الفصل الثالث : (سر المغارة المنسية 2)

127 45 12
                                    

فغر جون فاهه من المنظر الذي قد رآه للتو ، عالم آخر يحتويه النور في كل مكان ، شعور غريب قد سكن صدره منذ ولوجه إلى مملكة " غيوري" ، ما كفّت أصوات العصافير والطيور عن التوقف وكأنها ترحب بولوج الزائر الجديد إليها ، إحساس بالأمان قد تجسد بداخله . قال مخاطبا نفسه : نعم هذا ما أردته، هذا الذي كنت أبحث عنه بالتأكيد ، عالم هادئ مطمئن يعيش فيه الجميع بأمان وسلام .. لا ظلام لاطغيان ولاصخب ..لامزيد من الحفلات والأعياد والطقوس التافهة ، أكاد أرى إنعكاس صورتي هنا من شدة هالة الصفاء التي تحيط بي ، حينها إلتفت إلى يوهان قائلا : بالله عليك أين كنت كل هذا الوقت !؟ أنا أشعر وكأنني ولدت من جديد منذ اللحظة التي قد وضعت فيها قدمي على مملكتكم . رسم يوهان شبح ابتسامة على وجهه وقال له برفق : لايزال ينتظرنا الكثير يا بني فلتأتي معي من هنا .



***********

حشد غفير يلتف حول جون وهمهات عالية تدور حولهم معلنة عن قدوم دخيل في وسطهم ، قابلهم جون بلطف وهو يلوّح بيديه لهم ، لا تقلقوا أنا لست كباقي الشياطين أعلم جيدا أنني سوف أتفاهم معكم
- فلتنقلع من هنا ! كيف وصلت إلى مملكتنا الموقرة ؟ هل خنت عهد الأسلاف القدامى ؟ وتريد بداية حرب جديدة بين المملكتين !
- لا ، أنا في الحقيقة ..
علت أصوات الحشود مكرّرة بصوت واحد وهي رافعة لأياديها : فلتذهب من هنا أيها الشيطان ، فلتغادر مملكتنا ولا تعد أبدا إلى هنا ، فلتذهب !
حينها مرّ يوهان وسط الحشود مسرعا نحو جون ثم عانقه قائلا : آسف لك يا صغيري لقد تركتك وحيدا هنا ، إنه خطئي . ومن ثم إلتف نحو الجميع قائلا : من لديه إعتراض على وجود جون هنا فليذهب إلى الحاكم وليدلي بإعتراضه إليه ، ليس لكم الحق في أن تسمِعوه هذا الكلام القاسي ، ألم تعتادوا على الطيبة وحسن الخلق ! فما خطبكم الآن؟!

صمت الجميع لوهلة وكأنهم يستوعبون مالذي قاله يوهان للتو ، هل يدرك مصيبة أن يدخل أحد أعداء المملكة إلى وسط العرش ثم يتهمهم بسوء الخلق !

كان الجميع يقدّر يوهان كثيرا وأدركوا أنه لا بد من وجود سبب وجيه لإصطحابه إلى هنا ، ولكن البعض الآخر لم يتفهم وقرروا أن يقفوا في وجه يوهان مهما كلفّهم الثمن . وصل أمجد بعد سماعه للخبر ورافق جون من أجل الذهاب لبيت يوهان القابع أسفل شجرة الحكايا العظمى ، جلس الثلاثة في صمت ملتفين حول حطب يحاول أمجد أن يشعله نارا ، و من ثم إلتف أمجد لجون فقال:
- ما بك ؟ أين لسانك يا فتى ألم تكن تريد معرفة التاريخ أو ماشابه ؟
- أنا فقط أجلب المتاعب لكل من حولي ف..
- بالله عليك اصمت ، لم أطلب منك أن تخبرني بحقيقة مشاعرك ، بعد أن وصلت إلى هنا هل تريد أن تستسلم وتعود إلى زيولدا من جديد ؟؟
أدار جون رأسه نحو يوهان وقال : هذا الأمر يعود إليه بالطبع
- إن كان من أحد يجب عليه العودة إلى زيولدا من جديد فهو أنا يا أصدقاء
نظر إليه الإثنان في عجب وقال أمجد : ههه أنت تمزح أكيد ولم عساك أن تعود إلى هناك ؟!
- أنا لم أنجز ما تبقى عليّ ، ولن أموت مطمئن البال حتى أكمل ما بدأته
- ولكن مالذي بدأته هناك ؟
- إنها قصة طويلة يا فتى ، احرق المزيد من الحطب فلدينا الكثير لنرويه اليوم
شعر جون بحماس شديد عند قول يوهان لهذا فأعدّ نفسه لسماع الحقيقة التي كان يسعى نحوها ، فقال له : فلتتكلم يا يوهان كلنا آذان صاغية .

منذ الأزل لم يتفاهم شيطان ولا ملاك إسترنجيني مرّة واحدة ، رغم سعي الحكّام القدامى إلى توحيد المملكتين بشتى الطرق لكن الشعوب رفضت ذلك رفضا قاطعا لا عودة فيه .وذلك بسبب حب الشياطين للصخب واللهو طيلة اليوم إضافة إلى صعوبة التعامل معهم في كل شيء ، فكل واحد منهم يرغب بامتلاك الشيء لنفسه دون مساعدة الآخر ، وانتشار الظلم ، السرقة و القتل في مجامعهم ، ورغبة الإسترنجينيين في العيش بهدوء وسلام بعيدا عن الصخب والحفلات المكرّرة دون سبب يذكر ، كانت فطرة الإسترنجيين التي قد خلقوا عليها تدعوهم إلى السلم والأمان والمودة والرحمة ، فنادرا ماتنشب النزاعات أو الخلافات بين الأهالي وهذا ماجعل كل مملكة تمثل النقيض للأخرى . رغم كل هذا لم تنشأ حرب أو صراعات عديدة بين المملكتين إلا عند تدخل طرف ثالث وقد كانوا : البشر .
نظر أمجد ليوهان و علامات الدهشة بادية على وجهه وقال : هل تريد أن تقول أن البشر سبب كل ما يحصل معنا اليوم؟!
- فلتنتظر لأكمل لك يا أمجد .
- وأنت ياجون ما خطبك؟

لقد سرح جون بخياله إلى المدى البعيد وترك له العنان من أجل توقع الأحداث القادمة التي قد حصلت ثم قال له : أظن أن هذا الذي حدث بالفعل فلتكمل يا يوهان .

-حسنا لك ذلك .

في القديم كان هناك إسترنجيني يدعى " سيلا" يعيش هنا يا رفاق وكان من أحب الأصدقاء إلى قلبي ، كان معروفا بشدّة حبه لطلب العلم والسعي دوما لإكتشاف الحقائق المخفية . ثم نظر إلى جون وقال : كان مثلك تماما . ذات يوم ذهب إلى مملكة
"زيولدا"  وتحديدا إلى جسر العروش العظمى حيث توجد المكتبة ، لم تكن تُدعى بالمغارة المنسية آنذاك وذلك لكثرة إرتداد الإسترنجيين لها . قصد سيلا هذه المكتبة بعد معرفته لوجود كائنات أخرى عدانا نحن والشياطين فشرع بالبحث عن كل الكتب التي قد تشير إلى هذه الكائنات ، وأخذ معظم الكتب التي قد تكون لها صلة بالموضوع . بعد بقائه في المنزل لمدّة ثلاثة أيام على غير العادة ،وعدم سماعي لأي خبر قرّرت أن أدخل إلى بيته مهما كلفني الثمن فلقد غلبتني الشكوك بإحتمالية موته أو اختطافه ... فتحت الباب ولكن عند دخولي لم أجد سيلا هناك .

بالفعل تعجّبت من ذلك فلم يوجد له أثر في المملكة بأسرها كما  أنه لم يكن متواجدا في بيته . لاحظت أن شقته مظلمة على غير العادة كما أن معظم الكتب مبعثرة على الأرض والمكتب ، لم تكن تلك عادة سيلا لأنه منظم ويحب أن يكون مكتبه نظيفا دائما ، ولكن عند ترتيبي لأغراضه وجدت رسالة مكتوب عليها : يوهان إن جئت إلى هنا فاعلم بأنني في مكتبة زيولدا فلتأتي إلى هناك متى ما قرأت الرّسالة و على عجل .
إنتفضت من مكاني حينذاك وذهبت مسرعا إلى المكتبة ، ولكن حدث شيء لم أتوقعه بتاتا ضرب زلزال مدمر في كلتا المملكتين في آن واحد ، سقطت معظم ممالك زيولدا و شقت الطرق الفاصلة بين المملكتين حالة من الذعر والرهاب قد إكتست الجميع . حينها فقط علمت أنني قد تأخرت ، تأخرت كثيرا عن سيلا . وبعد وصولي إلى المكتبة بعد عناء طويل رأيت شيئا مازال محفورا هنا في رأسي يا رفاق ،  بوابة من عالم آخر تشّع بالبياض ، وكأنها فضاء أزلي رُسِم على أطرافه خطوط زرقاء يكتسيها النور .

بيني وبينك عالمان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن