حسنا أمي سأمر عليه و بعدها سأشتري ما ينقص من السوق... لن أنسى لا تقلقي)
***************
خرجت من مكتب صديقتها تلتفت حولها بأمل أن تراه... رغم رؤيته قبل ثوان في مكتب أريج... لكن هل يرتوي القلب من ظمأ طال لأيام برؤية كهذه؟!... بحركة تلقائية هندمت ملابسها خشية أن تلتقيه فجأة في ممر المشفى... و كم دعاء خفي تدعيه هي الآن كي تلمحه فقط... كي تشبع قلبها منه كذكرى تعيش عليها حتى تراه مجددا... و كأن دعاؤها اُستجيب له فها هو يخرج من غرفة إحدى المريضات... يا الله على وسامته و هو يعلق سماعته الطبية فوق عنقه... و يُقلّب في صفحات هذا الملف في يديه... يدقق النظر في معلوماته بوسامة و جاذبية راسخة في شخصيته... هو فقط من تمكن من نيل قلبها حتى لو لم يقصد... حتى لو لم يعرف عن مشاعرها لكنه بكل هدوء جعل قلبها يخفق!!... تجمدت مكانها حينما رفع بصره فجأة لها ليلاحظ نظرتها له... هل تجري بعدما تم كشفها و هي تبحلق فيه؟!... هل تختلق كذبة لو تحدث معها؟!... عقلها متوقف و هي تراقب تقدمه منها بهذه النظرة التي تشعل انذار عقلها و قلبها حتى روحها... حدس الأنثى بداخلها يقسم لها أنه معجب بها... لكنه يتأنى برصانته المعهودة... ابتلعت ريقها بعدما لمعت عيناها بنظرة مسكينة متعطشة لحديث معه... حديث كبير... كبير جدا... تعرفه من خلاله و يعرفها هو ايضا... تشرد في ملامحه التي تنظر لها سرقة كل مرة... و يكمل صورته بداخلها... انتبهت لصوته فرمشت بعينيها تسأله بتيهٍ...
(عفوا... لم أسمعك!)
هدير قلبها العالي و هي تتلقى منه هذه الضحكة الخافتة... تتمنى فقط أمنيتها الوحيدة بألا يسمعه بعد كل هذا الصخب المدوي خلف صدرها... أما هو صامت ثقيل و يدرس خطواته جيدا... لكن لمتى ستظل هكذا؟..
(كنت أسألكِ هل تحتاجين مساعدتي في شيء... كنتِ تنظرين تجاهي أم توهمت هذا!!)
اللعنة تم كشفها!!!...
ارتعاش صوتها و هي تختلق الكذب زاد شعوره نحوها لذة... هذه الفتاة منذ رآها هنا قبل ثلاث سنوات حينما تم تعينه في هذا المشفى و هي تلفت نظره... طالبة في كلية الصيدلة مجتهدة.. ذكية.. لطيفة.. و تجذب بداخله شيئا ما... على مدار ثلاث سنوات لم يتمكن من فهم ماهية شعوره نحوها لكنه ليس مستنفرا منه... بالعكس هو محب لهذا الشعور... جدا
(لا شيء مطلقا... ربما شردت و ظننت أنني انظر نحوك)
ايماءة رأسه مع خصلات شعره التي يصففها بكل دقة هزت قلبها بقوة... نظر لها لتكتم تنفسها بصعوبة و هي تسمعه يقول بنبرة هادئة...
(ربما...)
تخطاها بعدما منحها نظرة عين عميقة لم تخطئ معنى عمقها لتغمض عينيها بضعف تلتقط بقايا عطره المميز... اسمه الذي قفز على شفتيها و لم تتمكن من منعه أوقفه... فتحت عينيها بذعر من كونها نادته بالفعل و للكارثة توقف... التفتت له بسرعة تقول بتلعثم و وجنة متوردة بخجل جعله يبتسم...
(هل تمانع لو... تناقشت معك في بعض الحالات التي امتحن فيها؟!)
ماذا تفعل هي؟!... انها تهذي عكس شخصيتها... معه تشعر بكونها طفلة صغيرة تختلق الاكاذيب... هو فقط من ينال منها و من قوة شخصيتها... هل يفعل بنا الحب هذا؟!... يجعلنا بكل هذا الغباء و السخف أمام من نحب!!... هل سينطلي عليه هذا الهذيان؟!... الحالات التي تدرسها يمكنها مناقشتها مع أريج... و في الاساس دور الصيدلي غير دور الطبيب ماذا سيشرح لها بحق الله؟!... لكنه سحبها من وحوش تفكيرها قائلا ببساطة..
(لا بأس...)
ابتسامتها التي اتسعت وجدت اتساعا مشابها على ثغره... وقفا للحظات يتبادلان النظرات التي تزيد مشاعرها نحوه... كان أول من يستفيق من حالة الجمود هذه هو حينما سألها بهدوء...
(هل ستأتين هنا لنتناقش بها؟)
هزت رأسها نفيا لتهمس بوجنة حمراء تزيد جمالها في عينيه...
(صعب أن آتي هنا كثيرا... تعرف أنها سنة البكالوريوس و علي انهائها بصورة مرضية حفاظا على درجاتي...)
اسند الملف بين مرفقه و جانب جسده الأيمن ليمد كفه الايسر في جيب معطفه الطبي و يخرج هاتفه تحت نظراتها المترقبة و دقات قلبها المتزايدة... و عقلها يفطن ما سيفعله...
(لا مشكلة... دعينا نتبادل ارقام الهاتف و نتواصل عليه كلما احتاجتِ مساعدة)
هل يعرض عليها رقم هاتفه؟!... خطوة جريئة مع تفكيرها و تربيتها... هاتفها لا يحمل رقم رجل واحد سوى والدها!!... هي لا تتعامل مع الرجال مطلقا حتى زملائها في الجامعة لا يحتون على شباب... ابتلعت ريقها و شعور لذيذ يضرب اوصالها... مغامرة و ستخوضها بكل جنون ضاربة باعتقادها عرض الحائط... انه الحلم الذي حلمته من سنوات... اخرجت هاتفها من حقيبتها تمده له كي يسجل رقمه عليه... تناوله منها ثم اعاده بعد ثوان ليصدح رنينه العالي يعلن عن رقمه... ابتسم بجاذبية تخطفها يقول...
(سجلي رقمي عليه... أي وقت يقف أمامكِ شيء أنا معكِ)
القى تحيته ليغادرها و تبقى هي مشدوهة به... هاتفها في يدها يحمل رقمه اخيرا لا تصدق... وضعته بحماس في حقيبتها و تحركت لخارج المشفى... ابتسامتها المتسعة فشلت في اخفائها فلماذا تخفيها و هي سعيدة جدا؟!... فلتدعها تتسع و تتسع لتلائم فرحة روحها... أوقفت سيارة أجرة لتركبها و تتحرك بها حيث البيت..
على ناصية الشارع المقابلة كان يفتح باب سيارة أجرة قائلا بسرعة...
(خلف هذه السيارة و لا تتركها تضيع منك...)
اومأ له السائق و تحرك خلف سيارتها الأجرة بينما أخرج سوسكا هاتفه بعدما شعر باهتزازه في جيبه ليفتح الخط فور قراءة الاسم عليه قائلا...
(انتهت من زيارة المشفى و نحن في طريقنا للحي أخي كرم)
















لقياك لي المأوى(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن