الفصل التاسع و العشرون
ناظرتها بتردد بعدما وصلت لباب البقالة الداخلي ثم زفرت نفسا مهموما قبل ان تقول بخفوت...
(خالتي تعالِ ارتاحي قليلا بالداخل و أنا سأقف مكانكِ)
التفتت وجيدة الى مودة تراقب شحوب وجهها فتنهدت بتعب لتقترب منها قائلة...
(لا حبيبتي غير أن ايوب لا يحب وقوفك في البقالة فأنتِ تبدين مرهقة منذ أيام)
سحبت مودة نفسها بتثاقل لتردف بخوف...
(الحي انقلب رأسا على عقب في أيام...أشعر بالخوف و أنا اتخيل كل ليلة أن أصحو على خبر سيء كوفاة أحدهم)
اتشحت وجيدة بالحزن قائلة...
(الأمر كله بيد الله ابنتي و في النهاية هذه أعمار...لا تخافي فأنتِ لست بمفردك نحن معك و زوجك لن يسمح بأن يصيبك مكروه)
دمعت عينا مودة لتهمس برعب...
(ماذا لو أصابه هو مكروه؟!...لست خائفة على نفسي يا خالة أنا مرعوبة على زوجي...اشعر بالفزع كلما تخيلت أنهم سيدخلون مناحرة انتقاما للحاج سليمان قد اخسر بها أيوب!)
تغضنت ملامح وجيدة بخوف مشابه فاقتربت من مودة تضم كتفها اليها قائلة بيقين تزرعه فيهما معا...
(لا تفكري في السيء يا مودة هكذا ستتعبين يا ابنتي...الحاج سليمان لا يحبذ التناحر و الرجال لم يتأكدوا بعد من تورط السمري في الأمر...اتركِ الغد لله و تأكدي بأنه رحيم بنا حبيبتي)
قضمت مودة شفتها تداري ارتعاشها و كل تفكيرها منصبا على طفلها في رحمها...اغمضت عينيها في حضن وجيدة تهمهم بصوت باكٍ...
(يا رب احميه لي و لأبنه..)
بعد دقائق كانت قد تركتها وجيدة بعدما ألحت عليها مودة فوافقت تخبرها بأنها ستعد الفطور فأيوب بعدما عاد بالأمس من المشفى و هو نائم لم يتذوق الطعام ابدا...رفعت مودة كفها تكفكف دموعها من فوق وجنتيها و تتوجه الى الكرسي في منتصف البقالة لكنها قبل أن تفعل لمحت سيارة اجرة تتوقف قبالة البقالة...نبض قلبها بترقب متوجس فاقتربت من الباب تبتلع ريقها بينما تتطلع في راكبيها...ضيقت عينيها بجهل و هي ترى هيام تخرج من الباب و تسرع الى الآخر تفتحه و تسند ابنتها لتخرج و فور معرفة هويتها شخصتا بعدم تصديق...فلك ما بها و أين كانت بمنامة البيت هذه؟!...ملامحها ذابلة و عيناها غائرتان و كأنها عادت للحي قسرا؟!...بطنها الممتلئ نال من قلب مودة فظلت تحدقه طويلا...تحركت اصابعها الى بطنها تحسس عليه بقلق كبير...لماذا فلك هنا بهذه الهيئة المزرية؟!...اختفيا من امامها فعادت لوعيها و ازالت اصابعها عن بطنها تفكر ماذا ستكون ردة فعل أيوب لو عرف بوجود فلك هنا؟!!!...
في شقة هيام...
فتحت الباب بيد و بالأخرى تتشبث بابنتها المرهقة...بعد بكاء الأمس على والد لم يهتم بها كادت تسقط ارضا مغشيا عليها فلم تفكر هيام مرتين و هي توقف سيارة اجرة و تأخذها لأقرب مشفى...و هناك قضيتا ليلة متعبة حتى سمح الطبيب لهما بالخروج في الصباح مشددا على فلك ان تهتم بصحتها فوضع جنينها غير مطمئنا...اغلقت الباب بصعوبة فجسد فلك متراخيا على صدرها تقريبا...توجهت بها الى غرفتها تساعدها كي تستلقي على سريرها و بعدما فعلت همست بقول خافت...
(سأنزل اشتري بعض الأشياء للفطور و سأعود)
صوت فلك الضعيف جعل هيام تغمض عينيها بألم...
(لا أريد أن آكل فقط...لا تتركيني)
فتحت هيام عينيها الدامعتين لتنحني بجسدها و تصل الى ابنتها تمسح فوق شعرها المشعث تهمس...
(يجب أن تأكلي لأجل ابنك فلك)
لكن فلك بدت كمن لا تسمع و لا تفقه حينما همهمت من جديد...
(كلهم تركوني إلا أنتِ)
فرت دموع هيام بوجع على ابنتها...ارتاح جسدها جوارها و قد مدت كفيها تلتقط رأس ابنتها المستسلمة و تضعه فوق حجرها تمسح على شعرها و تهمس بصوت مختنق...
(لن أسكت حتى اخبر زوجك بالحقيقة عليه أن يعرف انك بريئة)
تعلقت عينا فلك بنقطة وهمية امامها لتهمس بخفوت ذابل...
(لماذا انجبتني هيام؟!)
اعتصر سؤالها قلب أمها بقوة فتماسكت هيام لتجيبها ببكاء...
(كان نصيبك أن تولدي و أن أكون أنا أمك)
سألتها فلك مجددا بنفس الصوت الباهت...
(هل سيكرهني ابني حينما يولد للدنيا و يجدني أمه؟)
سالت دموع هيام بقهر على حال ابنتها فأجابتها بيقين...
(أنتِ لست هيام)
تنهيدة وجع فلتت من فلك دون ارادتها لتهمس بعدها بصوت اهتز بغصة الظلم...
(لكنهم جعلوني أبشع من هيام...ألصقوا بي عارا لن يغفره لي إن عرفه...سيكبر و يحتقرني)
مالت هيام تلثم شعر ابنتها ببكاء و تهمس...
(لم أكن أما تمنتِها يا فلك لكني اقسم بالله لن ادعك تعيشين هذا الظلم كثيرا)
اغمضت فلك عينيها على دموعها لتهمهم بوجع...
(ما عاد ينفع هيام فبعدما اهتزت الثقة لن تعود ابدا...)
قاطعتها هيام برفض من أن تستسلم ابنتها...
(لكن طارق إن عرف الحقيقة س....)
هذه المرة قاطعتها فلك بصوت فاتر مرهق...
(احتاج أن أنام...)
شعرت بأصابع والدتها تتخلل خصلات شعرها ببطء و حنان
...تشعر بضيق تنفس كلما فكرت في أي وضع هي...أمها تظن أن ثقة طارق هي ما اهتزت و لكنها لا تعرف انها قصدت ثقتها هي...يا إلهي لقد سلمته مقاليد حياتها و اخبرته عن مخاوفها و ما مرت به...قالتها له مرارا انه بات كل شيء فلمَ صدق افتراءهم...لمَ حتى لم يمنحها حق الاستماع و الدفاع عن نفسها امامه...فلتت من بين شفتيها آهة محترقة لترفع بعدها كفها و تلامس قلبها المتقلص تمسد عليه بارتعاش لم يدم طويلا حتى ركلها طفلها لأول مرة...فتحت عينيها فجأة فانهمر الدمع المحتجز فيهما على خديها...حركتهما في كلا الاتجاهين لتبتلع ريقها بصعوبة و تتحرك يدها من فوق قلبها الى بطنها تلامس طفلها بعدم تصديق...ركلة اخرى منحها لها فاهتزت انفاسها و انفجرت دموعا جديدة كانت تحمل معها الندم...همهمت بصوت مختنق بغصته تبرأ نفسها لابنها فلابد من أنه يعرف الحقيقة و قد شهدها معها...
(لست سيئة و الله فلتسامحني لأن نصيبك معي...)
في بيت رجب...شقة أيوب
دخلت مودة غرفتهما لتوقظه بعدما انهت وجيدة تحضير الفطور...توقفت خطواتها قرب السرير تتطلع الى جسده الغافي بتعب واضح...جلست على عاقبيها جوار السرير تتفحص ملامح وجهه من هذا القرب...هل من الممكن أن تفقدها الأيام أيوب؟!...انقبض قلبها بهلع من مجرد التفكير فنفضت عن بالها هذا الاسلوب في التشاؤم...مدت اصابعها بخفة تلامس وجهه الحبيب بينما تهمس بنداء رقيق...
(أيوب استيقظ الفطور جهز)
بعد لحظات من المحاولة فتح عينيه الناعستين لها ليضيقهما قليلا و يحدق في وجهها و كأنه يتذكر شيئا ما و حينما استجمع عقله قواه في التذكر شخصت عيناه بجزع لينتفض من نومته متسائلا بصوت متلهف...
(مودة ماذا هناك...هل الحاج سليمان بخير أم....)
انتفضت من مجلسها لتسرع في الجلوس جواره تربت على ذراعه قائلة بسرعة...
(بسم الله اهدأ أيوب كل شيء بخير لقد ايقظتك لتتناول الفطور)
زفر انفاسه القلقة بصوت مسموع ليغمض عينيه و يمسح فوق وجهه فيصله صوتها المتأسف...
(آسفة لم اقصد اخافتك و الله...)
ابعد كفه عن وجهه ثم فتح عينيه يناظرها بتعب قائلا بينما يضم جسدها اليه...
(لا تتأسفي...ذهني مشغول على الحاج فليس ذنبك)
وضعت يدها فوق صدره فوصلها نبض قلبه الهادر و الذي دفعها للقلق...
(أيوب قلبك ينبض بعنف يا إلهي كل هذا بسببي...انتظر سأحضر لك كوبا من الماء)
كادت تبتعد عنه لكنه شدد على تمسكه بها متنهدا بذهن شريد فيهمس...
(لا يكن قلبك خفيفا هكذا يا بنت أنا بخير..)
تنفست بخوف من القادم لتسأله بما يؤرق روحها...
(أيوب هل لو عرف ابناء الحاج سليمان عن هوية مفتعل الحادث و أرادوا الانتقام ستكون معهم؟!)
عقد ما بين حاجبيه ينظر لرأسها قرب صدره متسائلا...
(و هل تنتظرين مني ان أقف متفرجا و اترك حق الحاج سليمان؟!)
ابتلعت ريقها تهمس بقلق...
(و لمَ لا تبلغوا الشرطة؟!)
تكلم أيوب بحدة متأثرا بما حدث لسليمان...
(نحن قادرون على استعادة حقنا بأنفسنا)
بكت بصوت مسموع مما جعله يتفاجأ من رد فعلها حتى قالت برعب...
(ألا تفكر بأنه لو اصابك مكروه سأموت من قهري عليك...ألم تفكر كيف سأعيش بعدك و ماذا سيحدث لي و ل...)
توقفت كلماتها عند هذا الحد و عاد صراعها يشتعل بداخلها...هل تخبره بحملها الآن أم الأحداث الجارية لا تناسب...لكن ربما لو أخبرته ستجعله يتمهل في قراراته لأجل طفله...سمعت صوته الهادئ و كأنه يربت على مخاوفها...
(لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا لا تخافي فلم نتأكد بعد من أي شيء يخص الحادث...و ايضا هذه ليست اول مرة ادخل في مشاجرة)
ابعدها عنه قليلا ليناظر وجهها الباكي فيميل يقبل وجنتها برفق لتردف هي برجاء..
(من قبل كنت بمفردك أيوب أما الآن فنحن مسؤولون منك)
ابتعد عنها يربت على وجنتها قائلا...
(افديكم بروحي يا مودة أنتِ و أهلي دوما في اعتباري و لا اتخذ خطوة قبل أن افكر فيكم أولا لا تقلقي حبيبتي)
تنهدت بصوت مرهق ثم امسكت كفه تقربه من فمها و تقبله هامسة...
(لا أوجع الله قلبي عليك ابدا)
ابتسم لها بحنان يقول بمرح ناقص...
(أنا جائع جدا دعينا ننزل و نتناول الفطور مع أم أيوب و أبي أيوب)
اسبلت اهدابها تومئ له بموافقة و بداخلها تخبر نفسها بأن تتريث قليلا في اخباره...لا تعرف متى ستخبرهم جميعا لكنها حقا مرتعبة كما أنها تريد أن يكون الجميع متأهبا لسماع مثل هذا الخبر فمن حقها ألا تنتقص الظروف الحالية من فرحة خبر كهذا!...استقام ايوب ليبتعد عن السرير متجها الى الحمام و مودة فعلت المثل لكنها فور استقامتها خلفه ترنحت بقوة ليلتقفها أيوب بجزع بين احضانه متسائلا بقلق...
(مودة ما بكِ؟!)
امسكت برأسها تغمض عينيها كي يزول هذا الدور الشديد...اسندت رأسها على صدره تهمس بصوت متقطع...
(لم أنم جيدا الأيام الماضية...أنا بخير لا تقلق)
ابتعدت عنه بعدما تمالكت نفسها تبتسم بتعب ثم تدفعه للأمام قائلة...
(هيا الى الحمام لقد تأخرنا على خالتي و العم رجب بالفعل)
تحرك معها حيث الحمام يناظرها بقلق و يسألها مئة سؤال عن صحتها حتى اقنعته انها بخير و عليه ألا يخاف...توقفت
بعدما دلف تتشبث بالحائط جواره تسند رأسها عليه و تتنفس بتعب...همهمت بدعاء متوسل...
(يا رب أنت من خلقته داخلي في هذا الوقت فأحفظه و أجعل مجيئه لنا خيرا)
أنت تقرأ
لقياك لي المأوى(مكتملة)
Romantizmرواية للمتألقة آية أحمد حقوق الملكية محفوظة للمبدعة آية أحمد لُقياك ليّ المأوى خليط من حكايات يعزف لحنها بحر الحياة...بين أمواج متلاطمة تارة و ناعمة تارة أخرى نعيش... و على شاطئ رماله ذهبية تعكس رونق الشمس يحاوطنا الدفء و يتسلل لشرايين الروح قبل الج...