الفصل السابع عشر

603 18 2
                                        

الفصل السابع عشر

سارة

أخذت رشفة أخرى من فنجان القهوة قبل أن أضعه فوق الطاولة من جديد .. نظرت إلى الأمام وقد لفت إنتباهي سيارة سوداء فخمة زجاج نوافذها الخلفية قاتم لا يسمح لك برؤية من فيها في الداخل .. ليست السيارة في الحقيقة ما لفت إنتباهي بالظبط .. فالسيارة لم تكن سوى وسيلة لكي تذكرني بتلك الحادثة .. تلك الواقعة التي لا يمكنني أن أنساها .. عدت للنظر لحاسوبي المحمول وبدلاً عن التحضير لمحاضرتي .. قمت بفتح ملف لم يكن يعني لي الكثير ولم أعتقد يوماً بأنني سأحتفظ به لكي أعود إليه كلما رغبت في إخراج ما في داخلي .. فتحته وبدأت بالطباعة على لوحة المفاتيح تلقائياً من نفسي وبدون تفكير ..
" أتعرف ؟ ماحصل لن ينقص ثقتي في نفسي أبداً .. أنا فخورة بأصلي وديانتي .. فخورة بنفسي لدرجة لا تتخيلها .. يؤلمني ولن أكذب في هذا يؤلمني أنني أعتقدتكَ مختلفاً .. أنني شعرت بأنكَ تفهمني أكثر منهم تنظر إليّ بطريقةٍ مختلفةٍ عنهم لكنكَ للأسف لم تكن سوى واحد منهم .. لا تختلف عنهم في شيء .. تحكم بجهلٍ وتغض عينيكَ عن الحقيقة رغبة منكَ في ذلك .. فلا تقل بأنني أنا من خدعتكَ في حقيقتي لأنكَ أنتَ من خدعتني في حقيقتكَ ..
أجل .. لم أنسى أبداً عندما أتهمتني بالخداع .. أو تعرف لما لم أنسى كلماتك في ذلك اليوم عندما أكتشفت حقيقتي التي لم أتعمد أبداً أن أخفيها عليكَ ؟؟ هذا لأنني مهما رأيت مشاعركَ القوية التي تخصها لي تتجلى في عينيكَ بوضوح .. إلا أنني مازلت أرى أيضاً في نفس العينين بأنكَ لا تستطيع تقبل بأن المرأة التي تريدها هي مسلمة وعربية .. أنتَ للآن لا تتقبل الأمر .. ما تحاول فعله هو تناسيه .. وكأن ليس هناك دين أو مجتمع أو تقاليد أو أصول .. تحاول أن تلغي كل هذا وتفكر فقط في وجودنا معا أنا وأنتَ .. ااه كم تسعدني مشاعركَ ناحيتي وكم تؤلمني بأنك لا تتقبل حقيقتي .. بيتر أنتَ لا تستطيع أن تخفي الحقيقة من عينيكَ .. أرى في عينيكَ كم تتألم أنتَ الأخر لما يحصل بيننا .. أرى في عينيكَ أحياناً كيف تتمنى لو أنكَ لم ترني يوماً أو ربما لو لم أكن عربية ومسلمة لما كانت الأمور ستكون معقدة كما تراها الآن .. مهما بيّنت لي كم أنتَ قوي وقادر على تحمل مسؤولية أفعالكَ وتقبلي كما أنا .. إلا أنكَ في الحقيقة متحسس من الأمر .. وهذا يجرحني .. في البداية أعجبت بكَ وأحببتكَ لأنني ظننت بأنكَ لا علاقة لكَ بأفكار والدكَ وكم كنت غبية لأفكاري تلك التي عشت فيها خيالاً لا واقعاً .. الحقيقة بأن الرجل الذي أحبه خدعني من دون قصد منه بحقيقته .. أنتَ بيتر مختلف وفي نفس الوقت غير مختلف عن والدكَ .. أنت بالنصف بيتر بالنصف .. لا تحبذ ديني وفي نفس الوقت لا تكرهه مثل والدكَ .. وهذا لا يغير شيئاً بيتر حتى لو كنت مكشوفة أمامكَ بحبي الكبير الذي أكنه لكَ .. أن علاقتنا مستحيلة .. فلما لا تدعني أعيش بسلامٍ .. أنتَ تصعب الأمور عليّ كثيراً ألا يكفي بأنني أحاول أن أتعايش مع حبكَ المستحيل بصمتٍ ؟؟ لما أصبح العمل معكَ الآن جحيماً ونظراتكَ أصبحت تحاصرني في كل مكان في المكتب .. نظراتكَ التي تعذبني .. وكلامكَ المبهم الذي لا أفهمه إلا إنه لا يرحم قلبي .. تحاول أن تغير طريقة تفكيري .. لكن هذا لا ينجح أنتَ فقط تعذبني لا أكثر و ... "
لم أستطع إكمال ما كنت أكتبه إذ شعرت بدمعاتٍ باردةٍ تشق طريقها عبر وجنتي .. فأبعدت يدي عن لوحة المفاتيح ورفعتها لعيني .. كفكفت دموعي بهدوءٍ .. لكي أنظر إلى تلك الصفحة .. وأسأل نفسي
(ما الذي كتبته سارة ؟؟ هل أصبحتِ شاعرة تكتبين مشاعركِ على جهازكِ المحمول .. أم أنكِ تكلمين بيتر عن طريق الكتابة لنفسكِ .. طريقة بلهاء سارة .. تتمنين لو تحدثينه بكل صراحة كما تفعلين الآن مع مذكرتكِ الإلكترونية .. لكنكِ لا تستطعين وكعادتكِ تحلين أموركِ بالخيال .. تتخيلينه أمامك وأنتِ تفصحين له بما يعتمر بقلبكِ .)
كدت أن أحذف ذلك الملف نهائياً من على جهازي وقد شعرت للحظة بمدى غباء ما أفعله .. لكنني توقفت في اللحظة الأخيرة .. لم يهن علىّ نفسي أن أحذف ما كتبته بكل مشاعري الحقيقية بدم بارد .. ربما يكون طفولياً ما فعلته .. لكنه يبقى كلاماً صادقاً أتمنى لو أرميه في وجه بيتر .. كلاماً صادقاً نزلت معه دمعاتي ويتعذب قلبي لحقيقته .. وبدل أن أمسح الملف حفظته ثانية .. حفظت مذكرات غربتي .. وفكرت لو لم آتِ إلى هذه البلاد بقرارٍ مني عندما كنت في التاسعة عشر من عمري ربما لما كنت سأعيش غربة البلاد وغربة البيت وغربة المشاعر .. ربما لم أكن لأتعرف على بيتر أصلاً وأبقى في أمان من هذه الغربة الموحشة .. لكن .. لكن أعود وأفكر وأواسي نفسي على قراري .. بأن له إيجابيات .. لم أكن لأستطيع البقاء في ذلك البيت في المغرب مع أولئك الناس الذي جمعتني بهم سنين من حياتي لكي أكتشف في أخر الأمر بأنني كنت دخيلة عليهم .. إلا على شخصين إثنين.
" جاد "
تمتمت بها بإرتباكٍ وأنا أرى إسمه يعلو شاشة هاتفي النقال الذي كان موضوعاً على الطاولة بقرب فنجان القهوة بعد أن أزعج رنين هاتفي فجأة خلوتي مع أفكاري الشاردة نحو ما ألت إليه حالتي في هذه البلاد .. مشاعر محرمة وحب مستحيل وأم ترفض ما أفعله من أجلها وأب يتجنبني طيلة الوقت ومسؤولية أختين كيف ومتى كان علي تحملها .. والأسوء خطبة لا أعرف كيف وافقت عليها.
ضغطت على الزر الأخضر بعد أن تنفست بعمقٍ لكي أستعيد بعضاً من هدوئي .. وأجبته بأدبٍ :
" مرحباً جاد ."
" مرحباً عزيزتي سارة ."
توترت للكلمة الجديدة التي أضافها على إسمي .. لم أستطع التعليق وكل ما حاولته هو تجاهلها .. لقد وافقت قبل أسبوع عليه فمن الطبيعي أن يحاول التقرب من المرأة التي عن قريب سيخطبها رسمياً .. طلبه لرقم هاتفي من والدي جعلني أحترمه أكثر وأشعر بالذنب أكثر .. أنه يحاول إحترامي دوماً وملاقتنا لا تكون أبداً خارج إطار العائلة .. أنه رجل جيد جداً ويفاجئني بأخلاقه الحميدة .. وأتمنى كل يوم بأن أستطيع حبه .. لا يستحق إمرأة تكون زوجة له وهي تفكر في رجل أخر بكل جوارحها .. كتمت تنهيدة ضيق بقوة .. لكي أسأله بطريقة ذكرتني بسؤالي عن أخوتي وليس عن زوج المستقبل :
" كيف حالكَ جاد ؟"
عندما أنتهت المكالمة القصيرة جداً أقفلت هاتفي وأنا أزفر الهواء .. لم يكن يريد سوى الإطمئنان عليّ وإخباري بأنه قادم اليوم لتناول العشاء معاً .. بعد أن دعاه والدي لذلك .. والدي الذي واجهت تحقيقاً منه لقبولي المفاجأ بجاد بعد إعتراضي الشديد في الوهلة الأولى .. لكنني إستطعت الكذب وإقناعه بأنني فكرت بحاجتي لرجل يساندني في حياتي .. ألمه كلامي طبعاً مع أنني لم أتعمد قصده أو جرحه بكلماتي لعدم مساندته لي في مشاكلي مع والدتي لكنه كالعادة فضل التهرب من كلماتي وإغلاق الموضوع بشكل نهائي .. ( أصبحتِ يا سارة محترفة في الكذب ) قلت ذلك لنفسي وإبتسامة إستهزاء تعلو شفتي لكي أنهض من الكرسي وأجمع حاجياتي وأتقدم للجامعة .. من أجل أن أحضر محاضراتي لأنني لن أسمح أبداً لأحد بأن يأثر على دراستي .. عليّ التخرج بسرعة حتى أستطيع أن أستقر بحياتي.

مذكرات مغتربات(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن