الفصل الثاني والعشرون

91.5K 2K 66
                                    

على كرسي والدته جلس بالشرفة كما كانت تجلس هي سابقًا، رغم برودة الجو في هذه الساعة المتأخرة من الليل ، يشعل سيجارته وينفث دخانها في هذه الظلمة والسكون الذي عم المنطقة بعد نوم معظم سكانها ، أما هو فقد جافى عينيه رغم محاولاته الكثيرة ورغم التعب الجسدي الذي أصابه من السفر والإنتقال ، لقد افتقدها منذ الاَن رغم سفره عنها وتغربه عن الوطن منذ شهور ، لكن عدم وجودها بالمنزل لهو من أصعب الأشياء التي مرت عليه، وقد كانت تشغل جزء كبير من عمره، كلما مر على ركنٍ في المنزل تذكرها به وتذكر مشاكساته لها ، وضحكاتها التي كانت تنطلق بحرية معه وحده دون قيود او خجل ، تذكر ضعفها وهشاشتها بعد وفاة والدتها والصدمة التي الجمت لسانها عن النطق وقد شهدت احتضار والدتها وهي تضمها بين ذراعيها ، محاولاته المستميتة بعد ذلك معها لتعود للنطق مرة أخرى وممارسة الحياة الطبيعية لها كطفلة مثل باقي الأطفال ، اول يوم لها في الدراسة ثم الجلسات الطويلة التي كان يقضيها معها في استذكار دروسها ، سنوات طفولتها ثم مراهقتها وهي تكبر أمام عيناه وتنشأ تحت ظله ورعايته حتى أصبحت زهرته الجميلة التي كان يفتخر بتربيته لها ، قبل أن يأتي هذا الجاسر بكل سهولة ويقتطفها .
- انت لسة صاحي ومانمتش ؟
وصلت لأسماعه من رقية التي أصرت على المبيت اليوم بالصالة ويبدوا انها شعرت بخطواته أو ربما هي الأخرى كانت مستيقظة ، رد هو من مكانه:
- نامي انتِ يامّا ومايهمكيش ، انا هاشرب السيجارة وبعدها ادخل انام .
- ياواد بدل الخايلة الكدابة دي ، تعالى ارغي معايا وونسني على مايجي النوم اللى رايح منك ده.
هتفت بها رقية من مكانها ، فاستجاب هو ناهضًا ليذهب عندها ويجلس على الكرسي المقابل لها مرددًا
- أديني جيت يارقية عشان تبطلي زن، ها ياستي، عندك ايه رغي بقى عشان نسلي بعض على ما الفجر يدن او يطل على علينا النوم اللي مفارقنا ده ؟
اجابته رقية بابتسامة جانبية:.
- اه بس انا النوم ما فارقنيش ياعنيا ، انا صحيت على حركتك وصوت رجليك ياغالي ، ايه اللي قاقلك بقى ومطير النوم منك وانت راجل راجع تعبان من السفر ؟
تأملها وهو يدخن بسيجارته صامتًا فاستطردت هي:
- انت قلقان على زهرة صح ؟ بس يعني ياحبيبي هي كانت هاتقعد العمر كله جمبك ، ما كل بنت اَخرتها الجواز يابني..
ضيق عيناه خالد قليلًا  قبل أن يرد:
- عارف يامّا كل بنت أخرتها الجواز ، لكن اعمل ايه انا بقى؟ قلقان عليها وهي بعيد عني ، هاتقوليلي ما انت سيبتها وسافرت ، هاقولك كنت مطمن عليها معاكي عشان انتِ فاهماها زيي ، زهرة طول الوقت عايزة اللي يطبطب عليها وياخد باله منها عشان مابتتكلمش ولا بتبوح باللي جواها ، وانا بقى معرفش ان كان اللي اتجوزته دا هايبقى كويس معاها ولا يجي عليها .
ردت رقية بقلق :
- كف الله الشر يابني ، ليه بس بتقول كدة ؟ احنا ليه نقدم الوحشة ؟ والراجل ما شوفناش منه غير كل خير .
زفر خالد دخان سيجارته الكثيف قائلًا :
- بس مش مننا يامّا ، إحنا ناس غلابة ودا راجل واصل ، يعني لو حصل حاجة لقدر الله ، مش هانعرف نجيب منه حق ولا باطل، بس وربنا ؛ لو حصل للبت أي حاجة منه ، لكون واخد روحه وان شالله حتى اروح فيها .
هتفت رقية بتفكه رغم غضبها:
- يخرررب بيتك ، هو انت خلاص قدرت البلا قبل وقوعه ، واحنا يدوب مدخلين البنت النهاردة ، في إيه ياواد ؟ ماتهدي شوية براسك الكبيرة دي وسيب حمولها على الله .
- ونعم بالله .
تمتم به مبتسمًا وقد أخرجته رقية بخفة ظلها من دوامة التفكير.، واستطرد :
- ماشي يامّا هاسيبها على الله ، وخليني افكر بأسلوب ايجابي شوية يعني مثلًا، اهي البنت هاتعيش عيشة حلوة في عز جوزها، احسن بكتير من هنا برضوا ، دا كفاية الطقم الغالي ده اللي لبسهولها .
ردت رقية بابتسامة:
- انت هاتقولي ، دا إحسان وبنتها كانت عنيهم هاتبوظ منهم وهما بيبصوا عليه.
- ربنا يهديهم بقى.
غمغم بها خالد بشرود قبل أن يعود لوالدته قائلًا :
- من ضمن الإيجابيات كمان، أكيد الناس الغنية دي الكهربا مابتقطهش عندهم ؟
- أكيد ياحبيبي أكيد .
رددت بها رقية لابنها القلق وكأنها تخاطب نفسها وتطمئنها ، وقد ذكرها خالد بالعقدة الأزلية لحفيدتها
...........................

نعيمي وجحيمهاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن