الفصل الثاني والعشرون

264 8 0
                                    

لا الدمع يُريح قلبًا بالأحزان مثقلًا
ولا الجروح الغائرة بالعويل تطيب.

كانت اللحظة التي شُلت أطرافه هي الغُرة لكل ما ستؤول إليه الحال .. وكأن عقله تحالف معها ضده فأسدل ستارًا وهميًا يحجب عنه التفكير .. وثمة شعور مبهم يكتنفه كقبضةٍ قويةٍ تعتصر قلبه بقسوةٍ تكاد تُزهق روحه.
لم تسقط ابتسامتها طوال فترة صمته المصعوق .. فقط مالت زاوية شفتيها بتعبيرٍ هادئٍ لم يفهمه ..
وعيناها .. ذلك الحزن الدفين الذي يسكنهما مُظللًا بمرارته أسفل جفنيها ..
رنت إليه بإنهاك ذبيحٍ قرر الاستسلام لقدره المحتوم .. تتطلع به دون مفاجأة وكأنها كانت تتوقع قدوم تلك المواجهة عاجلًا أم آجلًا ..
في حين فرت الكلمات هاربةً عن رأسه، وسرت رجفة برودة في أوصاله .. نطق لسانه بعد صمتٍ طويل بهمسة مذهولة كمن يستنكر حماقته :
_إيزمي!
تبعها بكلمة لم يستطع إيجاد أخرى تصاحبها في خروجها بصوتٍ مهزوم :
_لماذا؟
تشكلت ملامحها بتساؤلٍ زائف، بينما ترد بهدوء تُحسد عليه :
_عمَّ تتساءل بالضبط؟ لماذا إيزمي؟ أم لماذا أخفيتُ عنك الأمر منذ البداية؟
والتوى فمها بتهكمٍ مرير وهي تكمل بعربيةٍ طليقة كسائر حديثها منذ البداية :
_أم لعلك تقصد لماذا قتلتُ ضحى؟
جرت الكلمات القاطعة على لسانه بعدم تصديق :
_لم تفعلي.
تغضن جبينها بقسوة غير مبررة هاتفة بنبرةٍ خرجت مهتزة رغمًا عنها :
_وما أدراك؟ لقد كنتُ ظلًا لظلها ولم ترَني .. بل وصدقتَ قبل الجميع أنني من فعلتها ورُحت تتشدق بإدانتي أمام صديقةٍ أجنبية لا تعرف لها أصلًا .. فلمَ تجزم بطُهر يديَّ الآن؟
صمتت لوهلة قبل أن يتشبع صوتها بالاستهجان مُردفة بجملةٍ متكررة مقتتها :
_مسكينة ضحى .. نالت نهايتها على يد من وثقت بها وسكنت منزلها قريرة العينين!
وكأن تفاصيل ذلك اليوم تمر أمامها بخبث كريه، فتعالت أنفاسها بانفعال هاتفة بقهر :
_عمن تتحدثون؟ ضحى تلك حين جارت عليها الدنيا لم تجد سواي لترتمي بحضنه!
غلالة من العبرات غُزلت ككسوة لامعة تغشى مقلتيها .. سرعان ما تكاثفت بين جفنيها المتسعين .. بينما رد هو بلسانٍ لا يدري لمَ بات ثقيلًا :
_أنا أتحدث عنكِ.. عن نِبراس.
ازداد اتساع عينيها على دمعاتٍ متحجرة تعكس هيئته قِبالها في حين ردت بنبرة نافرة ضاغطة على كل كلمةٍ كمن تنقشها في عقله بآلة حادة :
_لا وجود لنبراس .. إيزمي هي الحاضر، بلا ماضي.
رد مجابهًا بصلابة :
_إيزمي ما هي إلا قناع يطمس حقيقة نبراس.
تحركت رأسها تنفي بتكرارٍ مع كل كلمة .. تشهق وتزفر بتعب من نفذت طاقته حتى عن الشرح والتبرير .. من يرى في تسليم رقبته ما هو أهون من الدفاع عن النفس بفض خزانة الذكريات .. وكأن كليهما له نفس النتيجة .. كلاهما ينحر بسكينٍ ثلم!
يظن أن إيزمي ستارًا يواري هويةً صادقة لفتاةٍ هشة آثرت الهروب عوضًا عن المواجهة، تُدعى نبراس..
لا يعرف أن إيزمي هي نموذج كسير تحوَّر عن فُتاتٍ من رمادِ نبراس .. تلك التي اقتات عليها الأسى رويدًا رويدًا .. حتى أفناها.
دنت منه خطوة بطيئة بخمودٍ مفاجئ .. لتقول بخفوت مُعيدة على مسامعه جملة قالها ذات مرة ولم تمر على كليهما مرور الكرام :
_هل حقًا قُتل قلبك ليلة وفاة ضحى يا فريد؟
تحررت دمعة واحدة .. تبعتها أخريات بينما تنطق بصوتٍ مرتجف :
_إذًا فأنت لم تجرب أن تقف مكتوف اليدين .. أن تشعر بقبضة تعتصر قلبك بقوةٍ لا تُحتمل إلى أن يتهتك متمزقًا إلى أشلاء .. عديم الحيلة بينما روحك تتركك مصعوقة، تهرول مفترشة الهواء لتعانقها كي لا تسقط ..
غصة مؤلمة اجتاحت حلقها مُجبرة إياها على التوقف .. فصمت لوهلة تزدرد ريقها بصعوبة، قبل أن تطرق برأسها مستطردة بيأس مرير :
_أن تحاول اللحاق بها قافزًا، لعلك تسابق الزمن وتفديها بروحك .. لكنك تفشل .. وتتسمر بمكانك في لحظةٍ كُتب لها أن تظل مُخلدة في رأسك كأبشع مشهد في حياتك!
جلست على طرف فراشها ساهمة بكتفين متهدلين كعجوزٍ سأمت من فرط الهموم .. وعم صمت خشي كسره مناظرًا إياها بذهول وقد تغضن جبينه بألم .. إلى أن تكلمت بعد برهة كمن تحدث نفسها بحسرة :
_حين رحل الجميع لم يبقَ سوانا .... لم أكن أعلم أن الدنيا ستستكثرها عليَّ.
رفعت رأسها إليه بنظرة معاتبة تحمل في طياتها من القهر أنهارًا :
_كيف جرؤتم؟ بحق الله لقد هربت كي لا أنبش قبرها لأرجوها أن تعود إليَّ ... لا نبراس دون ضحى.. لقد ماتت كلتاهما في تلك الليلة.

هان الودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن