الفصل الحادي عشر
صوت فتح باب الشقة استرعى مسامع هيام... هرولت نحوه بوجه قلق لتستقبل ابنتها... جذبتها من يدها بحدة تسحبها للداخل و هي تهتف بصوت حاد...
(أين ذهبتِ في هذا الوقت المبكر دون علمي؟!)
ناظرتها ابنتها بجمود و شبح قسوة يطوف بين جفنيها... سحبت يدها بعنف من يد والدتها ثم تحركت تاركة إياها لتتجه نحو غرفتها... بهتت هيام من رد فعل ابنتها لتعاود السؤال بصوت خفتت حدته بعض الشيء... فالتفتت لها فلك بنظرة عين ميتة تهمس بصوت مبحوح من فرط البكاء الذي غرقت فيه أمسا...
(كنت أحقق لكِ حلم حياتكِ)
ضيقت هيام عينيها تتأرجح بين شعورين... احدهما يرفرف قلبها له رغم يقينها بأن فلك لن تلين و تقبل... و الآخر متوجس من أن تفتعل شيئا يورطهما بحماقتها... همست بترقب تسأل
(ماذا يعني؟!)
بسمة شاحبة مذبوحة ارتسمت على ثغرها لتهمس بصوت خاوٍ...
(قبلت عرض طارق طلال)
لم تتمكن هيام من السيطرة على نفسها فاقتربت في لحظة سعادة تحاوط ابنتها بين ذراعيها... تهتف بصوت مهلل مبارك تؤيد خطوتها الرابحة بكل روحها...
(هذه ابنتي... مبارك يا فلك... مبارك علينا النعيم)
خرجت فلك من بين ذراعيها ترمقها بنظرة محتقرة هامسة...
(مبارك عليكِ... لقد فزتِ هيام)
تركتها لتدلف غرفتها و تغلقها خلفها غير عابئة بما ستفعل امها حقا... بينما هيام اتسعت بسمتها و هي تحلم بأي غد ستعيش و أي نعيم سيعوضها عن سنوات جدباء...
نزعت وشاح رأسها تلقيه فوق الكرسي القريب من سريرها الذي جلست عليه... خلعت نعلها و ارتفعتا ساقاها فوق السرير تريح جسدها المتعب... عيناها تجمدتا على سقف غرفتها البالي... قلبها يتوسلها أن تصرخ.. تبكي.. تنتحب.. لكن عقلها يأمرها بقسوة أن كُفِ عن البكاء... دموعكِ غالية و لا يستحقها أي أحد... قضمت شفتها السفلية بعنف تكبح ارتعاشها و صورة أيوب الغاضب بالأمس لا تتركها... اغمضت عينيها عنوة لتمحي كل أثر لأيوب من مخيلتها... لا تريد أن تتذكره بهذا الوجه القاسي... لا تريد أن تحرق بيدها آخر ما تبقى من صفاء روحها... و قد نجحت و تبدلت صورته بصورة أخرى احتلت ذاكرتها... صورة طارق بوجهه البشوش المرتاح بعدما أبلغته موافقتها... كان سعيدا... لا فالسعادة أقل بكثير مما رأته منه في ذاك الوقت... فتحت عينيها فجأة تهمس بصوت جاف و كأنها تؤنب نفسها على طيبتها و تبرير مواقف غيرها
(لا يهم من سيكون سعيدا و من سيحزن... لقد اتخذت قراري و انتهى الأمر... فلك ستنهل من الدنيا فرحتها و لن تبالي بأحد)
عادت ملامحها للهدوء تتذكر كيف كان لقاؤها مع طارق صباحا... كيف كانت قوية واثقة و ذات شأن و قرار... هذه هي نسختها التي يجب أن تتمسك بها بكل طاقتها... هي لن تضعف و لن تخضع بعد اليوم...(أنتِ حقا موافقة فلك!)
صوته المندهش جعلها تشعر بالقوة... هنا من يريدها كما هي بصورتها الضعيفة الذليلة بل و غير مصدق بأنها وافقت عليه... اتشحت عيناها بقوة جديدة عليها لتومئ برأسها قليلا ثم يصدر صوتها القاطع بصلابة تلألأت عينا طارق لها...
(لكن هناك شروط... تقبلها يكمل زواجنا ترفضها لا...)
قاطعها طارق بلهجة محنكة اعتاد عليها من سنوات عمره...
(أملي شروطكِ علي و دعِ أمر القبول و الرفض لي)
قست عيناها بنظرة دفاعية فامتص كل ما تمر به بخبرة هامسا بحنان غير مصطنع... فكل ما يشعره نحوها نابع من قلبه الذي بُعث من جديد معها
(و تأكدي بأن سيوازي قبولكِ لعرضي قبولا)
رفعت رأسها عاليا باعتداد متنافي مع ملامحها الذابلة الباكية تقول...
(لا أعرف سبب رغبتكِ في زواجي أنا تحديدا لكنني متيقنة من سبب قبولي لك... أنا احتاج لحنان أب افتقدته عمرا كاملا و سأجد معك هذا الحنان لذا... زواجنا مبني على منفعة متبادلة بيننا فلا تطالبني بأكثر من هذا)
عيناه تطوفان على وجهها الجميل بتمهل... يتمهل ليعرف من أين ينبع سبب الوجع الظاهر في عينيها المميزتين... من زاد كسر جديد في كسور روحها فجعلها حادة كنصل سكين قاتل... الصغيرة تكشف أوراقها بكل نزاهة أمامه و تخبره أنه مجرد مصدر للطمأنينة لها... كلامها لا يحمل سوى معنى واحد... حياتهما لن تكون كحياة زوجين عاديين!! أم هو اختلط عليه الامر و فهمه بشكل آخر!!!...حسنا فليسايرها قليلا مراعيا حالتها أمامه... ابتسم بسمته الحانية يلتقف منها سهام القسوة المشتعلة و يبردها في قلبه... راقب توتر حدقتيها فهمس بصوته الراقي الحنون و قد لاحظت من نبرته نغمة جديدة خشيت من تفسيرها الصحيح...
(سبب رغبتي في زواجكِ أنتِ تحديدا ستعرفينه يوم تصبحين زوجتي فلك... و عندها صدقيني من تلقاء نفسكِ ستغيرين هذا الشرط)
احتدت نظرتها برفض فصاحت بصوت معتدٍ...
(ماذا يعني هل ترفض شرطي؟!!!)
لم تتغير بسمته مطلقا لكن عيناه فاض منهما الأمان و شعوره نحوها يتضخم فقال...
(لم أقل هذا أبدا... قلت أنتِ من سيغيره)
صدرت منها بسمة قاسية صغيرة تقول...
(لا تخف شروطي ابدا لن تتغير... يكفي خنوعا)
توجعه قسوتها الغير لائقة عليها بالمرة... تجعله يريد سبر اغوارها ليعرف من تجرأ و أوجعها... نبرته خرجت بتأكيد متضامن رغم كونها وعد متيقن من تحقيقه...
(الأيام بيننا خير شاهد... أسمعيني باقي شروطكِ فلك)
الرفض الذي لاح على ملامحها بددته سريعا... يظن أنه بقادر على ثنيها عن احلامها مخطئ... فهي من اليوم لن تحيا سوى لتعزز من نفسها و تحاوطها بما تشاء و تشتهي... ارتعش صوتها قليلا بتأثر لكنها تمكنت من السيطرة على صورتها الجديدة...
(شرطي الثاني ابنتك... بالتأكيد ستعارض زواجنا و ربما سترفضه تماما... لكن في حين تم هذا الزواج لن أتقبل منها حرفا واحدا يجرحني)
اومأ بهدوء ليقول بصدق اشعرها بالقوة...
(ان كتب الله لنا حياة جديدة معا تأكدي بأن كرامتكِ ستكون من كرامتي... لا تقلقي)
زفرت نفسا مرتاحا لتكمل بصوت اكتسب الثقة و الرضا...
(ثالثا و هذا الأهم...عليك طلب يدي من كبير منطقتنا الحاج سليمان المراكبي... و ايضا)
صمتت ليلاحظ ترقرق الدمع في عينيها... تقدم منها بوجه قلق يهمس بصوته المتسلل في عتمة ذكرياتها... لينتشل تلك الطفلة الباكية التي تؤشر عليها اصابع الجارات... يحمي تلك المراهقة التي احرقتها نظرات الرجال... يقطع بعنف كل يد امتدت تلامس جسدها من قبل... فرفعت عينيها الملبدة بالدموع و كأنها تتوسل أن يوافق... أن يرفع هامتها بين سكان حيّها الذين أبخسوها حقها عمرا طويلا...
(و ايضا يقام عرسنا هناك في حيّ... ليرى الجميع فلك ابنة هيام و هي عروس)
لو هذه كل أحلامكِ يا صغيرة فلكِ ما تشائين و فوقها قلبي الذي يهفو لضمكِ قربه... كم هي مسكينة حتى في قسوتها... حالها هذا ينخر في روحه... يجعله يتمنى ألف مرة لو وجدها باكرا عن هذا في عمره... و الله لزين لها حياتها بكل ألوان الفرح فهي تستحق... تنهد ببسمة متضامنة حنونة يهمس...
(هل هناك المزيد؟!)
أسبلت اهدابها تخفي دموعها عنه بحرج و تهز رأسها نافية... فلت منه زفير مرتاح ليقول بعدها بصوت رجولي واعدا بكل ذرة في كيانه...
(كل شروطكِ نالت الموافقة فلك... و لو تمنيتِ المزيد تأكدي بكونه مقبولا ايضا)
رفعت عينيها اليه تسأله بعدم تصديق زاد من صورتها المنكسرة في نظره...
(حقا... وافقت عليهم كلهم؟!!!)
حاوطها بنظرة ظنتها دوما أبوية لكن الآن لا ترى فيها غير نظرة رجل لامرأته... نظرة تخبرها بألا تخافي و لا تجزعي فمن اليوم أصبح لكِ من الدنيا مأوى يحميكِ بكل ما به... هز رأسه مؤكدا لكنه ابتسم بعبث تراه لمراتها الأولى جعله يبدو أصغر سنا بكثير ليقول..
(لكن أول شرط لم نغلق قضيته بعد... سأنتظر منكِ أنتِ تغييره وقتما تشعرين برغبتكِ في التغيير)
هتفت بحدة و كأنها تحتمي في حدتها من العودة للضعف و التخلي عن قوتها الجديدة...
(يخيل لك هذا... أنا أبدا لن أغير نفسي التي تراها الآن سيد طارق)
اتسعت بسمته بحنان يومئ رأسه بوسامة فضية العمر كحال شعرات رأسه يقول بتأكيد...
(سنرى... يا فلك)
اسمها خرج منه وقتها بوقع خاص جدا... كأنه يتذوق حروفه بطعم دوّن تحته جملة هذه من أحيت قلبي ستصبح زوجتي... فغصبا أحمرت خجلا متوترا لتبتعد عنه خوفا من أن تضعف بعدما فهمت مغزى نطقه لاسمها بهذه النبرة... خافت أن تنفر منه و هي تراه رجلا مثل بقية نوعه يلهث خلف أنثى... غير آبها بسنها أو طبقتها الاجتماعية فالأهم لديه أنها ستصبح له...
أنت تقرأ
لقياك لي المأوى(مكتملة)
Romanceرواية للمتألقة آية أحمد حقوق الملكية محفوظة للمبدعة آية أحمد لُقياك ليّ المأوى خليط من حكايات يعزف لحنها بحر الحياة...بين أمواج متلاطمة تارة و ناعمة تارة أخرى نعيش... و على شاطئ رماله ذهبية تعكس رونق الشمس يحاوطنا الدفء و يتسلل لشرايين الروح قبل الج...