لبضعة رسائل في جوف الأحاديث فضل
على عاشقٍ حائر .. لولا الدلالات ضل!
تكاد تهدم المنزل ثم تعيد بنائه من جديد .. تنشغل بأعمال المنزل منذ عادت من عملها .. تريد أن تنأى برأسها عما حدث صباح اليوم .. لكن نظراته حين ابتعد عنها قبل أن يرحل مغادرًا دون كلمة واحدة، لا تبرح خيالها أبدًا .. لا سيما وقد بادلته إياها بأخرى مشوشة مذهولة .. لا تنكر أنها صُعقت من تصرفه وكلماته، والتي حين أعادتها في رأسها تراجع الغيظ قليلًا، لتحل محله الحيرة ..
ماذا يعني؟
إلامَ يرنو؟
هل فعلته ذات دلالة معينة قصدها؟
أم أنه فقط يجيد التلاعب في حدود المباح!
يعيد عقلها تساؤلًا منذ حينها، اختلفت صيغته بمرور الوقت .. حتى هدأت تمامًا مع همسة شاردة منها "لمَ يتمسَّك بي؟"
لم يتمسك بإحداهن من قبل .. رغم كثرة علاقاته وإختلاف الطرف المبادر بالانفصال، إلا أنه لم يتمسك أبدًا بأي منهن .. ربما كرامته تأبى، أو لم يكن بداخله القدر الكافي من المشاعر تجاههن ليحاول رأب الصدع ..
"علامَ تدورين يا جود؟ تتوهين في أفكارٍ تحاولين اختيار الأسلم من بينها ليصدقه عقلك، بينما يتعلق قلبك بوهمٍ يتفاقم بشكل مؤذي .. متغافلة عن كون كافة هذه الأفكار.. من نسجكِ أنتِ!"
نفضت رأسها في محاولة مستميتة للتفكير بشيء آخر .. أي شيء ينتزعها من هذه الدوامة.
_جود!
انتشلها النداء من تلك البوتقة التي تحاصرها، فالتفتت سريعًا إلى والدتها التي استقرت بمقعدها عند باب المطبخ سائلة بتعجب :
_ماذا تفعلين كل هذا الوقت؟
لم تُطل التفكير قبل أن تجيب كاذبة :
_أرتب المطبخ قليلًا وأنظفه كمل ترين، لقد أثقلت في وجبة العشاء فأردت القيام بمجهود يساعدني على الهضم قبل أن أذهب إلى النوم.
رفعت زينب حاجبًا بعدم اقتناع، ثم ردت متهكمة :
_أثقلتِ في العشاء لأنكِ كنتِ شاردة .. كلما يشرد ذهنك تغفلين عن كمية الطعام التي تتناولينها .. في الحقيقة لقد بات شرودك كثيرًا في الآونة الأخيرة حتى ازداد وزنك بعض الشيء.. أنا شاكرة لما يشغلك.
تجعد وجه جود باستياء وهي ترد :
_أنا لا أحب أن يزداد وزني يا أمي!
مررت والدتها نظراتها على قوامها النحيف قائلة بتوبيخ ساخر :
_هذا إن كان لا يؤثر على صحتك يا روح أمك، لكنكِ كنتِ تعانين من فقر الدم ومشاكل في العظام و...
مرت جود من جانبها بحنق طفولي هاتفة :
_لا تعددي الأمراض في وجهي، ها أنتِ تقولين "كنت" أي أنني بخير الآن.
ارتمت على الأريكة بتعب، فاقتربت منها زينب قائلة برزانة :
_لكن هناك ما يشغل بالك .. كنتِ لا تخفيني سرًا يا جود .. الآن أشعر بكِ تنأين بنفسك عني.
رفعت جود وجهها بلهفة إلى والدتها لامسة رنة العتاب في كلماتها، فردت على الفور :
_لا والله يا أمي، أنتِ كل من لي في هذه الدنيا فكيف ابتعد عنكِ؟ أنا فقط لا أريد أن أشغلك معي بأفكارٍ معقدة في رأسي..
ربتت والدتها على ركبتها وهي ترد مشجعة :
_دعكِ مني الآن وأخبريني بما لديكِ، هيا.
توترت قليلًا.. لقد فكرت لأكثر من مرة أن تتحدث مع والدتها لكنها جبنت وتراجعت في كل مرة.. لذا أخذت شهيقًا بعمق، لتبدأ حديثها مرتبكة :
_لقد .. لقد كنت أتحدث معك دائمًا عن كل شيء .. و .. أعلمتك بصداقاتي في الجامعة حتى أنكِ قابلتِ عددًا من أصدقائي .. وكان من ضمنهم .. هاشم.
أومأت والدتها برأسها وقد ارتسمت بسمة طفيفة على محياها قائلة :
_الحكاية هي هاشم إذًا!
غزت حمرة طفيفة وجه جود، وهي تردف مؤكدة تخمين والدتها :
_كنتِ لا تستسيغين علاقتي به وترفضين صداقة الذكور مع الإناث بشكل عام .. وكنتِ تمطين شفتيكِ امتعاضًا كلما أتيت بسيرته، وتحاولين لفت انتباه أبي رحمه الله للأمر كي ينهرني عن التعامل معه مجددًا .. لكن أبي كان يرى الأمر عاديًا حتى أنه لم يرفض شراكة والده.
تنحنحت بحرج متهربة بعينيها وهي تكمل :
_حقيقةً كنت أفهمه أنه يساعدني في المذاكرة وتعاملاتنا بحدود كزملاء في الكلية فقط .. سامحني الله، لكني لم أكذب بشأن الحدود.
تململت زينب فقاطعتها بتذمر صائحة :
_جود، بالله عليكِ لمَ تسردين عليَّ ما أعرفه بالفعل؟ ادخلي في صُلب الموضوع.. ما به هاشم؟ هل تشاجرتما؟
لم تحكِ ما حدث .. لم تشهد والدتها على كلماته اللاذعة أو أفعاله الهوجاء .. واحتفظت باتفاقهما الأحمق لنفسها .. ثم قالت نافية :
_لا، لا أقصد الشكوى، أنا فقط .. أرغب في الفهم!
اعترى الاهتمام ملامح والدتها فاستطردت بحيرة :
_لماذا أنا؟ لماذا من بين الكثير ممن عرفهن يتمسك بي؟ لقد كان دومًا يتشدق بـ"جود صديقي" فمتى رأى بي الأنثى التي يريدها؟
رغم تعاطفها معها، إلا أنها لم تستطع منع تعجبها وهي ترد بهدوء :
_ربما كان يخشى مفاتحتك في الأمر مسبقًا كي لا يخسرك كصديقة في حالة رفضك المتوقع .. لكن لمَ تشغلين نفسك بهذه الأسئلة؟ إنه زوجك يا حبيبتي! لا تقحمي نفسك في مقارناتٍ تحط من قدرك ...
قاطعتها جود باستعطاف كي تدرك روحها المعذبة :
_لكن يا أمي أنا لا أستطيع .. هذا ليس بيدي، لا يمكنني تقبل فعلًا لطيفًا منه دون أن ينسج لي خيالي لوحة كبيرة تضم عدة مشاهد مشابهة له مع كل فتاة عرفها قبلي، فأشعر بنارٍ تتقد داخلي.. وكأن رأسي يتآمر ضدي!
عقدت زينب حاجبيها بعض الشيء، لترد بتعقل محذرة :
_لا يا جود .. إياكِ وهدم حياتك لأجل بضعة صورٍ من الماضي .. ما أسمعه منكِ لا يتوقف عند حد الغيرة، النار بداخلك ستطغى حتى تطُله معك، ثم تقتات على علاقتكما تدريجيًا .. حتى لا يبقى منها شيء قد يشفع لكليكما عند الآخر في النهاية.
تنهدت بتيه .. وكأن هناك فجوة تزداد اتساعًا بداخلها .. إلى أن أكملت والدتها كمن تنبهها لما يغفل عنها :
_هاشم شخص تائبٌ يا جود .. سلك طريق التوبة وابتعد عما يدور في رأسك من قبل حتى أن يفكر في الزواج منكِ .. أعرف أن هناك حدودًا لم يكن يتجاوزها آنفًا لكن تلك العلاقات تظل حرامًا ..
حرامٌ قرر تركه بملء إرادته وقد أهلته الظروف بقسوتها لذلك بقوة .. لا تصُديه عن طريق الحلال يا ابنتي.
عم الصمت لوهلة تاركًا لكلتيهما المساحة للتفكير .. لا سيما تلك التي ازدادت الحيرة برأسها عما عليها الإقدام عليه تحديدًا..
حتى مواجهته كانت مبهمة .. وكلماته مشفرة كمن يفشي بلغزٍ غامض..
كسرت والدتها القوقعة مجددًا حين قالت مصطنعة الامتعاض :
_لا أنكر أنه يستفزني وأراه باردًا كلوح الثلج.. لكني صدقًا بتُّ أحترمه، وهذا ما دفعني لقبول زواجه منكِ .. فالله لا يرد التائب، من أنا لأفعل؟
ابتسامة طفيفة شقت ملامح جود المنهكة، قبل أن تميل إلى والدتها بعناق دافئ هامسة بالتماس :
_ادعي لي يا أمي.
مسدت والدتها على خصلاتها البنية بحنان، فيما أكملت جود بنبرة براءة مصطنعة دون أن تبتعد :
_هل تمانعين أن أنام بحضنك اليوم؟
~~~
تخلصت من ذهولها بصعوبة .. لكن الإدراك لم يطأ رأسها حتى الآن..
لم تستوعب بعد .. كيف لمن مثله أن يتقدم طالبًا الزواج من .. منها!
نهرتها شقيقتها لأكثر من مرة.. ذكرتها بحقيقة الأمور.. حذرتها من أن تحط من شأن نفسها بفعل وهمٍ في عقلها.. لكن علامات التعجب من الأمر برمته لا تنفك أن تبرح تفكيرها حتى تعود لتضرب رأسها بتضاعف..
وتمنت ..
تمنت لو كانت قابلته قبل سنوات قليلة .. لكان كل شيء مختلف فيها، وأمام عينيها .. لو كان طعم الحياة أقل مرارًا في حلقها .. لو كانت كما هي بفطرةٍ نقية غير ملوثة بدناسة لا يد لها فيها .. لو كانت روحها مازالت خفيفة حالمة..
تمنت لو كان للقائهما شكلًا آخر ..
عند تلك الشرفة بغرفتها .. تقف بدلال مراهقة وخجل بِكر تنتظر قدومه المعلوم بشغف محبٍ أبحر طويلًا، وأخيرًا .. وصل لمرساه.
تخطت نادية تعقيداتها الشخصية وجروحها المتقيحة، لا سيما بعدما نُكأت حديثًا، وهي تدلف بقدميها إلى غرفة الضيوف بعد أن أصرت على مقابلته.. تريد التحدث معه .. يجب أن يفهم أن قرارها لن يكون لعيبٍ به، وقد خلا بنظرها من كل ما قد يشين .. نعم لقد أخذت قرارًا نهائيًا رغم قسوة وطأته عليها، لكنه الأفضل له على أية حال .. سترفض.
قرارٌ لن تندم عليه .. لكنها ستبكي!
ولا تناقض بين الفعلين .. لن تندم لأنها تريد له سعادة يستحقها .. لن يجدها أبدًا بين جنبات هلعٍ وبكاءٍ وفزعٍ غير مبرر .. أو جدار عازل يتكبد شقاء هدمه حتى ينالها .. لا سعادة دون راحة .. ولا راحة في الحياة معها.
وستبكي لأنها .. بكل أسفٍ تريد القبول.. وبكل قهر تتلبس دور التفاني المؤلم ..
هي لا تطيق هذا الدور .. لا تطيقه..
بعد التحيات .. جلست بهدوء ظاهري لم تنصت به للأحاديث الدائرة حولها، والمتبادلة بين شقيقته وأطراف عائلتها، يشارك هو بين الفينة والأخرى، بينما تختلس هي النظر إليه ضاغطة يديها بقوة لتتمالك قدرًا من أعصابها المضطربة..
خلو الغرفة بعد دقائق كان بمثابة ناقوس إنذار لها لتتحفز رافعة نظراتها إليه..
_نادية!
رغم نظراتها المباشرة المرتبكة إليه، إلا أنه استرعى انتباهها بندائه، ليكمل بجدية :
_في الحقيقة كان هناك ما استعددت لقوله لأعرفك عني كليًا .. لكن يبدو أن لديكِ ما هو أهم .. ما الذي تريدين قوله؟
كلماتها مرتبة .. وحجتها جاهزة .. لكنها احتاجت لبضعة لحظات قبل أن تنطق بثباتٍ هاوٍ :
_أردت أن أعلمك .. أن ما رأيتَه منذ أيام لم يكن سوى جزءً مما قد تعايشه معي في حالة موافقتي.
سحبت شهيقًا قويًا، زفرته وهي تكمل شارحة أمام نظراته المهتمة بكلامها :
_أنا لستُ مجنونة، ولا أحط من قدر نفسي .. لكنني .. أعرفني..
حمزة، لقد عانيتُ سابقًا في زيجة فاشلة انتهت بشكلٍ كارثي .. رأيت كل أشكال المعاناة تتجسد أمامي حتى تفاقمت معاناتي النفسية وأضحيت لا أستطيع التحكم في نوباتٍ تعتريني من حينٍ إلى آخر .. عانيتُ من عنفٍ منزلي هدم الكثير بداخلي ثم بنى أمام الحُطام سورًا شاهقًا يمنعني رغمًا عني عن التعامل بأريحية أو التقارب ..
تغضن جبينه بعض الشيء ملاحظًا تأثرها الذي تحاول كبحه وهي تلقي بكل ما في جعبتها مرة واحدة، واحتدت الكثير من كلماتها دون شعور .. هي لم تتخطَ الأمر، وهو بالكاد يلجم انفعاله موقنًا ما أوصلها إلى هذا الحال الموجع ..فيما أكملت مزدردة غصة في حلقها :
_أنا لن أقدر .. ولا ذنب لك في كل هذا كي تتحمل تبعاته .. أخشى أن أجرحك يا حمزة، ويؤلمني رد طلب لك .. لكني أعلنها لك بكل وضوح .. أنا لستُ موافقة على هذه الزيجة.
لا ترضاها له .. وكم تقتلها الحسرة أن ترى نفسها علة لن يطيقها من طاقته دونًا عن كل الرجال ..
ضغطت فوق شفتيها تمنع عبراتٍ ملحة .. بينما تشبعت نظراته بحنان متعاطفًا معها بشدة .. لاعنًا كل ما أودى بها إلى أن ترفضه خشية ألا يحتملها.. فمال بجذعه قليلًا يرنو إليها في إطراقها الشَجِن من علوٍ .. لينطق بنبرة أجشة أودع بها كل ما أتى به من عاطفة :
_عملتُ في الكثير من المهن .. كان من بينها الحرفي والبنَّاء ... أجيد ترميم الحطام .. وتسعفني رباطة جأشي في هدم الأسوار .. أنثر الآلام على طول ذراعي .. وأغزل من الشغف وَجدًا، يضم تحت جناحه ما يلتقيه من دفء.
تسمرت مأخوذة بكلماته .. تطالعه بعينين اختلطت فيهما لمعة العبرات مع أخرى ازدادت حين أكمل :
_والآن أكرر سؤالي بصيغةٍ أكثر وضوحًا .. هل تقبلين مشاركتي في رحلةٍ قد يقابلنا بها بعض العقبات التي يمكننا تخطيها سويًا؟
تعلقت دمعات بأهدابها، فرمشت بتردد بينما تهمس أمام نظراته التي أسرتها دون جهد :
_سأتعثر .. ستلاحقني ذاكرتي وتكيل لي الضربات على حين غرة ..
زينت محياه ابتسامة عذبة مستشعرًا ميلها للقبول، فرد بتشجيع :
_يا نادِية لكل ماضٍ خبايا .. ولكل حاضرٍ أولوية .. فهلا نسينا الماضي وتشاركنا الحاضر والمستقبل؟
ازدردت ريقها بارتباك .. وجهها يزداد توهجًا كلما نطق بكلمةٍ إلى عينيها .. فردت ببواقي ممانعة طفيفة وكأنها تحذره مما هو مقدم عليه :
_ماضييَّ يفرض سيطرته عليَّ .. ينغص حاضري ولن يدعني أهنأ بمستقبل ... سأشقيك!
اتسعت ابتسامته مُعلقًا بلُطف يضاهي المنبعث من عسليتيها المترددتين :
_يسعدني الشقاء على يديكِ.
~~~
اليوم التالي..
"تبًا .. ما هذا الحظ!"
تمتمت بها إلهام وهي تركل عجلة السيارة الفارغة تمامًا من الهواء .. وهمت أن تستبدلها بأخرى من حقيبة السيارة، حين لاحظت أن الأخرى مثقوبة بمسمار سميك لا تعرف كيف أتى على تلك الرقعة النظيفة التي تصف بها سيارتها!
زفرت بحنق .. فقد قررت والدتها أن تعد عزيمة خاصة لزوجة أخيها وأمها.. حيث تقربت والدتها من الأخيرة بشدة حتى باتت تظنهما صديقتين منذ زمن، على عكس ما تسمعه تمامًا عن كره الحموات البغيض لبعضهن البعض ..
وكما هو المعتاد في كل عزيمة .. لا يجب أبدًا أن تتأخر كي تساعد والدتها .. ففي المرة السابقة تلقت توبيخًا شديدًا من كلا والديها، واليوم آخر ما ترغب به هو الاستماع لكلمات ناهرة أو تلقي المحاضرات التربوية..
جحظت عيناها حين رأته واقفًا يستند إلى سيارته بذراعه مدعيًا التركيز بعيدًا في اللاشيء ..
كيف عرف بمغادرتها المبكرة للعمل اليوم؟
لم تطل التفكير حتى رفعت كفيها تقبضهما بغلٍ بينما تهمس متوعدة "سأمزقك إربًا يا نادية."
اقتربت منه بخطوات نارية لتسأل بحنق بيِّن مشيرة إلى عجلتي سيارتها :
_هل أنت من فعل ذلك؟
نظر إليها باندهاش زائف من وجودها، ثم حرك عينيه إلى حيث تشير قائلًا ببراءة زائفة :
_أنا؟ بالطبع لا، ولمَ قد أفعل؟
أتم جملته مشيحًا بقدمه آلة حديدية _ذات أربعة اتجاهات لحل الإطار وربطه_ إلى أسفل سيارته خِفية .. ثم أكمل بتعاطف مدروس :
_إن كنتِ لا تمانعين، يمكنني توصيلك بسيارتي!
تكاد تتمايز غيظًا في وقفتها أمامه، فنزعت قبعتها بحنق قائلة بينما تستدير لترحل :
_سأستقل سيارة أجرة.
كاد يصيح فيها لتعود أدراجها قبل أن يتحلى ببعض التماسك هاتفًا ببرود :
_ستتأخرين عن موعدك الذي خرجتِ لأجله مبكرًا من عملك (يا لحظه) ثم تستقلين سيارة لتجدي نفسك لا تحملين الأوراق النقدية كعادتك عند الذهاب إلى العمل، وبالطبع لا يمكنك إخراج بطاقة الائتمان لسائق الأجرة .. فكرةٌ جميلة، أتمنى لكِ التوفيق.
تسمرت محلها .. وصدقًا هذه المرة توعدت بشدة لشقيقتها التي لم تتوانَ عن إفشاء كل ما يخصها له .. إلا أنها عادت إليه بالفعل تفرغ به بعض من استيائها :
_أنت المسؤول بالكامل أمامي عن كل هذا.
اتسعت عيناه بدهشة .. مستنكرًا معاملتها له كمتهم لديها .. لكنه رد محتفظًا ببروده :
_لا أعرف عما تتحدثين، لكني أكرر عرضي بمنتهى اللطف .. يمكنني توصيلك.
زفرت أمام وجهه بانفعال، ثم استدارت حول السيارة دون أن توجه له كلمة واحدة..
رفع الآلة من الأسفل سريعًا يعيدها إلى حقيبة السيارة قبل أن تلاحظها، ثم تحرك متخذًا مقعده بجوارها.
_أنا شرطية يا خطاب.
قالتها فور أن استقر بمقعده دون أن تلتفت إليه .. فشُلت حركته للحظة وهو يهم بتدوير السيارة فاهمًا اكتشافها لخدعته .. قبل أن يضحك وهو يقول متقبلًا هزيمته في الحيلة، وراضيًا تمام الرضا بالنتيجة :
_حسنًا.
تحرك بضعة أمتار، ثم ضغط على زر المسجل في السيارة .. ليصدح صوتًا قديمًا به تشويش طفيف لمحمد فوزي وليلى مراد ..
شحات ومد إيديه وكسر خاطره حرام
حدفه الهوى هنا ليه؟
طالب تحنوا عليه يا محسنين الغرام
ونحن قُل لي بإيه؟
إرموا له نظرة، ولا إبتسامة، حسنة وتنفع يوم القيامة
ارتفعا حاجبا إلهام بذهول، وتنهدت بيأس رافضة الاستجابة أو الانصات إلى الأغنية .. بينما تشعر بنظراته تخترق قوقعتها الصامتة بجواره ..
يعطيك لله يعطيك
والنبي إحسان لله
قلت على الله على الله
وأنا قلت كمان لله
اسرح
مدت يدها لتغلق المسجل بفظاظة، فأعاد تشغيله بسماجة دون اكتراث ..
لله لله
روَّح
أغلقته ثانيةً بغيظ، فأشاح بكفها بصبيانة معيدًا تشغيله وهو يدندن مع الكلمات ..
لله لله .. يا محسنين الغرام لله
يا أرق خلق الله ضيف الجمال مكروم
هو إحنا ضيفناه؟
ما ترُدينيش محروم
ضغط أثناء دندنته على الجملة الأخيرة، فارتجف شيء ما بداخلها.. إلا أنها نفضت رأسها سريعًا مشيحة بوجهها إلى النافذة..
إيه كل ده، إيه كل ده باين عليك طماع
هو كده، هو كده الشحاتين أنواع
كلمة رضا لله
عايز الرضا صدقات؟
ساعة صفا لله
التفتت له بنظرة خاطفة تراقبه خلسة وعن قرب للمرة الأولى .. ثمة تعجب يجذبها إلى النظر إليه طويلًا .. إلى ذلك الجالس جوارها بابتسامة لا تفارقه يدندن كلماتٍ لأغنية طريفة وكأنه يستمع إلى ديوان شعري عاطفي!
يظهر صحيح اللي بتشكيه غلبان يا روميو الشحاتين
غلبني إيه إلا عينيكِ
أنا قلبي رق وأثر فيه صوتك يا كبدي على المسكين
لو تسعديه شيء في إيديكِ
طالت مراقبتها كمن تطالع كائنًا غريبًا .. أو تستكشف شيئًا ما .. شيء يجعله يثابر لمعرفة بضعة معلومات عنها، ويتحين بل ويصنع اللقاءات بأي حيلة ممكنة .. ما ورد إلى ذهنها غريب .. لكن نظرته حين التفت فجأة ممسكًا بتطلعها الخفي.. كانت الأغرب .. والأكثر قسوة إدراكها أن الأمر لديه أكبر بكثير مما تصورت!
ما بقتش أقول الله يحنن لا الناس تسميني بخيلة
والبخل في الحب يجنن .. صدقة وترضيني قليلة
على ما قُسم وخلاص خدها
ياخد عدوينك
نادية ولسه بعنقودها
يا روح مُحبينك
مر وقت طويل منذ ذلك الحين .. حين شعرت باضطراب نبضاتها في خجل غطى وجهها ورقبتها بغتة .. فانكمشت قليلًا في مقعدها عائدة ببصرها إلى النافذة ..
الله يزيد حسنك يا زينة الجناين والبساتين
ولا يخْليهم لك يا كريمة من ورد أبدًا ولا ياسمين
ولا فل تعيش إلهام، إديني، إديني ميعاد
إديني ميعاد لله
~~~
ممسكة بقلمها .. عيناها مسلطتان على الكتاب أمامها .. ولا معلومة واحدة تقبل الدخول!
تعيد الكرة فترسم أشياءً غير مفهومة دون الاستفادة بحرفٍ واحد من المنهج ..
"بهذه الطريقة سأرسب.. حسبي الله فيك يا أدهم يا ابن أبي مختار."
رمت القلم من يدها بحنق .. فمنذ ما يقارب الساعتين .. رآها أدهم تجلس على هذا الوضع تذاكر في صالة المنزل .. سحب مقعدًا مقابلًا ليجلس أمامها على غير عادته في الآونة الأخير.. ثم تحدث وكأنه لا يستسيغ الأمر :
_اسمعي، أريد مساعدتك.
نظرت منة إليه بشعور ثقيل يجثم على صدرها .. أدهم لا يطلب المساعدة سوى فيما يتعلق في الأمور العاطفية التي لا يفقه عنها شيئًا.
_ماذا هناك؟ تبدو متأنقًا وكأنك على وشك الخروج!
أومأ برأسه متنهدًا، ثم عاد ببصره إليها قائلًا :
_سأندم على ما سأقول طويلًا، لكن تعرفينني ضيق الأفق جامد التعبير .. لستُ بارعًا في الكلمات اللطيفة، رغم أنني في الكثير من الأوقات أشعر باللُطف...
قاطعته معقبة بتهكم ذاهل :
_تشعر باللطف؟ أنت يجب أن تشطب كلمة "تعبير" هذه من قاموسك تمامًا!
انكمشت ملامحه بامتعاض وهو يرد :
_هل ستسمعين ما أتيتك لأجله أم آخذ تأنقي وتعبيري وأرحل من أمام وجهك؟
مسحت وجهها بكفيها بيأس من خشونة كلماته، ثم قالت بتهكم خرج رغمًا عنها بلمحة قلق حقيقي تشجعه على الحديث :
_استر يا رب..
التفت ليرى إن كانت أمه بالجوار، ثم عاد إليها قائلًا :
_لقد تواصلت مع يسرا .. في الواقع هي من اتصلت بي تطلب مقابلتي .. لا أعلم لماذا ولن أخفيك سرًا، أنا لا أستبشر خيرًا.
رغم انقباضة قلبها .. إلا أنها ردت باستنكار لتشاؤمه :
_لا حول ولا قوة إلا بالله!
زفر بحيرة قبل أن يكمل طلبه كتلميذٍ فاشل على وشك الدخول إلى اختبار نهائي :
_المهم أنني لا أعرف كيف أتعامل أصلًا .. أنا مُقدر للوضع من وجهة نظري ولستُ بعالمٍ بها .. رغم أنني لا أعرف ما تريد التحدث به معي تحديدًا .. وأظنها ستنهي كل شيء ..
ضاقتا عيناها بعدم فهم لما يدور برأسه .. تحاول تنحية شعورها الدخيل بغيرةٍ غير محقوقة تكويها .. ثم ردت ببطء :
_هذا ما تظنه.. أم ما تتمناه؟
باغته سؤالها.. فعقد حاجبيه للحظات مأخوذًا..
لا يفهم نفسه .. هو حقًا لم ينكر حين حرك كتفيه بتيه مجيبًا :
_لا أعرف!
نفض رأسه مكملًا حديثه :
_أنا فقط أريد أن أعرف كيف أحتوي الأمر .. أي أنني ...
قاطعته بتفهم توقعه .. متحدثة بعقلانية لولا معرفته بحقيقة الأمر لقال أنها ورثتها من أبيه :
_أظن أن هذا هو أنسب وقت للتعامل بسجيتك يا أدهم .. أعرف أن تعاملاتكما عملية بحتة بشكل عجيب، لكن يجب أن تظهر أمامها كما أنت .. لمَ تتصنع لُطفًا وفصاحة لا تملكها؟ أعرف أنها جمل مبتذلة لكن أنا وأمي لن نكون معك في كل موقف وكل مقابلة لك معها.. لقد كاد بابًا واحدًا أن يُغلق عليكما منذ أيام!
احتدت كلماتها الأخيرة بمبالغة أثارت تعجبه، فأومأ برأسه يقلب كلماتها بين غياهب تفكيره .. كلامها منطقي بشدة .. يوازي اختياره العقلاني لشريكة لا تبحث عن حبٍ لا يفهمه .. أو كلماتٍ معسولة لا يتقنها .. لكنه أغفل من البداية عن كونه يجهل أساسيات التعامل مع النساء .. فكانت ذلته حمقاء ..تمامًا كقلبه.
وها هي الآن تجلس بين كتبها ومذكراتها بعد أن انتقلت لغرفتها شاعرة بلسعة برودة مع اقتراب الليل .. تنتظر قدومه بقلبٍ يرتجف بخوف وأنانية تفشل في تعريفها..
وحين سمعت صوت سيارته تصطف بالخارج، هرولت مسرعة إلى الردهة الصغيرة .. مستقرة أعلى الدرج بملامح مستفهمة لم يستشف قلقها الحقيقي من وقفته بالأسفل وقد دلف للتو .. تقدم ثلاث خطوات بملامح مبهمة لا تشي بشيء على الإطلاق .. ثم رفع كفه إليها لترى ما يمسك به من حلقة ذهبية صغيرة بوضوح .. ظهر لها بعد أن دققت النظر .. أنه محبس الخطبة!
~~~
السيارة .. تلك المسكينة التي تتحمل منه الكثير .. تقاسي معه ويلات التوتر والتفكير، وشهدت كثيرًا من قراراته الأهوج منها والعقلاني..
استند هاشم إلى سيارته اللامعة بحديقة منزله متكتفًا بقلق أبى أن يعترف به وهو يتشبث بوجهة حانقة عاقد الحاجبين..
يعرف جيدًا تصرفاتها الغير محسوبة، ويخشى إقحام عائلتيهما فيما بينهما من أمور لا تمت للنضج بصلة..
لا دخل لوالدتها أو والديه في تحدياتهما الباردة أو استفزازهما وشجاراتهما الصبيانية.. لذا فقد شعر ببعض التوتر حين علم بأمر العزيمة .. فربما تعاند .. يابسة الرأس وقد تفعلها!
إن لم تحضر مع والدتها للعزيمة سيكون موقفًا محرجًا بشدة.. ولا يعرف كيف سيتصرف..
_السيارة تبرق .. كم مرة غسلتها اليوم؟
التفت إثر صوتها الذي وصله هادئًا رائقًا، فوجدها تقف خلف مقعد والدتها ممسكة بطرفه بتوترٍ طفيف بدا وكأنها تحاول مواراته بالمزاح أو التهكم ..
ابتسم هاشم مُرحبًا بهما، ليقول مناكفًا والدتها كدأبه :
_أنرتِ المنزل يا زوز، كيف حالك؟
ضربته زينب بخفة على يده القريبة منها أثناء سيره بجوارها، ثم قالت موبخة حين تعالت قهقهاته :
_هل ألعب معك في الشارع أنا يا ولد؟ وأنا من كنت بدأت أحترمك!
قاطع كلماتها الموبخة خروج إنصاف من غرفتها مرتدية عباءة استقبال ثمينة، مُزينة الثغر بابتسامة واسعة .. وكأنها باتت أخف روحًا منذ وافقت شقيقته الكبرى على العريس المتقدم لها بالأمس .. لا سيما وقد كانت تبتهل لقبولها منذ علمت بهويته..
تشاغلتا والدتيهما سويًا .. فالتفت ممسكًا بنظرةٍ أخفتها سريعًا متوردة الوجنتين ..
لمَ أضحت أكثر خجلًا منذ آخر لقاء بينهما؟
نحت تساؤلاتها الوجودية جانبًا، وهي تسير بصحبتهم إلى حيث تقودهم السيدة إنصاف .. فتقدمت الوالدتين تاركتين إياهما في الخلف .. يصمهما صخب نبضاتهما عن عبارات الترحيب.
أنت تقرأ
هان الود
Romanceهل تُخلق الطهارة من روح الدنس؟ أم يُولد السوء من رحم البراءة! ما ذنب النقي في معركة النجس؟ خاضها بغلٍ قضى على كل القلوب المعطاءة!