الفصل الخامس

9.9K 288 6
                                    

الفصل الخامس

بعدما استخرجت كل أوراقها المطلوبة و استلمت شهادة تخرجها أخيرا تحركت تاركة مبنى شؤون الطلاب قاصدة بوابة الجامعة... و قبل أن تفعل اصطدمت بهذا الجسد الذي وقف أمامها مباشرةً على حين غفلة... رفعت بصرها بحدة ممتزجة بتعجب لتتبدل في لحظات قليلة لنظرة خجولة لامعة... وجنتاها تخضبتا بكثرة لتسرع و تضع وجهها أرضا في حياء... تنحنح هو بدوره ليسرع قائلا بصوت مزج بين الحنان و المرح...
(أعرف أنكِ لا تحبذين وقفتنا هذه و قد ابتعدت طيلة الشهور الماضية كي لا أؤثر سلبا على تركيزكِ قبل الامتحانات... تحملت كثيرا و اكتفيت بمراقبتكِ من بعيد و الاطمئنان عليكِ...)
قلبها تسارع نبضه بقوة داخلها لكنها اسرعت برفع عينيها له بحدة رافضة لما يقول... فضحك بخفوت موضحا قوله
(و لتجنب هذه النظرة القاتلة من عينيكِ و التي تنص على قتلي لا محال قررت أن أصمت حتى يحين الوقت..)
عقدت حاجبيها بعدم فهم ليبتسم هو و يكمل...
(بعد غد سيزور والدي والدكِ لنطلب يدكِ...)
اتسعت عيناها بقوة و هي تستمع له... هذا الشاب خرج لها من لا مكان قبل أشهر ليطلب منها رقم والدها فجأة و حينما نهرته اختفى لتظن أنه كان يتسلى بها... لكن ماذا الآن هل قال سيأتي لخطبتها؟!!!... رغم الخجل المميت الذي يعتريها لكنها تحلت بالشجاعة لتسأله بخفوت...
(لا أفهم...)
زادت بسمته بقوة ليبعد نظره عنها قائلا...
(بعد غد لو وافقتي على استكمال حياتكِ معي سأخبركِ بكل شيء...)
رفرفت رموشها أكثر من مرة و اشتعلت وجنتاها بقوة لتسبل اهدابها تحت نظراته الحانية فقال...
(لقد طالت وقفتنا هنا... و كما تحب فاطمة لن أزيد من وقت هذه الوقفة)
القى سلامه الساحر على مسمعها ليتحرك تاركا إياها تعاني من فرط المشاعر الكثيرة و العذبة... قبضت على حقيبتها بقوة لتكمل سيرها ناحية باب الجامعة تكبح بسمة سعيدة على ثغرها و تتوسل نبضها ان يهدأ و لو قليلا.... خرجت من البوابة تُخرج هاتفها و تتصل به وحده فقط من يعرف عن الأمر و يجب أن تسمع رأيه..
(كرم أتذكر ذاك الشاب الذي أوقفني في الجامعة قبل أشهر؟!... لقد ظهر قبل قليل و قال سيأتي بعد غد مع والده ليقابل أبي)
ضحكة كرم الخافتة زادت من خجلها فسمعته بعدها يقول بمشاغبة خاصة بها وحدها...
(أعرف...)
شهقت بقوة تسأله باستنكار...
(تعرف!!!!.... كيف؟!)
وصلها صوته الضاحك يراوغ بسؤالها...
(ماذا قال لكِ أيضا؟!)
جزت فوق أسنانها تكتم فضولها لمعرفة كرم بالأمر فقالت...
(قال لو وافقتي على استكمال حياتكِ معي سأخبركِ بكل شيء...)
صوت ضحكة كرم العالية جعلها تبتسم بحرج و كأنه يراها لتسمعه بعدها يقول بهدوء مغلف بحنانه...
(إذًا انتظري حتى يقول هو لكِ كل شيء... يا عروس)
وضعت وجهها أرضا تهتف برجاء...
(كرم!)
حاوطها صوته رغم بُعد المسافة بينهما ليقول بهدوء...
(نعم يا حورية بيت المراكبي)
غامت عيناها بعاطفتها القوية تجاه كرم... أخوتها كلهم يحبونها بشدة خصوصا لفارق السن بينهم... لكن قرب سنها من كرم جعلها شديدة التعلق به... همست بخفوت خجول...
(أنا... سعيدة)
صمت لثوان ثم قال بعدها بتروٍ...
(لا تتعجلي يا فاطمة و انتظري حتى تتعرفي عليه و يستريح قلبكِ له... و نحن معكِ في أي قرار)
اومأت و كأنه يراها لتبتسم قائلة بعدما لمحت سيارة صالح تقترب منها...
(حسنا يا كرم... لقد وصل صالح سأغلق الآن)
فتحت باب سيارة أخيها تجلس جواره ببسمة سعيدة فشلت في اخفائها... راقبها صالح ببسمة حانية بينما يدير المحرك قائلا بمشاغبة...
(تبدين سعيدة يا فاطمة)
دون أن ترفع وجهها له همهمت بخجل...
(نعم... سعيدة)
ضحك ليرفع كفه يربت فوق حجاب رأسها بحب قائلا...
(أسعد الله أوقاتك دوما يا عروسنا)
شهقت بدهشة ترفع وجهها له بسرعة كبيرة و تسأل بتعجب...
(أتعرف عن الأمر؟)
عاد ينظر للطريق قائلا بمرح...
(بالتأكيد يا قلب أخيكِ...)
غزا خلاياها الخجل فحاوطت وجهها بكفيها بحرج تبعده عن انظاره... بينما هو علت ضحكته بقوة يدعو الله من كل قلبه أن يكون هذا الشاب صالحا و يحميها بحبه و كيانه...
*************
فتحت باب الشقة لتدلف والدتها بوجه غاضب كعادتها مؤخرا... تركتها و اتجهت لغرفتها تمكث بها كما تفعل منذ ما حدث قبل أشهر ماضية... تأففت هيام بحدة تنزع غطاء رأسها و تلقيه بإهمال فوق الأريكة المتواجدة في الصالة...اتجهت نحو غرفة ابنتها تقف ببابها و تستند على اطاره قائلة بحدة...
(و ماذا بعد هذه العزلة؟!... ألم تتعلقي بعد؟!)
اتجهت فلك لنافذة غرفتها الصغيرة المطلة على شوارع الحي تقول بخفوت باهت...
(ماذا تريدين مني ألم تذهبي لقصر هذا الرجل و تبدئي العمل به؟!)
تقدمت هيام منها تقف خلفها و تقول بنبرة حاولت أن ترققها كثيرا...
(الرجل خارج البلاد مع ابنته ... و أنا أريد منكِ التخلص مما حدث في شقة شوكت لتكملي حياتكِ بطريقة عادية)
التفتت فلك لها تنظر في وجهها بجمود و تسألها ببرود...
(ألم تستلمي العمل في القصر؟!... بماذا سيفيد وجودي أنا؟)
تمسكت هيام بكتفي ابنتها تقول بتأكيد...
(القصر كبير جدا و طاقم الخدم القديم كله تغير و هذا سيجعلهم يطلبون غيره... و بدلا من أن يضيع راتب خادمة جديدة على أخرى تحصلين أنتِ عليه)
ضحكت بسخرية ثم تخطت والدتها لتقول بنفس البرود...
(و كأن ما حدث لي لم يكن...)
فقدت هيام صبرها فصرخت بانفعال...
(و ماذا حدث؟! لقد خرجتي منها سليمة...هل سنظل باقي العمر نبكي على اطلال ذاك اليوم؟!)
زادت ضحكة فلك الساخرة تتذكر محاولة أيوب على مدار الأشهر الماضية لمعرفة ما بها... لم يمل و لم يتركها رغم تهربها منه... معه فقط تشعر بكونها انسان يحق له التعبير عن مشاعره دون خوف... الدفء المتسلل منه دوما يجتاح وحدتها و يُتمها ليشبع جزء من خواء روحها... همست بسخرية مريرة
(لا... أنفض توابعها المتعلقة بروحي و استعيد قوتي الواهية لأذهب لبيت آخر مع رجل غريب آخر يتجرأ علي)
تغافلت هيام عن سخرية ابنتها و برود روحها لتقول بجمود...
(أنا لا أفرط بكِ يا فلك... أردت لكِ زيجة جيدة تكسبين منها بعض الأموال التي تمكنكِ من العيش... لكن اطمئني طارق طلال رجل في الخمسين من عمره لديه ابنة في مثل عمركِ تقريبا... يشتهر بكرم اخلاقه و سمعته الطيبة... يعني لا خوف علينا هناك)
تنهدت فلك بتعب لتبتعد بناظريها عن أمها... مجددا تزجها في وهن و احتقار للذات... مجددا تدفعها لتحمل عبء نظرات مختلسة لها من أعين حقيرة... مجددا تتاجر بها و بنفسها لمن يدفع أكثر... ماذا عليها أن تفعل بحق الله؟!... لولا أنها متيقنة من أن أيوب يستحق الأفضل لركضت اليه و وافقته على الارتباط... علَّه يمنحها الأمان و الراحة... يحاوطها تحت ذراعيه من ظلم الدنيا... صمتها طال فدفع والدتها لتظن أنها وافقت... تمسكت بكفها بقوة تقول بسعادة...
(فكري جيدا معي يا فلك... قصر في مكان راقي محترم...راتب كبير لم نحلم به... غرفة بسرير ناعم و دافئ... العمل هناك مكسب لنا صدقيني)
سحبت فلك كفها من والدتها بأعين ضيقة تسألها بعدم فهم...
(ماذا تقصدين بغرفة بسرير ناعم؟!)
عوجت هيام شفتيها بتذمر تبتعد عن ابنتها قليلا... ها قد جاءت لحظة توضيح هذه النقطة تحديدا لأبنتها... اولتها ظهرها تقول ببساطة...
(أنا سأكون رئيسة الخدم هناك و هذا يتطلب مني البيات في القصر أربعة أيام في الأسبوع... لهذا نحن سنحظى بغرفة هناك كانت لرئيسة الخدم قبلي)
فلتت ضحكة صغيرة ساخرة من فلك لتسألها بدهشة...
(تمزحين أليس كذلك؟!)
التفتت لها هيام تتنهد بتعب من ابنتها لتقول...
(لا مزح في العمل فلك... اطمئني مكوثنا هناك و راتبنا سيجعلني أكف عن البحث عن عروض زواج تكرهينها)
ضيقت فلك عينيها تفكر فيما تتفوه به أمها... حياة جديدة تماما تطلب أمها منها الولوج اليها... هل ترفض و تبقى هنا؟!... لكن ماذا بعد تصريح والدتها بأنها ستبيت هناك أربعة أيام؟!!...بل ماذا سيفعل أيوب لو عرف عن الأمر؟!... زفرت بصوت مسموع تنظر لهيام بقلة حيلة ممتزجة بخذلان صامت و تتجه بعدها للنافذة... رفعت بصرها للسماء المزينة بسحبها البيضاء النقية... فرت دمعة ساخنة على وجهها ليسأل قلبها بتوسل مقهور...
(أما من خلاص قريب يا رب؟!..)

لقياك لي المأوى(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن