الفصل الخامس

345 20 1
                                    

الفصل الخامس

أبعدت نظري عن دانييل وعدت به إلى النهر كنت أعيد تلك الكلمات عدة مرات في نفسي.. لن أنسى الماضي لكن علي أن أنظر إلى المستقبل.. علي أن أواجهه مثلما قال.. والسؤال الأخر الذي جعلت نفسي تسأله.. هل يستحق رشيد أن أربط به حياتي وروحي لمدى الحياة.. أ يستحق هذا وهو من خانني بكل بساطة.. أيستحق كل ما أفعله من أجله الأن.. أ تستحق حياتي أن أحطمها من أجل سراب؟؟ لا لا... لا يستحق.. لا يستحق كل هذا.. وأنا سأبدأ حياة جديدة.. سيكون الأمر صعب لا أنكر بأنني مازلت أحبه مهما فعل لي.. لكنني مع ذلك سأجتاز الأمر.. خائن وحقير مثله لا يستحق أن أدفن نفسي بالحياة من أجله.. أفضل الآن أن أدفنها من أجل لا شيء على أن أدفنها من أجله هو.. يا من باعني في لحظة.. يا من باع رجولته عندما هجم علي.. يا من لم ترجف له جفن وهو يحطم روحي.. وأنا لن أسامحه ولن أقتل نفسي من أجله.. بل من أجلك يا رشيد .. سأقاوم حبك من أجلك أنت لا غير..
كنت أشعر بطاقة غريبة تملئني وأنا أقول تلك الكلمات لنفسي.. أريد الصراخ.. الصراخ بالحرية والضحك والهرولة والركض أريد فعل كل الأشياء المجنونة.. أريد البدء من الأن في حياة جديدة أريد البدء في التحدي... تحدي الألم الذي يقتلني ببطئ هذا المرض الذي كان يبدو لا علاج له بالنسبة لي حتى أتى هذا الشخص.. دانييل.. شعرت بطاقة غريبة تجتاحني بسرعة.. وكأنه الأدرينالين يفور في كامل جسدي.. لدرجة أنني لم أشعر بالجو البارد الذي ازداد برودة وأنا أقف بجانب النهر الكبير.. لم أكن أشعر سوى بالحرارة والدفء.. الدفء للحياة والدفء لأفكار لأول مرة يبدأ اللون الابيض باكتساحها وجعلها بيضاء على عكس ما كانت عليه سوداء تظلم عقلي وأفكاري وصولا حتى إلى حياتي.. انتبهت أخيرا إلى دانييل وابتسامة كبيرة مرتسمة على وجهي لا أدري كيف؟
"ألا تشعرين بالبرد؟"
"آااه.."
قلتها أستغرب سؤاله الذي لم أستوعبه وتلك الابتسامة ما تزال مرسومة على شفاهي.. علم بأنني لا أملك جوابا لسؤاله وعلم ما يدور في عقلي وما يخبط بمشاعري.. شيء اكتشفته اليوم.. دانييل يفهمني أكثر مما أفهم أنا نفسي.. لم ينتظر جوابي ولم يعد طرح سؤاله بل أمسك بذراعي يحثني على مرافقته بلطف إلى سيارته.. فتح لي الباب.. فاستقريت في المقعد الأمامي وأنا لا أرى شيئا أمامي غير المستقبل الذي بدأت في بنائه من تلك اللحظة.
"والأن عليك إخباري لما تركت ثانويتك في هذا الوقت.. تاركة فيها معطفك وجميع حاجياتك"
نظرت إليه لكي أفاجئ بأنني لم أنتبه له عندما جلس في مقعده خلف المقود.. أعاد السؤال علي مرة أخرى وذلك جعلني أضم حاجبي معا وملامحي تتلوى من الانزعاج والغضب لتذكريه لي بالثانوية وماحصل فيها اليوم.. لكنني لم أكن أريد أن أجيبه أو أتذكر أكثر ما ينغص علي تلك اللحظات المسالمة التي كنت أحظى بها..
قطع خلوتي مع أفكاري عندما قال لي:
"هل تريدين أن أعود بك إلى هناك حتى تسترجعي حقيبتك ومعطفك"
صرخت فيه بقوة:
"لا!!"
ثم أكملت وأنا أخرج الكلمات من بين أسناني:
"لا أريد أبدا العودة إلى هناك.. لا اليوم ولا في يوم أخر.. فقط أعدني إلى البيت كما وعدتني"
ظننت للحظة بأنه سيعديني إلى المنزل عندما طلبت منه ذلك بحدة.. لكنني فوجئت إلى قوة اصراره التي كانت أقوى مني عندما سألني قائلا بهدوء حسدته عليه رغم غضبي منه وثوراني عليه الغير المقصود فقط بتذكريه لي بالثانوية:
" هل أساؤوا إليك هناك؟"
صمت ولم أجب وبقيت أنظر من النافذة وأنا أتذكر كلام ذلك الأمريكي..
"ليس عليك الصمت أبدا عن الإساءة وإلا سيكررونها مجددا"
جملته تلك كانت مستفزة لي للغاية فلم أشعر إلا وأنا أهتف بغضب:
" وماذا كان علي أن أفعل؟ لم ينهره أحد ولم يوقفه أحد.. فماذا كان علي أن أفعل وجميعهم صمتوا عمدا وكأنهم موافقين على كلامه والعربي الوحيد الذي وقف في وجهه تم الإتصال برقابة الثانوية حتى تتعامل معه بصرامة لأنه هو من أخطأ في نظرهم"
بقيت أنظر إليه بعنين أعرف بأنهما تلمعان من الدموع مع أنني كنت أجاهد وأقاوم حتى لا تتسرب تلك الدموع.. أجاهد من أجل قوة أعرف بأنني ضعيفة لأستطيع تحملها.. لكنني مع ذلك نجحت عندما لم أهرب بعيني من عينيه.. حدقت فيه.. بينما هو أطال التحديق في عيني وعندها أخذت أفكاري منحى أخر.. ليس عن مايكل بل عن تلك العينيان الخضراون المشعتان واللتان كانتا تحدقان بي بطريقة صرت الأن أراها غريبة.. طريقة جعلتني بعدها أضم حاجبي إلى بعضهما أكثر وكأني على وشك أن أمزجهما مع بعض في محاولة مني لفهم مغزى تلك النظرات التي كانت أشبه بشخص يبدو مسحورا بروعة شيء يراه ولأول مرة يسمح له بالنظر إليه.. هكذا كان ينظر إلي دانييل حتى أنني شككت لحظة إن كان عقلي يعمل كما يجب أو أنني بدأت أتخيل أشياء لا وجود لها.. زادت ملامحي انكماشا تعبيرا عن انزعاجي وقد شعرت بأنني أجلس في قلب الحدث لكنني لا افهم شيئا.. وكأنه الآن انتبه لي.. وذلك عندما رمش بعينيه بقوة وسرعة كبيرة قبل أن يستدير بسرعة حتى ينظر أمامه بجلسة مستقيمة احتل بها كرسيه كله.. وهو يقول بصوت حاول النحنحة قبل أن ينطق تلك الكلمات:
"هذه المرة حطمي أسنانه.. حتى لا يعاود ذلك الأحمق فعل ما فعله لك اليوم وإياك أن تتهاوني معهم.. أنت تملكين الجنسية البلجكية وهذا يخوض لك أن تتمتعي بحقوق مثلهم تماما ومن بينها أن لا يوجه أحد إليك أي كلام عن حريتك الشخصية لأن هذا يعتبر عنصرية ضد بلجيكية وليس مغربية"
كلامه ذاك جعلني أتأكد من أنني كنت أهلوس وأن دانييل كان فقط شاردا مع كلامي بتلك الطريقة وتلك النظرات حتى يشجعني بكلامه الأخير هذا وهذا جعلني أتأكد من أن ما فعله رشيد هو السبب في جعلي أشك في الجميع وأنظر إليهم على أنهم كلهم رشيد.. لكن لا، دانييل ليس مثله والدليل كيف عاملني اليوم كل الاحترام والتقدير الذي لم أحظاه من رشيد حظيت به فقط في نصف ساعة من شخص يكاد يعرفني.. ونظراته تلك لم تكن لها معنى كما خيل لعقلي المريض والخائف المرتجف من كل نظرة ملحة قوية على أن تكون تحمل لي بين طياتها ما لا يحمد عقباه.. أجبت دانييل عن كلامه وأنا أدعي الغضب منه:
" هل تسخر مني؟ هل تظنني مثلك أنت حتى أحطم أسنانه؟"
فاجأني بضحكة كبيرة حاول من بينها إخراج كلماته:
" ماذا؟ .... لماذا؟ .. كيف أبدو لك أنا؟؟"
ضحكت معه وأنا أسمح لعيني بتفحص جسده القوي المليئ بالعضلات لدرجة بأن المرء يفكر بأن جسده سينفجر من تلك العضلات القوية والتي أعطته شكلا ضخما لكنه مع ذلك وسيم وله هيبة كبيرة خصوصا ببذلته تلك التي كانت تلتصق بجسده لا تخفي شيئا من قوة جسده.. رفعت عيني أخيرا إلى عينيه.. كان ما يزال صامتا نظراته وملامحه تعرب على أنه راقب نظراتي.. قلت له وأنا أشير بسببابتي إليه:
" تبدو وكأنك هربت من حلبة مصارعة واحتليت بعدها محل بذلات انيقة"
ضحكته هذه المرة هزت الأجواء.. رأيته يضحك بقوة كبيرة وبقي على ذلك الحال لوقت طويل حتى توقف أخيرا وشبه ابتسامة تلوح على فمه وهو يرمي رأسه على كرسيه.. لكي يلتفت إلي بعدها وابتسامته تزداد اتساعا وهو يقول:
" تعليقك كان رائعا ومضحكا في نفس الوقت.. معك حق.. أنا أحب تلك الرياضة.. وأحب رفع الأثقال.. والبذلات لا أحبها كثيرا لكن عملي يفرضها علي.. من غير المعقول بأن أذهب إلى مكتبي في شركة اتصالات معروفة بسروال قصير للمصارعة وربما أيضا بصدر عار"
قال جملته الأخيرة وضحك ثانية بينما أنا شاركته الضحك هذه المرة بقوة.. وصورة خيالية تمر في ذهني عنه وهو يدخل بذلك المظهر إلى شركة ستكون بالتأكيد مليئة بالموظفين والعملاء.
استقام فجأة في جلسته ووضع أصابعه على المفاتيح حتى يدير السيارة لكن قبل أن يفعل تكلم قائلا:
" سأوصلك إلى البيت بما أنك لا تريدين الذهاب إلى مدرستك اليوم.. لكن غدا ستعودين إليها بالطبع"
صرخت بقوة فيه قائلة وقد انقلب مزاجي بسبب كلامه مئة وثمانون درجة:
" مستحيل.. لن أعود إليها ذلك مستحيل.. مستحيل"
التفت إلي وهو يسحب أنامله بسرعة من على المفاتيح.. سألني باستغراب واضح:
"لماذا؟ هل لي أن أعرف السبب"
أجبته بسرعة:
"أنت تعرف بسبب.."
قاطعني بحدة قائلا:
"بسبب أحمق غبي.. بسبب بضع كلمات منه لن تعودي.. لما أنت تحكمين على مستقبلك دائما بسبب تجارب سيئة تحصل لك.. هذه هي الحياة يا فتاة.. تمرين بالصعب تسقطين في حفر الحياة الذي تباغتك فيها ولكن تنهضين مرة ثانية وتكملين بعزيمة أقوى.. لكن أنت لا.. أنت لا تريدين حياة هانئة خالية من المشاكل.. استفيقي أنت لست طفلة حتى تظني بأن الحياة وردية"
كلماته جعلتني أصمت وأنكمش على نفسي.. تمتمت بصوت ضعيف تشوبه المرارة والحزن خصوصا وأنني عرفت بأن كلامه كان موجها أيضا لما حدث لي مع رشيد مع أنه لايعرف الجزء الذي تغاضيت عن التحدث عنه كما أتغاضى عن تذكره حتى لا أسترجع الألم بقوته وأنا في طور علاج نفسي..:
"أنا .. أنا لا أعرف.. لكن لو كنت مكاني وشخص أهانك بتلك الطريقة لما كنت ستحبذ رؤية وجهه ثانية أو العودة إلى نفس المكان حيث أهِنت"
"أنظري إلي."
تجاهلت كلماته وبقيت أحدق في يدي وعيني لا تتحركان في أي تجاه غير تأمل أصابعي التي أعرفهما بالتأكيد.. لكنني لم أكن قادرة على أن أدعه يرى مدى الألم الذي كنت أشعر به أو الضعف الذي كنت خجلة منه لأنه ينتابني ويتحكم في لدرجة لا أستطيع فعل شيء غير شعور به والتألم من أجل ذلك الشعور المخزي..
"أنظري إلي"
هذه المرة كان صوته أكثر صرامة كان أمرا على غير ما اعتدت عليه.. على ذلك الحنان والهدوء والدفء في صوته عندما يكلمني.. الأن كان مختلفا عن كل ذلك.. لدرجة أنني رفعت رأسي إليه مستجيبة مطيعة لحروفه القوية الواثقة التي خرجت مشكلة كلمتين تحملان الكثير.. نظرت إليه لكي يفاجئني ثانية بتلك الصرامة والجدية التي ارتسمتا على وجهه.. تحرك فكه وتحرك كل جزء من ملامحه القوية والوسيمة لكي يقول لي:
"أنت مغربية وعربية ومسلمة؟"

مذكرات مغتربات(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن