ينظر لحطام بنايته التي سقطت بكاملها بنظرة ضياع أحتلت روحه، مآواه سقط ليُصبح أطنان من الثري، لم يعد يمتلك جدران تحتويه هو و زوجته وصغاره.
أين يذهب بهم وغلاء السكن سوف يبتلع كل مورد له بعد الأن، ماذا يفعل بتلك الفاجعة التي تخطر بباله؟_ هنروح فين بعيالنا يا جلال؟
تساؤلها تخنقه العبرات وهي تجاوره علي الرصيف ومذاق التشرد يمرر حلقها، بعد أن كانت تتباهي بشقتهما الواسعة التي يمتلكها جلال، مسقطة من ذاكرتها حق أشرقت الشرعي بها، ليعودا لنقطة الصفر وأسوأ، ربما الأمل أن يعوضهما صاحب البناية بمبلغ يقيهم شر التشرد، لكن هل يعطيهما ما يكفي وسط غلاء السكن الفاحش وإيجاراته الباهظة؟
_ مش عارف، دماغي واقفة ومش قادر افكر.
هتف بها مجيبا تساؤلها ليرسوا علي خاطر ربما هو الحل الأمثل والوحيد في نظرة: هتروحي بيت أخوكي الكبير مفيش تاني.
أفزعها اقتراح جلال وجسدها بنتفض هلعًا ربما أكثر من سقوط بنايتها ذاته، لم تتصور حتي بأسوأ كوابيسها أن تلجأ لبيت شقيقها، كيف تفعلها مع ماضٍ مثل ماضيها مع زوجته، لن تفعل، الشارع لها أهون من ذهابها والتذلل لمن تنتظر الفرصة لتمرغ أنفها بالتراب.
_ مستحيل اروح هناك، اتصرف يا جلال وشوف مكان نعيش فيه لحد ما ربنا يفرجها؟
_ وانا ساحر عشان اتصرف بالسرعة دي؟ ده حتي دهبك والقرشين اللي كانوا فوق ملحقناش ناخدهم، كله بقا تحت التراب يا رباب.
واستطرد بشكل حاسم: انتي هتفضلي مع العيال عند اخوكي فترة مؤقتة لحد ما نشوف صاحب البيت هيدينا حقنا ازاي وامتى، وربنا يتولانا بعد كده ونلاقي سكن مناسب.
_ بتتكلم كأنك مش هتيجي معانا.
رمقها بنظرة غامضة مع قوله: لأن ده اللي هيحصل فعلا، هاجي بيت أخوكي اعمل ايه؟ أنا سهل أدبر نفسي لوحدي، هشوف واحد صاحبي ينفع افضل عنده لحد ما تُفرج.
_ بس أنا يا جلال مش هرتاح هناك ولا… .
_ بقولك ايه أحنا معندناش رفاهية الاختيار علي فكرة، أنا ماليش حد من أهلي ممكن يشيلني في المحنة دي.
_ بس بيت خالتك موجود ليه مش نروح عندها؟
ضاقت عيناه باستنكار: نعم؟ هو بيت خالتي ده سبيل؟ أختي أشرقت تروحلها وبعدين أنا؟ مش ممكن طبعا.
ثم هدأ قليلا رغم صعوبة الموقف عليه ليحدثها بلين:
أسمعيني يا رباب احنا دلوقت في أصعب موقف مر علينا من يوم جوازنا، أحنا بقينا في الشارع ولو أنا وأنتي هنتحمل ولادنا مش هيقدروا، مفيش قدامك غير الحل اللي قولته، مهما حصل بيت أخوكي هيكون ستر وغطا عليكي لحد ما نجيب شقة نلم ولادنا فيها.
تدري أن قوله هو الأصوب، تنهدت بيأس وليس بيديها حيلة أو بديل لتختاره، ستفعلها لأجل صغارها وتتحمل أي شيء حتي تنزاح تلك الغمة عن حياتهم وتعود الأمور لسابق عهدها.
______أنتهي لتوه من توصيل زوجته رباب وأطفاله لبيت شقيقها، وبشعور من "التيه" ظل شاردا يسير لا يدري لمن يذهب، يفتش بذاكرته عن شخص يمكن أن يلجأ إليه فلا يجد، كل ما يعرفهم من رفاقه لديهم عائلات ولا يصح المكوث لديهم، ليس معه نقود كافية ليستأجر شيء يآويه، جلس علي إحدي الأرصفة يطالع السماء متأملًا سحابها الغائم بشرود.
لما حدث كل هذا وفقد مآواه؟
تنهد وهو يخفض رأسه مدركا الوقت الذي مازال مبكرا، فلم يشعر بنفسه إلا وخطاويه تقوده ثانيا حيث منطقته وبنايته المهدومة، وقف قُبالتها غير مهتم بصخب الجميع حول الأنقاض، عيناه تتشبع من بقايا حطامها، كأنه ينعي معها عمرًا طويل قضاه هناك بشقة والديه، كل ذكرياته طمستها أكوام الثرى، لم يعد يربطه بهذا المكان الذي شهد طفولته وصباه ونضوجه شيء، ابتلاءه العظيم هذا جعل ضميره يتسائل، هل يُعاقب علي أمر اقترفه؟ وميض برق بذهنه ليخط له إجابة عادلة، ربما هذا عقابه لتقصيره بحق شقيقته بعد وفاة والديهما، حتى لو أدرك خطأه الأن،لا يزال دينه القديم يطوق عنقه وربما حان وقت سداده.