الفصل السابع عشر

276 10 0
                                    

التغافل حماقة عظمى
قد يكون التدارك بعدها ضربًا من الجحيم.

_تشاد لم يعد حتى الآن، هاتفت المدرسة فقالوا أن جميع الطلبة غادروا منذ ساعة .. أين ابني؟
تناقلا النظرات بينهما بذعر إثر جملة يولاند الجزعة، قبل أن تنطلق إيزمي عائدة إلى غرفتها لتلتقط معطفًا ثقيلًا ومظلة في نية للخروج بحثًا عن صديقها الصغير، بينما سحب فريد مظلته من فوق الأريكة الخارجية بالمنزل حيث وضعها عند دخوله وهو يقول محاولًا طمأنتها :
_سيكون بخير إن شاء الله، لا تقلقي، سنذهب للبحث عنه حالًا.
ظلت تومئ برأسها دون رد بينما بدا عقلها مشتتًا لا تعرف ما عليها فعله، فقالت فجأة وهي تستدير بعجالة :
_سآخذ سترتي وآتي معكما.
أوقفها فريد سريعًا وهو ينزل الدرجات بالفعل بصحبة إيزمي :
_لا، ابقي أنتِ هنا حتى إذا ما عاد ونحن بالخارج.
تبعتهما إلى بوابة العقار بلا حيلة وهي تجوب بعينيها الطريق بأكمله مربتة براحة يدها فوق قلبها .. تمشط بعينيها ملامح الرائح والغادي، علها تجد بينهم ملامح صغيرة محببة تشببها كثيرًا.
لمعت عينيها بعبرات من فرط القلق وهي تهتف من خلفهما :
_سأتابعكما على الهاتف.

هرولا بتعثر في ذلك الطريق المكسي بالثلوج .. فالتفت لها سائلًا بجدية ربما هي الأولى من نوعها بينهما :
_ ما هي وجهتك؟ هذا ليس طريق المدرسة!
أسرعت في مشيها بحاجبين مقطبين وهي تجيب باقتضاب :
_أعرف أين سأجده.
توقفت عند مكان ما بدا في هيئته كمتجر لشراء أو استئجار الدراجات الهوائية، فألقت تحية سريعة قبل أن تسأل بالفرنسية :
_تشاد بواتييه، هل أتى إلى هنا؟
أومأ الرجل برأسه متعرفًا على الاسم وهو يجيب بكلماتٍ لم تنصت لأي منها وهي تشكره معاودة إدبارها وقد ارتخت ملامح وجهها بعض الشيء رغم سيطرة الصرامة عليها.
همهمت لنفسها بصوت مسموع بينما تضرب الأرض بحذاءها بقوة وهي تسير مسرعة في ذلك الطريق الممهد بعض الشيء :
_مجددًا.. فعلها مجددًا وأنا التي حذرته مرارًا ألا يكررها ...كن بخير فقط وحسابك معي فيما بعد يا تشاد.
لم يقاطعها أو يستفسر .. لقد خمن الخطوط العريضة للأمر برمته لكن الصورة لازالت منقوصة.
ليس الوقت المناسب لهذا التشبيه.. لكن جملتها حملت مزيجًا من الحزم والحنان، رغمًا عنه ذكراه بأمه!
يعرف جيدًا علاقتها القوية بتشاد وكأنها شقيقته الكبرى..
أمٌ ثانية!
أو شيء من هذا القبيل..
لذا لم يشأ الضغط على أعصابها المتوترة أساسًا بالسؤال، لا سيما وقد جعدت راحة يدها اليمنى جانب معطفها الثقيل، بينما ازدادت عينيها الحمراوين همًا وأوشكت الدماء على مغادرة وجهها تمامًا تاركة إياه للشحوب ليمارس عليه سطوته..

وصلا إلى مكان ما، فسارت الهوينا تجوبه بعينيها بتركيز، إلى أن صاح فريد من خلفها فجأة :
_إنه هناك!
التفتت لإشارته بلهفة، ثم ركضت سريعًا إلى حيث أشار وهي تهتف عاليًا :
_تشاد!
كان متكورًا على نفسه كالجنين ..يحتضن نفسه متلفتًا حوله بخوف يحاول مواراته، يختبئ من الأمطار والثلوج خلف إحدى البنايات وقد بدا كمن يكبح عبراتٍ طفولية خلف قناع شجاعة واهية، لم يلبث أن ينجلي وهو يهرع إليها باكيًا بمجرد أن استمع إلى صوتها..
في ثانية كانت تتمايز غضبًا منه، وفي الأخرى كانت تجثو على ركبتيها تضمه براحة بالغة .. تمسد على ظهره بحنو، بينما لسانها يردد الشكر إلى الله همسًا، قبل أن ينطق معاتبًا :
_لن أسامحك أبدًا.
انفجر الصغير في البكاء وهو يحكي متعثرًا بفعل شهقاته :
_لقد استأجرت دراجة مع أصدقائي لنلعب في مكاننا المعتاد، لكن الجو انقلب فجأة وعاد كل منهم سريعًا إلى منزله.. وأنا دراجتي علقت!
أكمل بنشيج مشددًا من تطويقه لعنقها :
_تشوشت رؤيتي في هذا الجو، فاصطدمت بالشجرة وسقطت.. حتى ساقي جُرحت.
ابتعد فريد عن المشهد متأثرًا ليخلص الدراجة من جذع الشجرة القصيرة بعد أن كاد الثلج أن يطمسها.. فيما تنهدت بعاطفة غلبت صرامتها وهي تربت على رأس الصغير قائلة :
_ألم أحذرك من قيادة الدراجات الهوائية دون إذن منا خاصةً بعد المدرسة؟
ابتعد تشاد قليلًا مطرقًا برأسه بذنب مجيبًا :
_بلى، أنا آسف.
حدجته بلوم رغم لين نظراتها وهي ترد :
_سامحك الله يا تشاد.
اقتحم فريد الكادر أخيرًا محاولًا كسر عاطفية المشهد مازحًا :
_أظن أننا بحاجة لتهويل الأمر أمام والدتك حتى لا تقتلك حين تعرف بما فعلت.
ابتسم تشاد لمزحته، بينما ارتسم الإرهاق جليًا على ملامح إيزمي وهي تقول بهدوء محدثة الصغير :
_هيا لنعود قبل أن تمرض.

بعد قليل ..
سار فريد بجوار إيزمي يتوسطهما تشاد بعدما أعادا الدراجة إلى المتجر ..
هدأت الرياح بعض الشيء، وخبا جنون الأمطار فبقت السماء تنثر رذاذًا لطيفًا في الأجواء .. أغلق فريد مظلته مستمتعًا بدغدغة كرات الثلج، بينما بقت إيزمي ممسكة بمظلتها التي يحظى تشاد بالجزء الأكبر منها.. حين قالت بامتنان :
_شكرًا لك.
التفت إليها متجاهلًا جملتها، ثم رد بتساؤل مغيرًا دفة الحوار :
_أخشى أن أكون متطفلًا بسؤالي لكن .. أين والد تشاد؟
ابتسمت إيزمي بتهكم من تلك الجملة الرسمية التي ألقاها في المقدمة، ثم أجابت ماسحة على رأس تشاد الذي لا يفهم من حديثهما شيئًا :
_لا أحد يعرف.. خالتي يولاند تزوجت من شخص عربي الأصل، ومع حملها اضطر لإخبار أهله الذين كما توقع رفضوا جميعًا أن ينجب من أجنبية لا علم لهم بماضيها أو تاريخها وقد ظن الجميع أن كونها أجنبية أسقط عنها صفة الأخلاق والأصول تمامًا .. فرفض الاعتراف به، وطلقها .. حتى أخذ تشاد لقب عائلة أمه، ولم يعرف أحد شيئًا عن أبيه منذ وقتها.
تغضن جبين فريد برفض وهو يقول متعجبًا :
_لهذا كانت رؤيتك عن العرب متحجرة عند رؤيتي!
أومأت برأسها بصراحة مجيبة :
_نعم، ولكن ليس تمامًا.. عائلة أمي كلها تأثرت بالأمر، خاصةً وأن خالتي الكبرى كان قد حدث معها أمر مشابه قبل سنوات كُثر .. وكأن هناك لعنة ما قد أطلقها العرب فوق عائلتنا .. ومع رفضهم لتقاليد العرب، شنوا تقاليد مشابهة في إطار الأسرة بنبذ كل فرد عربي قد يطأها .. دعمت أفراد الأسرة كافة هذا الأمر، إلا أمي وخالتي _صاحبة الشأن بذاتها_ حتى أنها مازالت تلتمس العذر إلى طليقها حتى الآن!
لم يفقد تعجبه لمنطق عائلتهم العجيب .. وهم بسؤالها مجددًا بفضول، لكن هتاف يولاند العالي عند وصولهم منعه ..
فقد أسرعت إلى طفلها تحتضنه بلهفة، قبل أن تبتعد موبخة إياه بحدة متوقعة تؤنبه على فعلته الطائشة..
ورغم الإرهاق البادي بوضوح على صفحة وجهها، التفتت إيزمي إليه قائلة باختناق :
_لا أريد الصعود إلى المنزل الآن، أشعر به بات كئيبًا ..
~~~
وضع الكوب فوق الطاولة التي تجاوره إلى جلسته الساكنة .. يده أسفل صدغه بتململ بينما شفتيه تمددتا امتعاضًا منذ وقت، إلى أن نطق أخيرًا بنفاذ صبر :
_هل أتيت إلى هنا لتسمعني صمتك؟
ارتشف خطاب من كوب الشاي الخاص به بهدوء وهو يرد بتنهيدة :
_لا أعرف ماذا أفعل يا حمزة.
وضع الكوب على الطاولة ملتفتًا كليًا إلى صديقه ليكمل معددًا فوق أصابعه :
_طلب يد وطلبت، تلميحات ولمحت، رسائل وأرسلت، اهتماماتٍ وذاكرت، حتى أنني ذهبت إلى أماكن تمارينها كافة مصطنعًا الصدف السخيفة.. لكن دون جدوى، وكأنها لا تراني وليست على علم بما أريد!
أومأ حمزة برأسه متفهمًا وهو يفكر للحظات، ثم قال مقترحًا بعقلانية :
_وهل أنت على علم بما تريد هي؟ ربما هذا ليس هو الأسلوب المناسب للتعامل معها!
رد خطاب مغتاظًا وهو يعود ليرفع الكوب ضاغطًا حوله براحتيه :
_وكيف سأعرف وهي لا يزيد حديثها معي عن دقيقتين ثم تتجاهلني كما لو كنت غير موجود؟
نظر له حمزة مشفقًا لثوانٍ، إلا أنه لم يلبث أن اتسعت عيناه بتذكر قائلًا :
_ألم يخبرك هاشم أنه سيوصل لك قرارها النهائي بعد عودته؟ أي بعد ساعاتٍ من الآن ستعرف علامَ سيرسو الأمر معها، إذًا لمَ كل هذا التفكير؟ أم أنك .. تريد تعزيز صورتك أمامها؟
رمقه خطاب بسخرية مريرة ارتسم على إثرها ابتسامة لم تصل إلى عينيه ..
هكذا هو صديقه .. مُراعٍ في الكلام والتعبير حتى لا يخدش شعوره دون قصد .. لم يشأ أن ينطقها صريحةً أنه "يخشى الرفض" !
قال محاولًا تغيير مجرى الموضوع :
_لا عليك، بالمناسبة، لا تخبر هاشم بما حدث في العمل بالأمس.
تجهم وجه حمزة مومئًا برأسه، وكاد يرد مجاريًا حديثه وهو يلاحظ تهربه من الإجابة، حين وصلتهما صيحة عالية من الخارج ..
"حمـــــــــــــــــــزة!"
التفتا تجاه الباب بخضة، فقال حمزة متداركًا الأمر بحرج :
_هذه ابتسام شقيقتي، هذا موعد مذاكرتها مع الأولاد.
أومأ خطاب برأسه متفهمًا، بينما جاء صوتها من الغرفة المجاورة مجددًا بحنق واضح
"ركز يا حيوان ولا تجعلني أرفع صوتي، خالك معه ضيف!"
كتم خطاب ضحكته، بينما مسح حمزة وجهه براحة يده مغمغمًا بيأس ساخر "أكثر الله من خيركِ والله.."
عاد حمزة برأسه إلى خطاب قائلًا :
_المهم، لقد قررت أنا أيضًا أن أبادر بأخذ خطوة وأتقدم لخطبة شقيقتها.
اتسعت عينا خطاب بمفاجأة ليصيح بغتة كادت أن تنسكب بسببها محتويات كوبه :
_كنت أشعر، والله كنت أشعر أنه بعد أن أُغلق باب المكتب عليكما لن ينتهي الأمر إلا بإغلاق باب منزل الزوجية.
أوقفه حمزة ناهرًا بجدية :
_إياك وترديد هذه العبارات التي تحمل أكثر من معنى، ستدمر سمعتنا تمامًا!
قهقه بصخب متحمسًا لتبعات الأمر وهو يتناسى مؤقتًا ما يخصه، فقال خطاب بفرح لا زالت تشوبه الدهشة :
_بعد كل هذه السنوات أخيرًا ستفعلها! هذه من كنت تشكك في قدراتها في البداية وتتهمها بالاتكالية والتأثير السلبي على العمل؟ لقد أثرت إيجابيًا على العمل وعليك!
لا يعرف لمَ شعر بالحرج وقد تسللت إليه بوادر انزعاج صبياني، فمد يده ساحبًا الكوب من صديقه وهو يقول بفظاظة :
_شرفتني يا خطاب، طريقك أخضر.
ضحك خطاب باستفزاز وهو يلعب حاجبيه معقبًا :
_بل طريقي أشقر، أما أنت .. فطريقك محجوب!

ألقاه حمزة بسبة وهو يهم بقذفه بالكوب الزجاجي الذي بيده، بينما نهض خطاب متخذًا طريقه إلى الخارج وهو يدندن ببرود ونشاز  ..
_فحبيبةُ قلبِك يا ولدي نائمةٌ في قصرٍ مرصود
من يدخل حجرتها .. من يطلب يدها
من يدنو من سور حديقتها
من حاول فك ضفائرها
يا ولدي مفقودٌ مفقودٌ مفقود

~~~
ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان
وستسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن
وتجوب بحارًا وبحارًا، وتفيض دموعك أنهارًا
وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجارًا أشجارًا
وسترجع يومًا يا ولدي مهزومًا مكسور الوجدان

أسدل الليل ستائره .. وافترشت النجوم كسوة السماء.. فباتت كلوحة فنية يطالعانها من استلقائهما الهادئ متلحفين بمعطفيهما الثقيلين على أرضية الحديقة.. فأشارت إليه دون أن تلتفت قائلة :
_أغلقها يا فريد، لا أحب الأغاني الحزينة.
نفذ فريد وهو يرد بامتعاض :
_حقًا؟ ظننتنا في ميتم بهذا الصمت المطبق.
زفرت وهي تلتفت إليه برأسها قائلة كمن تهاود طفلًا :
_فيمَ تريد أن نتحدث؟ هل نلعب لعبة؟
التفت إليها بعينيه باهتمام سائلًا :
_أية لعبة؟
أعادت رأسها إلى الأمام متأملة زرقة السماء وهي تجيب :
_بما أننا نطل على هذا المنظر الرائع، فلمَ لا نشي بأسئلة وجودية وردت كثيرًا إلى رؤوسنا إلى هذه النجوم؟ لتصعد وتبقى متعلقة في السماء بجوارها دون إجابة!
أعجبته الفكرة رغم غرابتها، لكن الأمر يبدو مسليًا .. لذا قال بصبيانية :
_حسنًا، ولكن ابدئي أنتِ كي أفهمها جيدًا.
ابتسمت وصمتت لوهلة مفكرة .. إلى أن قالت بتساؤل حقيقي خالٍ من القنوط
مطالعة النجوم بشجن :
_لمَ كُتب علينا كل هذا الحزن؟
شردت عيناه متأثرًا .. وأعقبها بتساؤل مشابه وإن ازدادت به درجة الفضول :
_إلى أي مدى صبرنا؟ وإلى أي مدى سنصبر؟ وترى هل حقًا سنسعد بعوضٍ ينسينا جل ما ألمَّ بنا من حُرقة!
ضحكت بخفة لتساؤلاته المتتابعة .. فضوله وتطلعه للقادم رغم سوء الحاضر يبدو واضحًا لكفيف!
عادت لتتحدث بدورها .. تسرد عليه تساؤلاتٍ ويردها بأخرى .. ولم يلحظ أحدهما أنهما يتحدثان بصيغة تربطهما دون وعي ..
إلى أن رمى بسؤال مباغت ملتفتًا إليها هذه المرة :
_الجو صقيع وأرواحنا باردة .. إذًا من أين يأتي هذا الدفء؟
استدارت برأسها إليه مجفلة .. تستدل من سؤاله على آخر غادر من رأسها راسيًا في أذنيه دون تفكير..
_من بين كل ما زرته من بلاد وعايشته من أسى .. لمَ قابلتك هنا؟ لمَ الآن؟
خيم الصمت للحظات مسلمًا دفة الحوار إلى المُقل ..حوار منهك .. خفيف على صاحبيه رغم ثقل دواخلهما التي تتبارز بضراوة ..
لكن مقلتيها هما أول من تهربا بارتباك معيدة نظرها إلى السماء وهي تقول محيدة عن أساس اللعبة :
_لسنا قانطين، ولم نيأس أبدًا.. لكني صدقًا أتوق فضولًا لمعرفة ما سيحدث حتى وإن كان أسوأ مما نحن عليه .. أريد إجابات لأسئلة معلقة كالشوكة في خصري ولا أتعجل .. أبدًا لا أتعجل..
أردفت بعينين لامعتين :
_أعرف حكمة ربي في كل شيء وأنتظر وضوحها أمامي على مهل .. أنتظر إجابات على أسئلة عدة.. علامَ سأرسو؟ هل يعقل أن كل ما حدث هو تمهيد لشيء عظيم؟
استطردت بغصة :
_لمَ ماتت انيجيل؟
التفتت إليه مجددًا قائلة كمن تطمئن أنها ليست مبالغة :
_ألم تتساءل يومًا لمَ ماتت ضحى؟
ارتعشت عضلة فكه محاولًا إيقاف عقله عن استعادة تلك الأيام الأولى التي قضاها بعد معرفته بالخبر..
صدقًا لمَ ماتت ضحى؟
إنها لم تكن سوى نسمة رقيقة عبرت في حياة كل من عرفها!
لمَ ماتت ضحى؟
تنهد وقد اشتد فمه بابتسامة متشنجة ليجيب :
_تساءلت.. وهل أملك سوى التساؤل؟
خاصةً حين تعلمين أن الأمر لم يكن بشكل طبيعي .. وقتها تنشب النار بكافة جوانبك .. لا تخمد ولا تهدأ، تنقلك من حيرة إلى أخرى .. وكلما دُرتِ تعودين إلى نفس السؤال .."لماذا؟"
قطبت حاجبيها بريبة وهي تناظره مستفهمة :
_ماذا تقصد؟
رمقها بطرف عينه صامتًا للحظات .. ثم رد بنبرة جافة :
_ضحى قُتلت يا إيزمي.
شهقت بجزع وهي تناظره مبهوتة .. وكأن خلاياها شُلت فلم تستطع النطق إلا بعد برهة هامسة بذهول :
_ومن الفاعل؟
حرك كتفيه بحيرة شديدة وهو يجيب :
_لم تُثبت التهمة على أحدٍ حتى الآن .. لكن بعض روايات المقربين مع شهادة حارس العقار تشي بأن هناك مشكوك به واحد فقط ..حيث لم يكن هناك بالمنزل سواها، وابنة عمها!
ازدادت ملامحها صدمةً وذهولًا.. فأكمل بتهكم مرير :
_الجدير بالذكر أن ابنة عمها كان بمثابة شقيقة أخرى لها، لا تفتر عن الحديث عنها!
شحب وجهها وغارت عينيها .. بينما ردد لسانها بتيه من مدى بشاعة الأمر :
_كيف يمكن لقلبٍ أن يقسو على من قلده وسام الثقة دون تردد؟ كيف تدنس الآثام البشر!
حرك رأسه متحسرًا بلا حيلة .. قبل أن يقول بركود :
_أرأيتِ أن حزن الأغاني أهون بملايين المرات من مأساة الواقع؟
عادت عيناها تطالعان السماء بشرود قاتم .. بينما ضغط فريد على إحدى الأيقونات بهاتفه، ليعود صوت العندليب يصدح من جديد بتحسر أقل وطأً من حسرة الواقع!


وستعرف بعد رحيل العمر
بأنك كنت تطارد خيط دخان
فحبيبةُ قلبك ليس لها أرض أو وطن أو عنوان
ما أصعب أن تهوى امرأةً يا ولدي ليس لها عنوان

~~~
****
_تشبهك!
ضيقت عينيها بعدم فهمت معقبة :
_من التي تشبهني؟
رد هاشم ببديهية :
_الفتاة الجديدة!
اتسعت عينيها بدهشة لتكرر بعدم تصديق :
_ضحى تشبهني أنا؟ من أي اتجاه بالله عليك؟ نحن لسنا متشابهتين في الشكل أو حتى في الشخصية!
أجاب بلهجة فلسفية تكسبه بعض الجدية التي تليق به رغم عدم تمسكه بها آنذاك :
_بل تشبهك كثيرًا في الشجاعة والاندفاع، المرح والشهامة، والفرق بينكما واحد، لكنه جوهري .. ضحى خجولة بشدة لكنها لا تتوانى في إبداء رأيها بودٍ وصدق.. تتحدث بكل وضوح ما دام كلامها سيكون ذو تأثير إيجابي على المتلقي..
ارتفع حاجبا جود من صحة كلماته، فعقبت بتهكم :
_هل حللت شخصيتها بهذه الدقة في لقاءاتكما المعدودة حتى الآن؟
ارتسمت ابتسامة سمجة على وجهه إثر جملتها وهو يشير إليها بكفه مستطردًا :
_وهذه هي أنتِ .. لا تتوانين عن قذف الحجارة من فمك وتخجلين من قول الكلام الإيجابي أصلًا .. لكنكِ تعبرين عن حبك أو شعورك الخاص تجاه أي شخص بالمواقف.
تسمرت مكانها شاعرة بالإهانة .. فقالت بصدمة من رأيه فيها :
_أنا أقذف الحجارة من فمي ولا أقول كلامًا إيجابيًا؟
ضحك هاشم باستفزاز موضحًا :
_ما قصدته أنك مندفعة وصريحة في كل الأمور حتى يتعلق الأمر بشعورك الخاص.. أو موقف يتطلب الرد عليه كلامًا لطيفًا.. حينها يتعطل موتور الاندفاع ويعمل قاذف الحجارة بكفاءة!
تخصرت في وقفتها أمامه في تلك الجلسة البعيدة بعض الشيء عن زحام الجامعة، ثم ردت ساخرة من توضيحه الذي فاق الكلام سوءً :
_أخشى أنك تحاول أن تكحلها، فأنت بالفعل تعميها.
ضرب بيده فوق جبهته قائلًا بنفاذ صبر :
_كفى غباءً يا غزال فأنا لا أقصد ذمك!
اتسعت عيناها غيظًا وهي تصيح :
_ماذا كنت ستقول إن كنت تقصد إذًا؟
تبلدتا عيناه وهو يقول ببرود مصطنعًا الغرور :
_اخفضي صوتك وتحدثي بأسلوب أفضل من هذا مع شاب وسيم مثلي، يكفي أنني قبلت جلوسك معي حتى موعد محاضرتي التالية.
انطلقت ضحكة متهكمة من فمها معلقة :
_أولًا أنا لست جالسة لأجلك أنا فقط أنتظر موعد محاضرتي .. ثم ماذا؟؟ وسيم!
أومأ برأسه مؤكدًا في حين حضرت ضحى تحمل شطيرة ابتاعتها للتو من مطعم الكلية، فسألت الأخيرة بفضول اقترن بابتسامة صغيرة على شفتيها :
_عمَّ تتحدثان؟
التفت إليها هاشم يسبق جود التي همت أن تنطق :
_ألستُ وسيمًا يا ضحى؟
توردت وجنتيها بارتباك _رغم ابتسامتها التي لم تزل_ لا تفهم سببًا للسؤال، لكنها على أية حال حركت كتفيها ببساطة مجيبة :
_بلى، لماذا؟
التفت هاشم إلى جود التي تطالعه موبخة صائحًا بانتصار :
_أرأيتِ؟
هتفت الثانية بحنق طفولي رافضة اثبات صحة رأيه الفظ بها :
_هذا ليس عدلًا، تلك لم تكن صيغة سؤالي من الأساس!
تحركت ضحى لتجلس على مقعد قريب متابعة ما يدور بتسلية، فيما نهض هاشم مقتربًا من وقفة جود كابحًا ابتسامته وهو يسألها مسبل الجفنين باصطناع مكشوف :
_إذًا، هل أنا وسيم يا غزال؟
أجفلت بارتباك أبت إلا أن تبتره بردٍ مجحف وهي تضيق عينيها باستفزاز :
_لا.
ثم استدارت مغادرة بخطوات غاضبة وصوته المندهش يصلها هاتفًا :
_إلى أين؟
لم تجب جود وهي تسرع تاركة المكان بأكمله، بينما قالت ضحى أثناء مرورها من جواره لتلحق بصديقتها :
_يبدو أن كلامك أزعجها.
مسد عنقه نادمًا وهو يسأل :
_إنها تغادر، أليس لديكما محاضرة أخرى؟
نظرت له بهدوء لترد قبل أن تبتعد :
_لا، لقد انتهت محاضرات اليوم.
ثم أسرعت في طريقها، بينما ازداد ذهوله ناظرًا في إثرهما وهو يضرب كفًا بكف، قبل أن يكبح ضحكته لاحقًا بمن فرت غاضبة من فظاظة كلماته..
****
تلك كانت حواراتهما الجادة .. سوء فهم وحنق كارثي يقلب الأمر مهما كانت بساطته رأسًا على عقب..
كانت كلماته رغم كونها مازحة .. تجرحها!
وكانت كلماتها رغم خشونتها واندفاعها .. تطربه تارة .. وتذبحه تارة!
عمر صداقتهما لم يكن طويًلا، لكنهما كانا كمن وُلدا في بناية واحدة لعائلة مترابطة..
تشاركا كل شيء .. المرح، واللعب، والمذاكرة، والطعام .. حتى ضحكاتهما باتت ذات نغمة واحدة.
خرج من شروده حينما وصل إلى غرفة مكتبها .. إنها المرة الأولى التي سيقابلها فيها بعد عودتهما من السفر منذ يومين .. تحديدًا بعد أن ظلت تعامله بتحفز رافضة حتى أن يساعدها لتهدأ عند إقلاع الطائرة .. يبدو أنها تلقنت درسًا بعدما أعطت له حرية التصرف في المرة الأولى.

ارتسمت ابتسامة عملية على وجه داليا وهي ترحب به قائلة :
_أهلًا بك يا سيد هاشم، الآنسة جود في انتظارك.
أنهت جملتها بإشارة من كفها تجاه باب المكتب سامحة له بالدخول ..
دلف ثم أغلق الباب من خلفه .. تقدم حتى اقترب من مكتبها، لكنه عدل عنه متجهًا إلى الأريكة الجلدية المقابلة إليه في نهاية الغرفة، ثم جلس بهدوء شديد .. نظر إليها بعينيه الناعستين مبادرًا بالحديث :
_كيف حالك يا جود؟

"لا تدعيه ينجح في استفزازك يا جود." همست بها بداخلها وهي تتحرك بهدوء ظاهري لتقف أمام مكتبها مستندة إليه بظهرها متكتفة بثقة .. ثم ردت دون أن يرف لها جفن :
_بخير .. وأراك أيضًا بحالٍ جيدة، لذا دعنا ندخل مباشرةً فيما طلبت منك الحضور لأجله.
أومأ برأسه ببطء مع كلماتها مشيرًا بيده لها كي تبدأ .. فسحبت نفسًا عميقًا لتقول بثبات تتمسك به بصعوبة :
_متى سننفصل؟
عقد حاجبيه بتعجب زائف وهو يجيب بعد لحظات مدعيًا عدم الفهم :
_هذه أمور نسبية لا يُمكن إلقاء الأسئلة الوجودية بها، كما لو كنتِ تسألين شخصًا ما "متى ستموت؟" مثلًا!
كزت على أسنانها بغيظ حاولت عدم إظهاره، وهي ترد محتفظة بثبات نبرتها :
_هذا إن كان زواجنا طبيعيًا، ليس لأجل رحلة عمل انتهت منذ يومين.. لقد اتفقنا مسبقًا.
مال قليلًا إلى الأمام مرتكزًا بكوعيه إلى فخذيه بينما يرد ببرود ظاهري يخفي بين طياته قلقًا طفيفًا يتسلل إليه بخبث :
_إن كانت نيتك هي الانفصال بعد العودة من السفر فعلًا فهذا الزواج باطل من أساسه ولا نحتاج إلى طلاق.. هل كانت نيتك هي الانفصال يا جود؟ هل مضيتِ على عقد الزواج مُكرهة ومضطرة تُمنين نفسك بطلاقٍ قريب؟
بُهتت جود .. بُهتت وهي تطالعه بنظرات مصدومة من سؤاله المباغت..
تشعر بأنها مُحاصرة..
إن أجابت مؤكدة سيكون زواجهما باطلًا كما قال .. وإن أجابت نافية ستُدان بنفيها!
ما حجتها؟ وماذا يحيك؟ ما الداعي لكل هذا؟ لمَ لا يلقي بوجهها يمينًا يحررها منه دون أن ينظر خلفه مجددًا!
استفزها الأمر برمته، فقررت الهروب من الإجابة متخذة أسلوبها المفضل .. الهجوم، لذا فقد هتفت محررة ذراعيها من عقدتهما :
_إلامَ تريد الوصول بالضبط؟ لمَ لا تطلقني دون الكثير من الأسئلة عديمة الفائدة؟
لم يجب.. ظل ثابتًا على وضعه إلا من ابتسامة جانبية شقت الطريق إلى زاوية شفتيه مُعتمدًا إجابة لم تنطقها لسؤاله..
شبك كفيه أسفل ذقنه وهو يجيب بابتسامة غريبة اتسعت لتشمل وجهه :
_لأنني لن أطلقك يا جود.
انكمشت معدتها بقوة .. وسرى بأوردتها القلق ممتزجًا بشعورٍ غبي نبذته وهي تهتف بتشنج :
_هل ستظل زوجي رغمًا عني يا هاشم؟
قست نظراته الضيقة مناظرًا إياها بتحدٍ واثق .. ثم هتف بجمود :
_أنا لم أجبركِ على شيء يا جود .. كل ما حدث لم تُبدي به أي اعتراض جاد .. إن كنتِ لا ترغبين بالزيجة لما وافقتِ وإن هُدمت الشركة فوق رؤوسنا جميعًا ... يا مُضحية!
أنهى كلماته بتهكم صريح ألجمها ..
إحساس بالإهانة والخزي اعتراها مدركة قدرته على تعرية روحها بسهولة كاشفًا القشرة الصلبة التي غفلت دومًا عن كونها أمامه.. شفافة!
استدارت حول مكتبها بغضب عارم لا تعرف كيف ترد، لتستقر خلفه هاتفة بعينين متقدتين :
_الآن تلومني لأنني وثقت بك! مجددًا! مجددًا تخذلني مرتديًا قناع البراءة.. أنا المخطئة منذ البداية .. لك كل الحق في غرورك وثقتك، فأنا الغبية التي صدقتك ثانيةً!
استقام واقفًا .. ثم سار تجاهها ببطء، بينما طغت قسوة كلماته على إدراكها باقترابه الوشيك منها :
_نعم، أنتِ غبية يا جود .. وستصبحين أغبى إن اعتقدتِني سأتراجع بعد كلماتكِ الهجومية التي تتوارين خلفها .. حربك خاسرة ما دمتِ تتحصنين بلسانك.
تسارعت ضربات قلبها بتحفز وهي تتراجع مُرغمة أمام تقدمه تجاهها .. تكاد تتفتت غيظًا بينما عاد هو لهدوئه مستقرًا قبالتها .. حين أدركت أنه زرع المكتب بطوله إلى أن حاصرها عند الحائط خلف مكتبها ببضعة إنشات .. يفرض سيطرته على الموقف قولًا وفعلًا .. ورغم قوامها الفاره، إلا أن طلته عليها من علوٍ بسيط مهيبة!
اضطربت أنفاسها المتعالية باهتياج، مقتت الموقف برمته وهي تحدق به بسخط شديد.. لا سيما حين سحب كفيها برفق بين راحتيه مردفًا بنبرة خافتة تناسب مستوى تقاربهما :
_دائمًا ما كنتُ بجانبكِ .. أخذت بيديكِ .. وساعدتكِ دون انتظار مقابل .. كما أنا دومًا، وكما تعرفين تمام المعرفة أن كلامك عني ليس صحيحًا.
شابك أصابع كفيها المتشنجين معًا بهدوء مماثل لكلماته أمام عينيها المسمرتين على صفحة وجهه بانفعال مكتوم بصعوبة .. وكأنها تنتظر أن يفرغ ما بجعبته حتى تنفجر صائحة فيه وإن لم تجد ما تعبر به من كلمات..
_أما بالنسبة إلى إرغامكِ على الاستمرار في الزواج .. فالإجبار والإرغام لم يكونا أبدًا من أساليبي .. هذه تهمة غير مقبولة يا جود.
أغلق كفيها المعقودين معًا بسلالة دعَّمها تركيزها مع كلماته المغلفة ببراءة مغيظة .. ثم أكمل مستغلًا حالتها المخروسة :
-لكنكِ تجبرينني على ذلك!
وبخفة شديدة وسرعة محسوبة.. كساحرٍ يرفع الستار عن خدعته بمهارة .. قبض بأحد راحتيه فوق كفيها المعقودين رافعًا إياهما مثبتين فوق رأسها على حين غرة ..
شهقت بصدمة جاحظة العينين من مداهمته لها، ولم تكد تنطق معترضة حتى التهم ما بينهما من سنتيمرات ملتصقًا بها..
كان جزءً من الثانية .. هو ما احتاجه ليثبت رأسها بيده الأخرى كاتمًا اعتراضاتها بشفتين فشلتا كل الفشل في البوح.. فسلكتا الطريق الأقل تعقيدًا .. والأكثر تأثيرًا.
ازداد تشنجها .. وسرت ذبذبات قوية بسائر جسدها تكتنف عروقها بدغدغات لاذعة..
فحاولت السيطرة على ما اعتراها من شللٍ لا وقت له، وهي تهم بدفعه بعيدًا عنها بلا جدوى..
باتت نبضاتها في حالة من الجنون .. بعضها يستجيب لرسائله الغير منطوقة للمرة الأولى.. والبعض الآخر يرفض استسلامًا مخزيًا، فتسمرت دون حراك..
لم تكن عباراته الغزلية تطربها قدر ما تزعجها رغم خجلها الفطري إثرها..
لم تتأثر بهذا الشكل المزعج _في نظرها حاليًا_ مع مداعباته الخفيفة أو تحينه لضم كفها ببراءة مصطنعة لا تتعجبها من طبعه العابث..
ربما .. ربما لأن هذه هي المرة الأولى .. التي يخصها فيها بشيء!

هان الودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن