الفصل الرابع

328 18 1
                                    

الفصل الرابع

حسناء

الظلام .. الظلام هو كل ما كان يحيط بي .. لطالما كرهت الظلام منذ الصغر .. حاولت من جديد الإلتفات والنظر من حولي .. لعلي أجد نقطة نور تبعث فيَّ الأمل من جديد وتبعد الخوف عني لكنني لم أرى شيئا .. عيناي لم تكن تستطيع أن ترى شيئا غير الظلام حتى أنني ظننت لحظة بأنهما مغمضتان لكنني كنت متأكدة من أنهما مفتوحتان .. والدليل أنني بدأت أبكي .. وبصوت عال .. كنت أبكي ليأسي .. لعدم إستطاعتي إنقاذ نفسي من هذا الخوف الذي كان يعذبني .. لم أكن أريد البقاء في تلك الظلمة .. ليس في مكان موحش لا أعرف حتى ماهو .. إزدادت شهقاتي مع إزدياد خوفي وآلامي .. لو يخرجني أحد من هنا .. ظننت للحظة بأنني ربما سأموت من شدة ذلك الخوف الذي كان يكتسحني .. لكنني توقفت بعد برهة عن البكاء وتوقفت دقات قلبي في مكانها وأنا أنظر إلى بقعة ضوء صغيرة جدا إلاَّ أنها كانت واضحة في وسط كل تلك الظلمة .. كانت بعيدة عني .. بعيدة للغاية .. لكنها كانت تقترب وكلما اقتربت صارت البقعة أكبر ونورها أوضح .. اقتربت أكثر وأكثر بينما أنا بقيت مذهولة واقفة في مكاني مشدوهة لإقتراب ذلك الضوء الساطع مني وقد تجمدت الدموع على وجنتاي .. توقف الضوء وقد أصبح لايبعد عني سوى القليل ..
"رشيد!!"
هتفت بفرح بإسمه وأنا أراه .. لقد كان هو ذلك الضوء .. هو من أنار هذه الظلمة .. شعرت بالراحة لأنه هنا سينقذني من هذا الرعب الذي يجتاحني من وحدتي التي تقتلني .. لكنني عندما نظرت إلى رشيد وجدت بأن النور الذي كان يحيطه ليس أمنا وجميلا كما كان يبدو لي من بعيد .. إنه ساطع جدا لكن ليس بدرجة أن يبعد عني قسوة الظلمة الذي كانت تحيطني فبالعكس الظلام إزداد قتامة وكأن ذلك النور يشجعه على أن يحيط بي أكثر .. سطوع ذلك الضوء كان يؤلمني ولا يريحني .. رشيد بنفسه كان متغيرا علي .. إنه هو وفي الوقت نفسه لم يكن هو ..هذا الرشيد يخيفني .. نفس الملامح نفس الشخص لكنني لاأعرف لما يجتاحني إحساس كبير بالرفض ناحيته إحساس يقول لي بأنه ليس نفس الشخص الذي أحببته .. أين الخطأ؟ هل فيه لأنه تغير فجأة علي؟ أم في أنا لأنني لم أراه على حقيقته منذ البداية ؟.. اقترب مني فحاولت أن اغطي عيني بذراعي حتى لايعميني ذلك الضوء المؤذي .. لكنني أبعدت ذراعي عن وجهي وقد شعرت بأنني بحاجة لكي أرى ما سيحصل لي .. وجدته .. يقترب .. كان يقترب مني .. نظراته .. خطواته .. لم يكن ينوي أبدا بها خيرا ...
"لالالا"
هتفت بذلك وأنا أتنفس بصعوبة .. كان صدري ينزل ويصعد بسرعة كبيرة .. كنت أحط بيدي على صدري فقد كنت أشعر بدقات قلبي تضرب مثلما تقرع الطبول في الحروب .. إلتفت من حولي لكي أجد بأنني جالسة فوق سريري الواسع وفي غرفتي الجديدة الكبيرة .. لم يكن الظلام مسيطرا على الغرفة مثلما كان مسيطرا علي في الحلم بل كان هناك ضوء خافت أصفر اللون صادر من أباجورة صغيرة بقرب سريري .. نظرت إليها مطولا .. أنا من تركتها مضاءة قبل أن أنام .. هي عادة لدي منذ الصغر .. فلطالما كانت تترك لي جدتي أضواءا جانبية خافتتة ملونة .. إتكات برأسي على مقدمة السرير وبدأت أسترجع الكابوس الذي رأيته في منامي تذكرت قبل كل شيء أنني كنت أبكي في الحلم فرفعت يدي تلقائيا إلى وجهي لكي أفاجأ بأن وجنتايا فعلا كانتا مبللتان بالدموع حالها مثل حال رموشي التي كانت تلتصق ببعضها البعض بسبب الدموع العالقة بها وتسألت مع نفسي وأنا أمسح تلك الدموع اليتيمة .. هل هذا ما أشعر به الأن؟ .. أن رشيد كان نورا ينير حياتي لكنه لم يكن سوى نور خادع .. لكنني عدت وإعترفت لنفسي .. أجل ..هذه هي الحقيقة .. أنا من صنعت ذلك النور الذي كان يحيط به والأسوء أنني صدقت كذبتي التي نسجها خيالي بنفسه حتى أتغاضى عن حقيقة رشيد البشعة .. أغمضت عيني حتى لا تمر صورته أمام عيني من جديد .. شعرت بعدها بالبرد يتخلل عظامي والوحدة والخوف يضمانني إليهما .. حضنت ساقي بيدي ودفنت رأسي بين ركبتي أبكي لوحدي .. كم أتمنى لو أجد يدا حنونا تطبطب علي وتبث في الأمان .. تثبت لي بأنني لست وحيدة .. لكن لاأحد أتى .. لاأحد سمع بكائي ولا أنيني ولا نحيبي .. لاأحد شعر بخوفي وبوحدتي .. لاأحد شعر بالجوع الذي كان ينهشني الجوع الذي كان يريد التغذي على الحنان والحب والأمان .. لا أحد مد يدا حنونة وربت بها علي حتى يدفئني ويطمئنني .. إنني فعلا وحيدة .. هذه هي الحقيقة .. بقيت أخفي وجهي بين ركبتي وأنا اتمسك بنفسي بقوة كدت أن أغرس اظافري في ساقي وأنا أضمهما إلي بشدة أحاول حماية نفسي من كل شيء .. لم أعرف كم من الوقت بقيت على تلك الحال ولم أتوقف عن البكاء إلا عندما سمعت المنبه يعلن عن الساعة السادسة .. الوقت الذي يجب أن أكون فيه مستيقظة .. رفعت رأسي وقد شعرت بأن كل شيء أمامي ضبابي بسبب الدموع التي كانت تحجب عني الرؤية بوضوح أغمضت عيني حتى تنزل الدموع كشلال على خداي فتحتهما من جديد وأنا أمسح الدموع التي تحررت على وجهي بعد أن كانت سجينة عيناي.. نهضت من السرير بخطى ثقيلة وتوجهت إلى الحمام الذي كان في غرفتي .. أشعلت الأضواء الساطعة ونظرت إلى المرأة الكبيرة التي كانت تتوسط جدارا بأكمله .. لم أطل النظر إلى نفسي كثيرا .. فذلك يجعل الدموع تترقرق في عيني .. المرأة تعكس ما أصبحت أنا عليه .. كم هو صعب عندما يصل الإنسان لدرجة الشفقة على نفسه .. لم تعد لي حياة .. أنا أعيش فقط الأن .. لا أحلام .. لا آمال ولا سعادة .
ارتديت بسرعة البذلة الخاصة بالثانوية التي سجلني والدي فيها حتى أكمل أخر سنة لي فيها .. في الواقع كان لي حلم في حياتي الماضية .. حياتي التي ماتت ولم تخلف ورائها سوى ذكريات لاترحم سواء كانت سعيدة أو حزينة .. حلم أن أكمل دراستي .. حلم أن أصبح مرشدة سياحية مثل أولئك المرشدين السياحيين الذين كنت أراهم كثيرا في مدينتنا مع السياح الأجانب وأظل أحدق فيهم وإبتسامة بلهاء على فمي مدهوشة بكلماتهم المتناسقة والدقيقة عن كل جزء في المدينة .. إبتسامة لا تزول إلا عندما يهمس جدي في أذني "عليك العمل لتحققي مرادك وعملك هو دراستك" والأن .. لم يعد لي أي حلم .. ليس بعد ما حصل .. أنا أتمنى لو أنني لا أذهب إلى تلك الثانوية .. لأنني لا أريد أن تعتب قدماي خارج هذه الغرفة .. فالوحدة أفضل من العالم الخارجي .. لم أعد أثق في أحد حتى نفسي لاأثق فيها لقد حطم هو ثقتي بالكل .. لذلك أصبحت أملك فقط الخوف تجاه الأخرين .. لكن ماذا أفعل ووالدي كان مصرا على إكمال دراستي؟ .. في البداية كان الأمر شبه مستحيل بالنسبة لي .. لكن الأن وبعد مرور شهران على قدومي إلى هنا .. تعلمت مع إضطراري إلى الذهاب إلى تلك الثانوية العيش في عالمهم بجسدي لكن عقلي وروحي في عالم أخر .. أنا لاأشعر بهم كل مافعله الذهاب إلى هناك في الوقت المحدد والعودة إلى البيت في الوقت نفسه كل يوم .. حتى هذه البذلة التي أرتديها الأن كنت بالتأكيد سأسخر منها لوأنني مازلت أعيش حياتي في المغرب كما كنت في الماضي .. لكن الأن إنني لاأمانع في إرتدائها .. في إرتداء تنورتها الزرقاء الغامقة والقصيرة وجواربها الطويلة و الرمادية القاتمة والتي تذكرني بجوارب الطفولة كما سترتها الزرقاء وقميصها الأزرق المناقض للون السترة بلونه القريب من لون السماء عندما تكون صافية .. ببساطة أصبحت لا أهتم حتى لو ألبسوني زي مهرج.
خرجت من غرفتي بعد أن جهزت نفسي كما يجب .. أوشكت أن أنزل الدرج عندما لفت انتباهي مثل كل مرة غرفة سارة التي كانت بجانبي .. كان الضوء يتسلل خارجا من تحت باب غرفتها .. أعرف بأنها تنهض دائما باكرا لكنني مع ذلك لا ألتقيها أبدا في الصباح .. نزلت الدرج وأنا افكر فيها .. لحد الأن لازلت لا أنا ولا هي نستطيع التعامل مع بعض وكأننا أخوات .. وخير دليل هو تعاملنا الرسمي مع بعض .. ولكن كيف سنتعامل مع بعض بغير هذا ونحن نكاد لانلتقي ؟.. فأنا طيلة الوقت في غرفتي بعد عودتي من المدرسة وهي كما علمت بالصدفة من أبي بانها تدرس وتعمل في نفس الوقت .. ولذلك لا تتواجد طيلة اليوم في البيت .. لكن لا أنكر بأنها ما إن تراني حتى تعاملني بإحترام وتحاول التحدث معي بلطف دائما لكن أنا من لاأعطيها الفرصة للتقرب مني .. وهي قد كفت عن المحاولة أيضا في التقرب مني .. فيبدو بأنها مثلي لا تملك رغبة كبيرة أو إصرار على تحسين علاقتنا مع بعض .. أنا أجد بأن هذا أفضل لنا معا فهناك حواجز كثيرة بيننا لكي نصبح حقا أخوات .. إنني حتى لم أتربى يوما على أن لدي إخوة أخرين .. كنت أعرف بأن لدي أختان وبعض القصص عنهما الصغيرة والتي لم أكن متأكدة أصلا من صحتها وذلك بسبب تكتم الجميع عن التحدث عنهما .. حتى جداي لم يكونا يتحدثان كثيرا عن حفديتهما وكان ليس لديهما أي أحفاد غيري أنا .. وأنا الأخرى كان يمر علي وقت أنسى بأن لدي أخوات .. لم أتذكرهما إلا عندما أتيت إلى هذه البلاد لكي ألتقي بواحدة منهما هنا تعيش معي في بيت واحد.
توقفت عن التفكير في أخواتي الغربيات عني عندما دخلت المطبخ الذي كان منيرا بأضوائه الساطعة .. وجدت كما توقعت والدي يتناول إفطاره .. إفطارا أعده بنفسه لنفسه ..
تمتمت:"صباح الخير."
استدار إلي بسرعة وقد بدا مفزوعا للوهلة الأولى فعرفت بأنه كان شاردا في أفكاره .. رد علي وهو يعيد نظره أمامه:"صباح الخير حسناء."
تملكني الفضول لكي أتبع نظراته .. نظرت إلى الأمام أنا ايضا حيث كان الزجاج يحتل الحائط كله أمامنا جاعلا الحديقة مكشوفة لنا في المطبخ .. رأيت رشيد قادما ناحيتنا .. وعندما صعد الدرج الذي يؤدي إلى المطبخ تحركت أنا من مكاني وذهبت لآلة القهوة حتى أعد لنفسي كوبا منها .. سمعته يفتح باب المطبخ الزجاجي وقبل أن يتكلم بادره أبي:" صباح الخير رشيد .. جيد بأنك أتيت بسرعة ."
"صباح الخير سيد عثمان صباح الخير مادموزيل حسناء."
نظرت إليه وهززت برأسي كرد على تحيته ثم عدت لكي أكمل إعداد افطاري .. أذكر كيف أنه كان قد سبب لي الرعب في أول يوم لي هنا عندما علمت بأن الذي يعمل لدى أبي يدعى رشيد لا بل يقيم معه أيضا ولكن في بيت أخرصغير مستقل عنا في أخر جزء من الحديقة الكبيرة.. للحظة الأولى التي سمعت فيها إسمه كنت قد شعرت بأنه هو نفسه رشيد خطيبي السابق .. لقد كرهت الرجال بسبب رشيد فما بالك بواحد يدعى بنفس إسمه .. لكن والدي طلب مني أن أثق في رشيد سائقه الخاص لأنه يثق فيه ثقة عمياء ولأنه متأكد من السنوات التي عمل فيها معه بأنه شخص مختلف تماما عن ذلك الخائن .. والحقيقة أنا لم أرى ليومي هذا شيئا سيئا يصدر من رشيد ولكن مع ذلك لازلت لاأستطيع الثقة فيه كما طلب مني والدي ولا في أي رجل أخر حتى أنني للأن مازلت أرفض بأن يوصلني هو لأي مكان .. لأي مكان؟ أقصد فقط للثانوية والبيت .. وأبي من يوصلني بنفسه إليها كما يعيدني شخصيا إلى البيت .. كنت أضع قطعة صغيرة من السكر في كوبي الذي ملائته بالقهوة عندما سمعت أبي يقول لرشيد:
"سأقل حسناء كالعادة إلى مدرستها لكنني بعدها سأذهب إلى ألمانيا لدي إجتماع طويل هناك ولاأظن بأنني سأعود في الموعد الذي ستصل فيه طائرة أسيل .. لذلك فإنني أترك لك هذه المهمة."
قال رشيد بنبرة ظهرت فيها الثقة والفخر لكي يتكلف بمهمة كهذه :" بالطبع .. لاتقلق سأكون بإنتظارها هناك حتى أقلها إلى البيت بأفضل الظروف."
لكن والدي أحبط ثقته عندما قال له محذرا:" رشيد لاتتسرع إنها ليست مهمة سهلة أبدا وأنا مضطر جدا لحضور إجتماعاتي في ألمانيا اليوم وإلا لما كنت تركت أحدا يستقبلها غيري .. أسيل ليست هي سارة أو حسناء ."
تركت من يدي الفطيرة التي كنت أخرجها من المكرويف على الصحن وقد جذب حديثهما إهتمامي كثيرا وعلى غير المتوقع ففي الحقيقة أسيل هي من جذبت إهتمامي .. سمعت والدي يكمل كلامه لرشيد:" أسيل .. لقد مرت شهران على تلك المكالمة .. لم أصدق ..."
إلتفتت إليه عندما قطع كلامه رأيته ينظر إلي وينظر إلى رشيد وكأنه يقيم كلامه .. ثم عاد يتحدث إلى رشيد بينما أنا أشحت بوجهي بسرعة البرق عندما أمسكني أتنصت على حواره .. قال وقد عرفت بأنه لن يكمل على جملته:" فقط عليك أن تعرف بأنها مثيرة للمشاكل وقدومها إلى هنا فجأة لا يبشر بخير .. لكنني لم أكن لأستطيع رفض طلبها .. فأنا أيضا أريدها هنا معي .. من أجلها ومن أجلي أنا أيضا."
"حسناء!!"
إلتفت اليه بسرعة وقد فاجأني بمنادته لي بعد أن رحل رشيد .. بقيت أنظر إليه أنتظره أن يتكلم .. فقال:" أرجوكِ عزيزتي هي أختك حتى لو لم تعرفيها من قبل .. من أجلي لا تهتمي أن هي عاملتك بقلة ذوق."
أومأت برأسي وأنا أسخر من تلك الكلمات .. إنه يتكلم وكأنه ليس خجلا مما يقول .. بناته لا تعرفن بعضهن بعضا والأن فقط أصبح يذكرنا بأننا أخوة .. ثم لما علي أصلا أن أتدخل في شؤون أسيل أو حتى أن يجمعني بها أي شيء .. كما أحرص على تفادي سارة سأحرص كذلك على تفاديها .. أسيل وسارة ليسا سوى غريبتان دخلتا حياتي في أنظار الناس لكن في أنظاري أنا هما لازالتا غريبتان يجمعني بهما فقط سقف واحد ولا تجمعنا حياة واحدة.
أكملت بعدها إفطاري بسرعة .. فطور كئيب هذا أقل مايقال عنه .. لن أنكر بأنني أشتاق لفطور جدتي الحميمي .. أمسكت بمعطفي الأزرق أرتديه بسرعة حتى ألحق بأبي الذي كان يناديني .. خرجت من الباب الأمامي للبيت ومررت بموقف السيارات المخصص لبيتنا حتى وصلت حيث أوقف أبي سيارته خارج البيت .. تلك السيارة الرياضية الصغيرة السوداء والتي يستعملها أبي كثيرا أكثر من المرسيديس الفخمة الذي يتركها لرشيد لإيصال سارة في بعض الأحيان وللقيام بعض مهامه .. كان سطح السيارة الأسود يلمع من الندى الذي جعله يبرق في ظلمة الصباح وكأن السقف قد صنع من الألماس .... أصدرت السيارة هريرا قويا قبل أن ينطلق بها أبي بين الشوارع الخالية والواسعة .. خروجا بنا من الأحياء الفاخرة التي كان بيتنا من بين بيوتها إلى الطريق السيار وليس أكثر من عشر دقائق حتى كنا قد وصلنا إلى مدينة أنتوربن والظلام ما يزال يغلفها مع أن الساعة كانت قد صارت الثامنة صباحا .. عندما توقف أمام ثانويتي إقتربت منه لكي أقبله بسرعة على خذه قبل أن أنزل من السيارة مع أنني حقا لازلت غير معتادة عليه رغم محاولته في جعلي أعامله كما أعامل جداي .. لكنه إستوقفني هذه المرة قائلا:" حسناء .. إنتظري أريد أن أعلمك بشيء."
كعادتي بقيت صامتة أنتظره أن يكمل حديثه وكلي أذان صاغية له .. فقال بنبرة مترقبة:" أظنك بأنك قد سمعتني عندما قلت لرشيد بأنني سأذهب اليوم إلى ألمانيا وبأنني سأتاخر."
أومأت برأسي بالإيجاب ومن دون أن أنطق ببنس شفة .. فأكمل قائلا:" إذا أنا لن أستطيع أن أعيدك بنفسي إلى البيت اليوم .. عليك أن تدعي رشيد يعيدك .. لقد حان الوقت لكي تتجاوزي محنتك .. فأنا لن أبقى طيلة حياتي أرافقك أينما ذهبت."
نظرتُ إلى عينيه وقد أغاضني كلامه .. كالعادة بسرعة ينزعج من مسؤوليته بي .. تهرب من تربيتي عند ولادتي وموت والدتي .. تهرب من طفولتي ومن مراهقتي .. تهرب حتى من قرار خطوبتي وترك كل الأمور لجدايَ والأن يتهرب حتى من أقل شيء يمكنه فعله من أجل مساعدتي على تحمل ما يحصل معي .. لا أصدق!! .. شعرت بأنني أريد لأول مرة أن أصرخ فيه وأقول لقد تخليتَ عني بما فيه الكفاية ولو لمرة واحدة قم بواجبك كأب ولا تتركني وحيدة .. لكنني لم أستطع .. لم أستطع فعل ذلك .. ببسطاطة لأنني لاحول ولا قوة لي .. لأنني فعلا وحيدة .. وحيدة.
كنت أنظر إلي يدي التين كنت أفركهما بتوتر وإضطراب عندما أخرجني من شرودي على كلماته الحادة:" حسنا حسناء .. عندما تخرجين إستعملي الخريطة الإلكترونية التي في هاتفك حتى تعرفي أي مواصلة عامة ستوصلك إلى البيت .. أكثر من هذا لاأستطيع فعله لك .. أنت فعلا عليك تجاوز ما حصل لك."
خرجت بسرعة من السيارة حتى بدون أن اقبله كما العادة .. سمعت سيارته ترحل مخلفة ورائها صوتا مدويا للسرعة التي انطلق بها .. كنت أشعر باأ مقلتاي تؤلمانني للدموع التي بدأت تترقرق في عيني وأنا افكر في كلامه .. خيارين كل واحد أسوء من الأخر .. ماذا علي فعله؟ هل حقا بدأت أزعجهم بخوفي هذا ؟؟ هل بدأتُ أثقل عليهم؟؟ لكنني لاأستطيع أن أستعيد ثقتي بسهولة في الناس لازلت متألمة من ماحصل لازلت غير قادرة على النسيان والعيش كما يعيش باقي الناس بطبيعية .. لازلت .. أمسكت بحقيبتي التي كانت على كتفي وشددت عليها بقوة وأنا أردد في نفسي .. عليك فعلها حسناء .. لامشكلة إن أوصلك اليوم رشيد إنه لطيف ولم يعاملك سوى بإحترام .. إن هذا يبقى أأمن من أن تستقلي مواصلة عامة في مدينة لازلت لاتعرفين عنها شيئا ولا عن ناسها شيئا حتى لغتها لم تتقني فيها بعد الكثير .. وقفت أمام الثانوية وقد أرغمت نفسي على ترك هذا الأمر حتى يحين وقته حتى لا أوتر نفسي من الأن مع أنني كنت أعرف بأن هذا الأمر سيضل يشغلني طيلة اليوم .. نظرت من جديد إلى الثانوية التي كانت تشبه قصور القرن التاسع عشر وهذا فعلا لأنها بنيت في ذلك القرن .. كما هي العديد من الثانويات العريقات في بلجيكا .. مع أنها ثانوية