الفصل الخامس عشر
صوت الامواج المتلاطمة يتعالى في سكون هذا الليل و خصيصا في مكان شبه مهجور كهذا...يقف أنور وسط بعض الحشائش النامية بعشوائية و العديد من اجزاء المراكب الهالكة ملقاة هنا و هناك...يضع يديه في جيبي بنطاله يراقب البحر امامه و صوت صراخ مكتوم يأتي من المخزن القديم خلفه... التفت بوجه نزق يراقب باب المخزن لا يعرف لمَ هم هنا و لماذا يفعلون هذا في اول يوم للعيد؟!!...اخرج يديه من جيبيه حينما خرج ايوب من باب المخزن بوجه غاضب تفلت منه سبات نابية قد تراجع عن قولها منذ زمن...اقترب منه بعدم فهم يسأله بتوجس...
(لمَ نحن هنا و لماذا صاحب الصيدلية بالداخل ايوب؟!)
فك ايوب ازرار قميصه ليمسح كفه الملطخ بدم في طرفه قائلا بصوت غامض...
(كرم يريد هذا)
ارتفع حاجب انور بدهشة ليقول ساخرا...
(اتفقنا يا عمي ان كرم يريد هذا و لكن لمَ؟!!!)
افلت ايوب طرف قميصه يقول بحدة غصبا عنه...
(لان هذا الخسيس بالداخل ارتكب خطأ فادحا و علينا تربيته)
اومأ انور متفهما يقول بتريث...
(نربيه عمي نربيه... و لكن اعرف السبب على الاقل لا ان اقف كالأطرش في الزفة هكذا)
زفر ايوب يوليه ظهره و كله رغبة في ان يدخل مجددا و يظل يلكم هذا النذل و بدلا من نزيف انفه يقتلع عنقه بيده...همهم بصوت محتقن
(لا اعرف السبب انا ايضا لكن طلب كرم ان نجلبه هنا يعني انه افتعل ما يستحق المخزن الشمالي)
رفع انور بصره يقلبه في المكان حوله...هذا المخزن المهجور الذي لم تعد تطأه قدم و باتوا يستخدمونه في تخزين اجزاء المراكب التالفة و ايضا تربية من يستحق التربية... لكن من يأتي هنا كمتهم يعني ان فعلته كبيرة لدرجة ان يتصرف كرم دون علم والده...فقط هم الثلاثة اتخذوا المكان هنا وسيلة لرضع اشباه الرجال لكنه في المرات السابقة كان يعرف الذنب الذي يجر مفتعله الى هنا ام الآن لا يعرف و ايوب يبدو يتكتم على شيء خطير!!...
صوت اقدام خلفهما جعلهما يلتفتا في لحظة واحدة ليواجها كرم المتحفز كليا...اتسعت عين انور بقلق و حالة كرم امامه لا تبشر بالخير هاجس واحد طن في باله ان الرجل بالداخل هالك فعليا...دون حرف واحد لهما اتجه كرم الى باب المخزن حتى بلغه لكن صوت انور اوقفه حينما سأله بتوجس كبير...
(كرم ماذا حدث بالضبط؟!... هيئتك تخبرني انك ستتهور بالداخل و هذا ما لم اسمح به!!)
وضعه لم يتغير للحظة واقفا موليا ظهره لصاحبيه يتمسك بباب المخزن...بعدما انتهى انور من حديثه تحركت يداه في اتجاهين مختلفين يفتح الباب الصدئ الذي اصدر صوتا مخيفا...خطى خطوة للداخل ثم توقف قائلا بنبرة محذرة خشنة...
(لا اريد دخول اي منكما مهما سمعتما من اصوات)
زاد توجس انور ليتقدم منه قائلا برفض قاطع...
(و انا لن اتركك تورط نفسك و اقف اشاهد!)
رفع كرم رأسه عاليا فظن انور ان صاحبه سيتعقل و لن يورط نفسه في امر يبدو عظيما لكن صوت كرم الذي خرج مستميتا و مصمما جعله يوقن بأن صاحبه هنا قاتل او مقتول...
(لا تدخلا فحسب)
استدار يغلق الباب خلفه لتكون صورة وجهه المخيف هي اخر ما يراه الصاحبان منه...نظر انور لأيوب يقول بقلق...
(يبدو ينوي شرا للرجل اخشى ان يموت في يديه... هل سنتركه ايوب؟!)
رغم قلق ايوب على كرم لكنه يقدر الموقف فها هو يغلي مكانه بسبب ما حدث لغسق فما بال كرم و قلب كرم؟!!!...نظر لصاحبه يقول بصوت ركن للهدوء
(كرم لن يتهور لا تقلق انور...فقط دعه يربيه بطريقته)
ضيق انور عينيه يناظر ايوب بعدم فهم ثم وجهها لباب المخزن المغلق يتمتم بصوت خافت...
(الله يستر و لا يثقل في تربيته فيُضيع نفسه)
بالداخل....
سحق الاخشاب الملقاة فوق الارض متخذا طريقا لهذا الذي تكوم ارضا يئن بصوت مكتوم... قبضتاه تكادان تنفجران من شدة تكورهما... قلبه يعصف و يعربد كحيوان مفترس مقيد امام فريسته... روحه تحترق و تسأله الثأر بوحشية رادعة مميتة... اقترب منه لينعكس الضوء الخافت المتسلل من الخارج على جسده المسجى ارضا...عيناه سيطرت عليهما الدكنة و شاع الغموض كلغة غير منطوقة تهدد بالفتك...لسان حاله يهمهم بحروف مشتعلة تلهب روحه المهتزة...
(توجع اكثر كما توجعت هي... دعني اسمع انينك كما سمعت انين روحها التي انتهكت بسببكم)
فتح الرجل عينيه ببطء يطالع هذا الجسد امامه...ضيق عينيه يدقق في ملامحه بهذا الضوء الخافت الذي لا يسعفه...همس بصوت مرتعد متألم...
(أهذا أنت يا كرم؟!...بالله عليك ما شغلي انا هنا؟!...لمَ سحبني اصدقائك الى هنا و قاموا بضربي؟!!)
جلس على عاقبيه فأصبح وجهه قريبا للغاية منه...ارتعشت اوصال الرجل بعدما تلقى هذه النظرة الغير مفهوم منها سوى الهلاك من عيني كرم...جال ببصره في المكان حوله يستصرخ جدرانه طالبا منها العون برعب دفين...صوت كرم الهادئ هدوء يسبب رجفة جعله ينظر له مزدردا ريقه بوجل...
(لمَ كذبت؟!)
تلعثم مرارا يجاهد كي يخرج صوته المهتز...
(لا...لا افهم!)
اكمل كرم بنفس اللهجة الهادئة رغم نظراته الصارخة و التي ازداد غموضها بشكل يخيف...
(ابنك ليس مريضا كما ادعيت)
جحظت عينا الرجل بشدة و قد زاد انفعاله فحاول الحركة لكن ضربات ايوب له الجمته...توجع بصوت مكتوم ليهمس بعدما ابعد عينه عن كرم...
(لا لقد...كان مريضا بالفعل)
الغيظ الذي كظمه بشق الانفس...التعقل الذي روض نفسه الوحشية عليه...التأني الذي سلكه طريقا كي يفهم القصة...و النيران التي اخمدها بصعوبة قاتلة داخله انفلت عقالهم جميعا...دفعة واحدة...
طحن ضروسه بضراوة يقترب اكثر منه حتى لفحت انفاسه الساخنة وجه الرجل فهمس بوحشية تلائم نظرة عينه...
(الكذب مجددا معي ليس مقبولا...لأنه سيضاعف العقاب)
خوفه من هيئة كرم استثار دموعه و كم كان مخزيا ان يتحدث ببكاء كطفل متسول...لكنه ليس بقادر على التصدي لهذا الرجل امامه...سيهلك بلا شك
(لا اكذب عليك ص...صدقني أنا... اقصد ابني كان مريضا و....)
خرس حينما التقفت كف كرم ياقة قميصه...حرك اصابعه ببطء عليها حتى وصل لعنقه يضغط عليه بقسوة مخيفة...شعر الرجل بالاختناق و لكن هذا الشعور كان هينا عن شعور الرعب الذي يبثه كرم في روحه هذه اللحظة...
(لماذا طلبت منها النزول في ذاك الوقت؟)
جاهد الرجل ليخرج صوته مختنقا مرتعبا يهمس..
(صدقني لم أكن اعرف انهم سيسرقون الصيدلية)
دكنة عينيه هلت بقوة ليسأله بصوت احتد بعنف...
(من هم؟!...ستخبرني بكل شيء)
هز الرجل رأسه بقوة يقول بتعب بدا عليه....
(سأفعل... فقط ابعد يدك عن عنقي انا اختنق)
صدره يهتاج فخرج نفسه مسموعا للرجل...صدره يعلو و يهبط بهدير مخيف...سيستمع لما اصابها مجددا سيدقق في كل تفاصيله مرة اخرى...سيموت ثانيةً ببطء غير رحيم...
(لقد هاتفني رجل لا اعرفه اقسم لك و طلب مني ان استدرج الدكتورة الى الصيدلية بعدما يخلو الحي كي تركب لهم دواء لأنها لو عرفت من البداية لن توافق)
ضيق كرم عينيه يسأله بعدم فهم مترقب...
(أي دواء هذا يتم تركيبه في هذه الأيام و يتطلب الامر كل هذه السرية؟!)
ابتلع الرجل ريقه برعب جلي...اليوم سينكشف المستور و يعرف ابن المراكبي انه يتاجر في الادوية المخدرة بغرض المال...لكن ان ينكشف هذا افضل من ان يقتله كرم لسبب مجهول لا يزال لا يعرفه...عقله استنتج ان غسق كانت عرضة لعيش موقف مخيف كسرقة الصيدلية من شباب مدمن...
(مخدر...يتعاطونه الشباب)
اتسعت عين كرم قليلا ليهدر به صائحا بغضب...
(اكمل لمَ توقفت؟!...لماذا يطلبون منك تحديدا هذا الطلب؟!)
(لأنني أمرر لبعضهم في الخفاء مثل هذه الأدوية)
بهتت ملامح كرم حينما استمع لمبرره...فأسرع الرجل يقول بنبرة عزز بها تردد المسكنة و العوز...
(الحياة صعبة للغاية و معظم سكان الحي يشترون الدواء بالتقسيط الشهري لظروفهم المادية...انا رجل مسؤول عن بيت و عائلة و راتبي الحكومي لا يكفيني اضطررت لفعل هذا كي ازود دخلي قليلا... الامر كان يحدث بصورة مستورة مع شباب معين كي لا ننكشف...لكني لا اعرف من اين عرف ذلك الرجل عني و بات يهددني انني لو لم افعل ما يريد و استدرج الدكتورة لفضحوا امري و ابلغوا عني الشرطة...كل ما فهمته انهم سيجعلونها تركب لهم دواء غير متداول في السوق و ليس هناك غيرها يستطيع فعله... لم اتخيل انهم سيسرقون الصيدلية و يرعبونها)
حاول الاعتدال فتأوه لكنه تحامل على وجعه ليهمس بصوت متوسل...
(هذه كل الحقيقة و الله و لولا خوفي ما كنت ارسلت لهم الدكتورة....ارجوك كرم دعني اذهب و لا تدمر مستقبلي فلدي عائلة تحتاجني)
بهدوء شديد وقف كرم و ابتعد عنه يوليه ظهره...صمت مطبق احتل خلفية المحزن المظلمة...ظن الرجل انه نجى و ان كرم قدر ظروفه و صدق حجته كي ينفد من هنا... لكن صوت انفاس كرم التي خرجت تدريجيا ارعبه...خافتة ثم مسموعة و بعدها هادرة بعنف يوازي التفاتته المفاجئة له و صوته الصارخ بهدير يصم الآذان كحال ركلات قدمه العنيفة التي يركل بها الرجل مرارا في كل انحاء جسده هاتفا بصوت مشتعل غاضب و مدمر...
(و ماذا عن مستقبلها هي الذي تدمر؟!!... ماذا عن عائلتها و ما فعلتموه بها؟!...ماذا عنها ها؟!...ايها الكلاب الأنذال... و الله لأدمركم جميعا)
صراخ الرجل تحت قدميه كان مخيفا و مرتعبا...يحاول بكل جهده احاطة جسده بيديه ليبعده عن كرم...توسل و تألم و هو يصرخ طالبا التوقف و العفو... لكن كرم لم يكن هنا و هل تبقى بداخله شبرا واحدا للعقل و التروي...توقفت ركلاته لينحني يلتقط الرجل من قميصه و يرفعه عن الارض قليلا...يناظره بأعين مشتعلة بينما يسأله بصوت مرعب...
(من هم؟!...صف لي اشكالهم)
هز الرجل رأسه بهستيرية يقول بصراخ متألم...
(لا اعرف و الله لا اعرفهم و لا رأيتهم من قبل)
اشتد غضبه فلكمه بعنف في وجهه جعل الرجل يخر ارضا بضعف...عاود كرم الامساك به يسدد له لكمات متتالية صارخا بزئير أسد استقبل جسده رمح صياد قاتل...
(لا تعرفهم و ارسلتها لهم...بعثتها لهم يا كلب خوفا على نفسك... ضحيت بابنة حيّك و اتخذتها درعا تختبئ بأفعالك الشنيعة خلفه...و الله في سماه لتدفعن ثمن ما اصابها)
صوت صرخات الرجل كان عاليا رغم ضعفه الكبير...بات يتذلل و يتوسل آملا ان تأتي نجدته من أي مكان فقط يفلت من تحت قبضة كرم...
بالخارج...
كان يحوم حول المخزن يستمع لصرخات الرجل المستغيثة بقلق...نظر اتجاه ايوب الواقف بعيدا بوجوم يستمع هو ايضا بصمت بدا له راضيا عما يسمعه!...اشتد صوت الرجل فدفع انور بأن يهدر برفض غاضب و قد اتخذ خطواته تجاه المخزن بينما يقول....
(لا و الله هذا يكفي الرجل سيموت!)
اسرع ايوب يهرول خلفه مناديا عليه لكنه لم يبالي...بل اكمل حتى توقف عند باب المخزن يدق عليه بقوة صائحا بعلو صوته...
(كرم افتح الباب و كف عما تفعله... كرم الرجل سيموت في يدك)
عدم استجابة كرم له اشعلت جنونه...يعرف صديقه جيدا و يعرف كم هو عنيفا قاسيا في قتاله... لولا ترويض قوته بحكمة و عقل و تربية سليمان له السديدة لكان كرم اشد الرجال بطشا في الحي...زفر بغضب مرتعب على صديقه فابتعد عن الباب قليلا يوليه جانبه ثم اندفع اليه بكل قوته يحاول كسره...مرات يفعلها و ايوب يحاول معه بعدما استبد القلق جوارحه على كرم...فُتح الباب ليهول انور و ايوب ما يفعله كرم...لقد اثخن الرجل بقسوة و عنف و لا يزال يضربه بعقل مغيب...ركض انور اليه ينحني يلجمه بين ذراعيه و ينزعه من فوق الرجل هاتفا بصوت آمر...
(ابتعد كرم و لا تجن!)
نجح في ابعاده عن الرجل لكنه فشل في ابعاد نظراته الحارقة له... اسرع ايوب ينحني يراقب الرجل و ما تركه كرم من جروح في جسده...بينما كرم خرج من بين ذراعي انور بصدر يلهث و جسد متحفز...هدر به انور بتوبيخ عنيف...
(ماذا فعلت يا كرم ها؟!... هل تود ان تُبتلى به؟!!...ماذا فعل هو لكل هذا اخبرني؟!)
ارتفعت عينا كرم لصاحبه ليهمس بصوت متقطع لاهث...
(فعل... ما يستحق عقابي... انور)
ابتعد عنهم متجها الى باب المخزن يقول بأمر قاطع ازداد غموضا حينما امتزج مع نبرة صوته اللاهثة المتقطعة...
(هذا الرجل لا تفلتاه حتى اطلب منكما بنفسي)
خرج من باب المخزن غير عابئ بنداء انور المتكرر له...التفت انور يطالع ايوب الذي جلس جوار الرجل ارضا بأعين متعلقة بالفراغ صامتا...اتجه اليه انور يؤشر على الرجل قائلا بتساؤل مترقب...
(الآن ستخبرني عن فعلته ايوب... الآن يجب ان اعرف ما جرمه ليخرج كرم عن ثباته و يتقاتل بقسوة لم نرها حتى في مشاجراتنا مع ابناء السمري!!!)
رفع ايوب بصره له ينظر اليه طويلا حتى قال بصوت خاوٍ....
(أذى كرم بشدة فاستحق قسوة كرم في الايذاء)
أنت تقرأ
لقياك لي المأوى(مكتملة)
Romanceرواية للمتألقة آية أحمد حقوق الملكية محفوظة للمبدعة آية أحمد لُقياك ليّ المأوى خليط من حكايات يعزف لحنها بحر الحياة...بين أمواج متلاطمة تارة و ناعمة تارة أخرى نعيش... و على شاطئ رماله ذهبية تعكس رونق الشمس يحاوطنا الدفء و يتسلل لشرايين الروح قبل الج...