على كرسي والدته جلس بالشرفة كما كانت تجلس هي سابقًا، رغم برودة الجو في هذه الساعة المتأخرة من الليل ، يشعل سيجارته وينفث دخانها في هذه الظلمة والسكون الذي عم المنطقة بعد نوم معظم سكانها ، أما هو فقد جافى عينيه رغم محاولاته الكثيرة ورغم التعب الجسدي الذي أصابه من السفر والإنتقال ، لقد افتقدها منذ الاَن رغم سفره عنها وتغربه عن الوطن منذ شهور ، لكن عدم وجودها بالمنزل لهو من أصعب الأشياء التي مرت عليه، وقد كانت تشغل جزء كبير من عمره، كلما مر على ركنٍ في المنزل تذكرها به وتذكر مشاكساته لها ، وضحكاتها التي كانت تنطلق بحرية معه وحده دون قيود او خجل ، تذكر ضعفها وهشاشتها بعد وفاة والدتها والصدمة التي الجمت لسانها عن النطق وقد شهدت احتضار والدتها وهي تضمها بين ذراعيها ، محاولاته المستميتة بعد ذلك معها لتعود للنطق مرة أخرى وممارسة الحياة الطبيعية لها كطفلة مثل باقي الأطفال ، اول يوم لها في الدراسة ثم الجلسات الطويلة التي كان يقضيها معها في استذكار دروسها ، سنوات طفولتها ثم مراهقتها وهي تكبر أمام عيناه وتنشأ تحت ظله ورعايته حتى أصبحت زهرته الجميلة التي كان يفتخر بتربيته لها ، قبل أن يأتي هذا الجاسر بكل سهولة ويقتطفها .
- انت لسة صاحي ومانمتش ؟
وصلت لأسماعه من رقية التي أصرت على المبيت اليوم بالصالة ويبدوا انها شعرت بخطواته أو ربما هي الأخرى كانت مستيقظة ، رد هو من مكانه:
- نامي انتِ يامّا ومايهمكيش ، انا هاشرب السيجارة وبعدها ادخل انام .
- ياواد بدل الخايلة الكدابة دي ، تعالى ارغي معايا وونسني على مايجي النوم اللى رايح منك ده.
هتفت بها رقية من مكانها ، فاستجاب هو ناهضًا ليذهب عندها ويجلس على الكرسي المقابل لها مرددًا
- أديني جيت يارقية عشان تبطلي زن، ها ياستي، عندك ايه رغي بقى عشان نسلي بعض على ما الفجر يدن او يطل على علينا النوم اللي مفارقنا ده ؟
اجابته رقية بابتسامة جانبية:.
- اه بس انا النوم ما فارقنيش ياعنيا ، انا صحيت على حركتك وصوت رجليك ياغالي ، ايه اللي قاقلك بقى ومطير النوم منك وانت راجل راجع تعبان من السفر ؟
تأملها وهو يدخن بسيجارته صامتًا فاستطردت هي:
- انت قلقان على زهرة صح ؟ بس يعني ياحبيبي هي كانت هاتقعد العمر كله جمبك ، ما كل بنت اَخرتها الجواز يابني..
ضيق عيناه خالد قليلًا قبل أن يرد:
- عارف يامّا كل بنت أخرتها الجواز ، لكن اعمل ايه انا بقى؟ قلقان عليها وهي بعيد عني ، هاتقوليلي ما انت سيبتها وسافرت ، هاقولك كنت مطمن عليها معاكي عشان انتِ فاهماها زيي ، زهرة طول الوقت عايزة اللي يطبطب عليها وياخد باله منها عشان مابتتكلمش ولا بتبوح باللي جواها ، وانا بقى معرفش ان كان اللي اتجوزته دا هايبقى كويس معاها ولا يجي عليها .
ردت رقية بقلق :
- كف الله الشر يابني ، ليه بس بتقول كدة ؟ احنا ليه نقدم الوحشة ؟ والراجل ما شوفناش منه غير كل خير .
زفر خالد دخان سيجارته الكثيف قائلًا :
- بس مش مننا يامّا ، إحنا ناس غلابة ودا راجل واصل ، يعني لو حصل حاجة لقدر الله ، مش هانعرف نجيب منه حق ولا باطل، بس وربنا ؛ لو حصل للبت أي حاجة منه ، لكون واخد روحه وان شالله حتى اروح فيها .
هتفت رقية بتفكه رغم غضبها:
- يخرررب بيتك ، هو انت خلاص قدرت البلا قبل وقوعه ، واحنا يدوب مدخلين البنت النهاردة ، في إيه ياواد ؟ ماتهدي شوية براسك الكبيرة دي وسيب حمولها على الله .
- ونعم بالله .
تمتم به مبتسمًا وقد أخرجته رقية بخفة ظلها من دوامة التفكير.، واستطرد :
- ماشي يامّا هاسيبها على الله ، وخليني افكر بأسلوب ايجابي شوية يعني مثلًا، اهي البنت هاتعيش عيشة حلوة في عز جوزها، احسن بكتير من هنا برضوا ، دا كفاية الطقم الغالي ده اللي لبسهولها .
ردت رقية بابتسامة:
- انت هاتقولي ، دا إحسان وبنتها كانت عنيهم هاتبوظ منهم وهما بيبصوا عليه.
- ربنا يهديهم بقى.
غمغم بها خالد بشرود قبل أن يعود لوالدته قائلًا :
- من ضمن الإيجابيات كمان، أكيد الناس الغنية دي الكهربا مابتقطهش عندهم ؟
- أكيد ياحبيبي أكيد .
رددت بها رقية لابنها القلق وكأنها تخاطب نفسها وتطمئنها ، وقد ذكرها خالد بالعقدة الأزلية لحفيدتها
...........................
أنت تقرأ
نعيمي وجحيمها
أدب نسائيفتاة متواضعة الحال لا تملك في الحياة سوى برائتها وأحلام وردية قد تكون عادية لكل الفتيات ولكن بالنسبة لها وبالنظر لظروف معيشتها الصعبة بعيدة المنال؛ وجدت نفسها فجأة محاصرة من متجبر يملك السلطة والقدرة اخضاع الغير، مع المال الذي يشتري به كل شئ، اذا ما...