تعتبر لأغنياء للسبب الأول إنها مخصصة بالفرنسية مع أن المدينة لغتها الرئيسية والأم هي الهولندية .. كان العديد من الطلاب يتوجهون في تلك اللحظة إلى الداخل وفي نفس الوقت الكثير أيضا يقفون خارج الثانوية بعضهم ينتظر حتى يكمل تدخين سيجارته والبعض الأخر يستمع الى الموسيقى من سماعتيه اللتان تدفئان أذنيه في نفس الوقت في ذلك البرد القارص .. بينما في الجهة الأخرى .. أجل الجهة الأخرى .. بعض من الطالبات العربيات والمسلمات النادرت في تلك الثانوية ينزعن حجابهم قبل الدخول .. كان الأمر غريبا جدا لي في البداية .. ظننت بأنه ربما لأنها ثانوية كاثوليكية .. لكن علمت فيما بعد بأن الحجاب ممنوع في جميع الثانويات والمدرسات .. لكنني فيما بعد لم أعد أجد شيئا لقوله غير الإحساس بالظلم من أجلهم ومن أجلي أنا أيضا حتى ولو لم أكن محجبة .. إقتربت من باب الثانوية الضخم .. كان كبيرا ومقوسا وفخما وأيضا يدل على قدمه بالنقوش التي كانت عليه وتمثالين ضخمين لمريم العذراء كان مشيدان على كل من جانبي الباب الضخم .. مع أن المدرسة في الداخل كانت عصرية للغاية .. وهذا ماكان يميزها .. ثانوية تتميز بقدم وعراقة بنيانها وفي نفس الوقت بالعصرنة والحداثة .. كنت على وشك الدخول من الباب الكبير حيث يقفان رجلان من الثانوية يراقبان الطلاب الذين يدخلون .. دخلت إلى داخل الثانوية وجلست على إحدى مقاعدها المربعة في ساحتها الكبيرة حتى تصل الساعة إلى الثامنة إلا عشرين دقيقة .. دسست يدي في جيوب معطفي وبقيت أنظر من حولي لاأعرف لماذا شعرت فجأة بإحساس الوحدة .. وتساءلت بيني وبين نفسي .. هل كنت يوما أتوقع بأن تتغير حياتي فجأة لهذا الوضع؟ وعدت أجيب على نفسي لا أبدا ما كنت لأتوقع هذا لنفسي .. جذب إنتباهي على الكراسي المقابلة لي بعيدا في ساحة الثانوية .. الثنائي اللذين كانا جالسين مع بعض .. أعرفهما كمال ومايا .. كمال مغربي وصديقته مايا اللبنانية الأصل .. كان أجمل ثنائي .. يدرسان معي في نفس القسم .. كمال كان سعيدا في البداية كثيرا عندما قدمت إلى قسمهم وقد حاول هو مايا كثيرا لكي أكون صديقتهما بما أنني عربية مثلهما لكن محاولتهم بائت بالفشل عندما لم يستطيعا إخراجي عن إنطوائيتي .. كان يتبدلان الأن الحديث والإبتسامات .. كانت جلستهما حميمة جدا .. ذكرني ذلك برشيد .. الذي أحببته .. أحببته ومازالت أحبه وأكرهه في نفس الوقت .. مع أنه لم يسبق لي أن شعرت بالحميمية في علاقتنا التي أعدمت .. لكن مع ذلك كنت أحبه .. أكان من الصعب عليه أن يحبني بسلام كما أحبه أنا ؟.. هل كان عليه أذيتي وأنا التي لم أطلب منه شيئا سوى الحب والأمان .. شعرت فجأة بأن الدموع بدأت تترقرق في عيني .. فنفضت رأسي حتى لاتتجه أفكاري إلى حيث أخاف .. لاأريد أن أتذكر ذلك اليوم المشوؤم .. نهضت من مكاني أتوجه لقسمي .. ولم تمضي أكثر من خمس دقائق وإمتلئ القسم بأكمله بالطلاب .. لكي تبدأ أولى حصصنا .. وهكذا .. ككل الايام .. حصة وراء أخرى .. والوقت يمضي حتى الحصة الأخيرة قبل وقت إستراحة الغداء .. كنت فيها مشغولة مع حاسوبي أحاول إنجاز ما طلب منا .. عندما بدأ حوار بين أستاذة تلك المادة وتليمذ كان من أصل امريكي وبالضبط من كاليفورنيا .. لم أهتم في البداية للحوار فقد كان يسألها فقط عن المكان الذي أمضت فيه عطلتها الصيفية .. لكنني توقفت فجأة عن الطباعة على لوحة المفاتيح عندما سألها قائلا:" سيدة هابرس .. هل سبق لك وزرت البلدان العربية؟"
"زرتها أجل .. لكنها كانت تجربة سيئة جدا لن أعيدها مجددا أبدا."
سمعت قهقهة مايكل قبل أن يقول من وراء حاسوبه:" ماذا فعلوا أولئك العرب لك هناك؟"
نظرت إلينا مدام هابرس .. وقد جذب الحوار إنتباه الكل .. قبل أن تقول وهي تنظر إلي وإلى العرب القلائل الذين كانوا معي في القسم:" لاتعتبروا كلامي شيئا ضدكم إنه فقط رأيي الشخصي."
ثم جلست على حافة مكتبها قبل أن تبدأ بالتحدث عن رحلتها إلى البلاد العربية:"بلادهم جميلة لا أنكر هذا لكن أناسها أزعجوا أطفالي كثيرا .. أنا أتفهم بأن لهم بشرة خمرية وعيون سوداء وذلك يجعلهم يرون كل من له عيون زرقاء أو خضراء وشعر أشقر غريب عليهم .. ولذلك إعتقدوا بأن اطفالي دمى ففي المحلات والأسواق وحتى في المطاعم كل واحد يمر من أمامهم يقرص وجنتهم ويربت عليهم أو يلعب بيده بشعرهم.. لقد كرهت هذا الأمر كثيرا كما كرهه اطفالي."
"لابد أنهم إعتقدوا بأنهم قطع من الحلوى من الجيد بأنك عدت إلى هنا وإلا لكانوا قد إلتهموا لك أطفالك."
بدأ الكل يضحك بقوة على تعليق مايكل .. شعرت فجأة بأنني لاأستطيع تجاهل الأمر .. شعرت بالغضب الشديد .. لكنني قبل أن أفعل أي شيء سمعت كمال يتكلم بحدة وقد صمت الجميع على إثر كلامه:" يا للعقلية الرجعية التي لديكم!!"
تحولت أنظار الكل في تلك اللحظة إلى كمال الذي وقف فجأة على قدميه بينما رأيت أنا مايا تحاول جذب يده حتى يصمت ويعود إلى مكانه .. لكنه أبعد يده بحدة عنها وقد إحمرت عينا ذلك المراهق الذي مازال في السن التاسعة عشر من عمره .. كان يحدق بغضب كبير لمايكل الذي لم يصمت بل قال ردا على كلام كمال:"ماذا تقول هل جننت؟ أنتم الرجعيون والمتخلفون والعالم كله يعرف بذلك."
كاد يصرخ فيه كمال لولا مدام هابرس التي تكلمت موجهة كلامها لكمال:" لماذا ترانا رجعيين كمال؟"

مذكرات مغتربات(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن