مُقدمة..
نظن أن العقل هو مُخزّن الذكريات، لكن ما هو إلا ذاكرة رقمية بعيدة المدى..تحتفظ بالمعلومات والاسماء والارقام وتخرجها فقط عندما نُريد نحن ذلك بإرداتنا وطوعيتنا..
ولكن هنالك قبو دفين مُمتلئ بالذكريات الفعلية..
العواطف، دقة القلب، ولمعة العين، وبسمة الثغر، ورعشة الأيادي وإرتجاف الصوت..
كلها لحظان نعيشها ونمضي تاركينها خلفنا ظناً بأننا نسيناها ولكن...2002/4/4م..
في أحد اسواق أمدرمان المُزدحمة..
خرجت من ذاك الدكان الذي يضج بالزبائن..
والذي كان ازدحامه سبباً في تركها الطفلان الصغيران في الخارج..
اقتربت بخطوات مهرولة للمكان الذي تركتهما فيه..
لتجد الطفلة واقفة لوحدها..
سألتها وهي تضع إحتياجاتها في حقيبة اليد الموضوعة بجانب الطفلة:يوسف وينو؟!
أجابت الطفلة ذات الاربعة اعوام:متا يديب لي ماا
(مشا يجيب لي موية)
نظرت لها بسرعة:يجيب ليك موية من وين ي عهد؟!
حركت الطفلة اكتافها كدليل علي أنها لا تدري..
تنهدت بخوف وهي تنهض وتحرك عيونها علي السوق حولها..
علها تلمح طفلها الصغير..
لم تجده..
إزدرئت ريقها وتقدمت خطوة لتبحث عنه..
لكنها سرعان ما عادت عندما تذكرت الطفلة الواقفة خلفها..
امسكت مِعصم الطفلة وتحركت بخطوات مهرولة لتبحث عن طفلها..
بعد مرور اكتر من اربع ساعات..
نظرت للطفلة النائمة في كتفها وهي حائرة..
عليها أن تُعيدها لأهلها كي تعود هي تبحث عن طفلها الفقيد..الحاضر..
2022م..
السابعة والنصف مساءً..
جالسة في مُصلايتها بعد أن فرغت من صلاة العشاء..
رفعت كفيها وهي تدعي لأبنها الفقيد..
الذي فقدته قبل عشرون عاماً ولا زالت تنتظر رجوعه..في المنزل المجاور..
جالسة في بلكونة الصالة..
وسارحة..
تهمس مُرددة:هُودنا يا هُودنا..كسرة قديمة عندنا..بت العكسر تمشي وتسكر..يا قلبي قص دربي واعرف الطريق القاعد في..
ابتسمت وهي تتذكر لعبهما معا..
تتذكر يوم أخبرته انها تريد الماء..
وذهب ليحضره لها ولم يعد حتي الآن..
اغمضت عينها وهي تبتلع تلك الغصة التي لا تفارقها من يوم رحوله..في مكان آخر..
في أحدى الجامعات المعروفة..
توقفت بضجر وهي تقول:نعم ي خالد عايز شنو؟!
اردف بحالمية:عايزك انتي
رمشت مرتين لتُبعد نظرها عنه..
اقترب منها خطوة:وعد المرة دي انا جادي..وعايزك بالجد والله
اطالت النظر في وجهه لتسأله:البخليني اثق فيك تاني شنو؟!
امسك بكفها ليقول:مستعد اتقدم ليك هسي د..بس ارجعي لي واوعدك اتقدم ليك في الوقت الانتي بتحدديهو
سحبت كفها من يده ولم تجب..
استدارت لتعطيه ظهرها..
ابتسم وهو يردف:بتصل ليك لمن اصل ااا؟!
لم تجبه لأنها كانت غارقة في افكارها..عادت للمنزل وهي مشوشة تماما..
تحبه وتريد ان تكمل حياتها معه..
ولكن..تخاف اضطرابته التي تهدم علاقتهم كل مرة..