الفصل الحادي و العشرون
واقفا ينتظر دوره في طابور الأطباء و الممرضين في كافتيريا المشفى ليحصل على وجبة الغداء...صف طويل للغاية سيدفعه لأن يجيب على هذا العدد المهول من الرسائل...أدخل كفه في جيب معطفه الطبي يلتقط هاتفه و يرفعه الى وجهه...اتسعت عيناه بصدمة زحزحت نظارته الطبية قليلا...مائة و أربعون رسالة جديدة في أقل من عشر دقائق...سحب بإصبعه شاشة الهاتف للأعلى ليدلف بقدمه الى اللا رجوع...دردشة جماعية سُميت "ذكرياتنا الحلوة" تضم عمالقة عائلته...منذ علّم والدته كيف تتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي و هي تبهره كل يوم او ربما كل ساعة...كهذه المجموعة التي جمعت بها افراد العائلة من كلا الطرفين...يسميه هو لقاء السحاب فخالاته و عماته لا يجتمعن سويا سوى و تحدث مصيبة فكيف لوالدته ان تضمهن كلهن في دردشة واحدة!!...عشرات الرسائل العجيبة تُرسل في لحظات معدودة تجعله يود لو يكسر هاتفه حقا...و ها هي العينة لقد أرسلت خالته صورة حصان بستة أرجل يتضح للأعمى أنها ليست صورة حقيقة لكن نسوة العائلة لا يفقهن هذا بل انهالت رسائلهن بالحوقلة و التسبيح و كأنها معجزة خارقة!!...برم شفتيه بضيق ليرسل رسالته السلسة..
«خالتي انها ليست حقيقية فلا تتأثرن بمثل هذه الصور»
فور ارساله لرسالته وصلت رسالة خالته و التي حقا لا يعرف كيف تمكنت من خرق قوانين الفيزياء و تخطي الوقت لترسلها...و كأنها فطنت ما سيرسله فجهزت ردها و الذي تمثل في...
«لا إله إلا الله لا يُعجِز الله شيء...أنتم هكذا يا شباب هذه الأيام لا تتأثرون قلوبكم قاسية و قد الهتها الدنيا و سلب عقولكم الانترنت»
رفع رأسه عن الهاتف ينظر أمامه فيجد ان الصف لا يزال طويلا...قضم شفته السفلى بضيق ليعود الى محادثة خالته متمسكا بالعقل...
«خالتي أنتِ تستخدمين الانترنت ليل نهار!!»
وصلته رسالة من عمته تنص على عدة صور من الورود الحمراء اللامعة المكتوب عليها بزخرفة تسبب حول للعين "صباح جميل يحمل معه كل خير"...رد ببلادة اصيب بها من نوعية رسائلهن على هذه الرسالة...
«نحن في منتصف اليوم عمتي...لقد أذن العصر قبل نصف ساعة!»
وصلته رسالة عمته السريعة....
«"زوما" حبيبي كيف حالك يا دكتور؟!...اشتقنا لك ألن تأتي لتزور عمتك قريبا»
تنهد بصوت مكتوم متيقنا بأنه لن يخرج من هذه الدردشة قبل ثلاث ساعات فلن تتركنه قريباته في حاله...مر بعض الوقت و قد انغمس في محادثتهن مجبرا حتى شعر بمن يربت على كتفه من الخلف و صوت يقول...
(الصف يتحرك فتقدم من فضلك و دعنا ننهي هذه الوقفة المتعبة)
اومأ موافقا دون ان يلتفت لصاحبة الصوت و قد ترك رسالة سريعة لهن بأنه عائد للعمل ثم قام بقفل اشعارات مجموعة الدردشة حتى يلتقط انفاسه منتظرا دوره ليتناول طعامه...
بالخلف...
بعدما نبهت ديما من يقف أمامها عل هذا الملل ينتهي لتحصل على طعامها و تعود الى عملها تنهي كومة التقارير التي بلاها بها مؤيد...رن هاتفها برقم خطيبة أخيها فتبسمت حامدة الله انها ستلتهي قليلا حتى يحين دورها في الصف...فتحته ببسمة عريضة ترحب بها قائلة...
(سلمى اشتقت اليك حبيبتي)
وصلتها التحية من الطرف الآخر و بعدها ارفقتها خطيبة اخيها بجمل الاتهام و ان ديما تتهرب كلما سنحت فرصة اللقاء...احتلها البؤس ملامح ديما تقول بحزن...
(و الله يا سلمى لو تعرفين كيف يعاملني المدير هنا لبكيتِ على حالي)
تنهدت بتعب فحقا مؤيد يستعبدها لكن ما يصبرها هو كون الجميع هنا تحت حصاره و ليس هي فقط...استمعت لخطيبة اخيها مجددا فضحكت بمرح تبدل معه كل البؤس لتقول...
(بأحسن حال و مزاولة المهنة لطيفة نوعا ما فأوقات تصادفني اشياء تغير مزاجي و تنسيني التعب...)
علت ضحكتها بعض الشيء فقالت...
(مثلا يوم أمس وصلني مريض يريد صرف الدواء الموصوف له من طبيب الاسنان حينما حطت عيناي على اسم الطبيب انفجرت من الضحك حتى ظن المريض انني معتوهة)
تكتم ضحكاتها و الموقف يُعاد في مخيلتها متزامنا مع تساؤل خطيبة اخيها ففسرت لها بصوت متهدج من الضحك...
(اسمه كان كاظم الساهر لم اتحمل تمالك نفسي و انا اتخيل ان يكون الدواء الموصوف عبارة عن "قولي احبك" ثلاث مرات بعد الأكل...و الادهى مخيلتي التي ربطت هيئته بهيئة محمد هنيدي في الفيلم و هو واقفا على خشبة المسرح يحرك ذراعه عاليا في كلا الجانبين مجلجلا "لا لا لا لاااا")
انحصرت انفاسه في صدره و وجهه يكاد ينفجر من الحرج...اسمه مشكلته الأزلية منذ وعى على الدنيا...والده كان من عشاق كاظم الساهر و كم كان سعيدا لأنه يحمل جزءا من اسمه...و حينما تزوج و رُزق بولد اطلق عليه كاظم ليصبح مزحة كل من ليس له مزحة...دفع نظارته بأصابعه للخلف يتنحنح بصوت متحشرج مستمع لصوت هذه الواقعة في الضحك خلفه...تقبضت كفاه يتحكم في نفسه و يخبرها بأنه مر عليه الكثير بسبب اسمه...سنوات يعاني في الدراسة و العمل لا بأس سيأخذها بسلاسة و ينتهي الأمر...
التفت للخلف ليرى ملامح هذه الصيدلانية التي قامت بالتهكم على اسمه للتو...ضيق عينيه خلف نظارته حينما وجد رجلا خلفه...تنحنح متسائلا
(أين ذهبت من كانت هنا؟!)
أشار له الطبيب الى ماكينة القهوة قائلا...
(اعتقد شعرت بالملل من الانتظار ففضلت شرب القهوة عن تناول الطعام...يبدو يجب علينا ان نفعل مثلها بدلا من هذا التعب)
تتبع اشارة الرجل حتى حطت عيناه على فتاة متوسطة الطول بشعر يميل للبني الفاتح ترتدي معطفها الابيض و تتحرك بسرعة لتحجز دورها عند ماكينة القهوة...لمح جانب وجهها و بسمتها المتروكة فوق شفتيها ليعود ببصره للطابور و قد بدا غير مهتما به ...خرج من الصف متوجها نحوها حتى وقف خلفها يحجز دوره في طابور القهوة التي لا يحبها البته... هزت رأسها يمينا و يسارا ثم رفعت يديها تجمع شعرها في كعكة عشوائية بسبب حرارة الجو... شرد قليلا في هذه الخصلات المتمردة حول عنقها و دون وعي ابتسم بسمة صغيرة... راقبها بعدما حملت كوب قهوتها و تحركت الى خارج الكافيتريا...اعتذر من المصطفين خلفه ليخرج خلفها و يتتبع مشيتها السريعة...توقفت قرب باب المصعد يراقب حركة يدها التي ترتفع الى فمها و ترتشف من قهوتها...اسرع الخطى نحوها حتى توقف جوارها قائلا...
(ساهر)
التفتت له بأعين متسائلة تهمهم بتعجب...
(عفوا؟!)
فكان رد فعله الوحيد هو جملة نطقها بينما يؤشر على جيب معطفه العلوي حيث اسمه...
(كاظم ساهر و ليس الساهر)
تضرجت وجنتاها أمامه في ثوان يراقب نظراتها المحرجة المتهربة منه...اصابعها تتقبض فوق كوب القهوة الورقي و شفتاها تهتزان في محاولة لإيجاد كلمات تعبر بها...ابتسم على هيئتها امامه فقرر ان يزيدها معها فهي أول متهكمة متلعثمة و محرجة تقابله في حياته...مال قليلا اليها يقول بصوت مشاغب...
(و لست شبه محمد هنيدي و لا اقول "لا لا لا لاااا")
سعلت ديما بحرج شديد و لا تعرف بماذا ترد عليه...كانت متهورة و سخرت من اسمه لكنها لم تكن تعرف بأن الحظ ليس جيدا معها و انه يقف يستمع...انها لعنة مؤيد بالتأكيد...اهتزت يدها بفعل سعالها فانفلت منها كوب القهوة دون قصد ليرتطم بالأرضية و يتطاير ما به ليلطخ معطف كاظم!!...
الزمها الموقف الصمت و تابعت انحناء رأسه يراقب ما خلفته من كارثة...ودت لو تهرب من أمامه متحاشية هذا الموقف المحرج...رفع لها عينين متسعتين بذهول من خلف نظارته...بحلقت عيناها خلفه مباشرة تقول بصوت مهزوز...
(د...دكتور مؤيد!)
الاسم وحده كفيل بان ينتصب اكبر الاطباء هنا...تلاشت صدمته ليلتفت بقلق للخلف حيث المدير صعب المراس...عيناه تعلقت للحظات بال...فراغ خلفه!!!
استوعب ما فعلته به فالتفت بحدة ليجد ان ما تبقى منها كان سرابا...لقد خدعته لتهرب بعد ما فعلته بمعطفه...ناظر معطفه بقلة حيلة و لا يعرف كيف له أن يكمل يومه هكذا في العمل لو رآه مؤيد حقا ستكون كارثة...زفر بحدة موبخ نفسه قبل أي شيء لإتباعه لها فالجميع يسخر من اسمه هل جاءت عليها هي و التهبت كرامته!!...تذكر نظراتها المحرجة أمامه فابتسم ببلاهة مرددا...
(أين تهربين فنحن في نفس المشفى يا غبية!)
![](https://img.wattpad.com/cover/309744016-288-k726130.jpg)
أنت تقرأ
لقياك لي المأوى(مكتملة)
Romanceرواية للمتألقة آية أحمد حقوق الملكية محفوظة للمبدعة آية أحمد لُقياك ليّ المأوى خليط من حكايات يعزف لحنها بحر الحياة...بين أمواج متلاطمة تارة و ناعمة تارة أخرى نعيش... و على شاطئ رماله ذهبية تعكس رونق الشمس يحاوطنا الدفء و يتسلل لشرايين الروح قبل الج...