الفصل الأخير

4.3K 170 55
                                    


يقولون أن من دنى أجله تطوف روحه تودع أحبتها بشوق، وهذا ما تفعله موقنة أنها تودع هذا العالم بإرتدتها تلك المرة مستسلمة لما تقودها إليه روحها، بوهن رسم خطواتها راحت تصعد درج البناية في طريقها لشقة رفعت، لقد ترجته هاتفيا أن تأتي لترى طفلها، راهنت على سماحة قلبه وفازت برهانها عليه، رحب بها وشعرت بالشفقة تكسوا نبرته، لكن لم تهتم، فليشفق عليها كيفما شاء مادامت سترى صغيرها وتودعه.

_ أتفضلي يا قمر.
قالها رفعت بمودة مبددا توترها وهي تقف أمام بابه باستحياء، لكن فور أن لمحت صغيرها تلاشت كل مشاعرها  الجانبية مسقطة كل التردد داخلها وهي تندفع و تلتقطه من يد الجدة وتنثر قبلاتها الحانية بنهم ولهفة وحب أمومي لا تدري كيف استطاعت قتله داخلها الفترة الماضية، كيف ابتعدت وانشغلت بحياتها ورغابتها وسعادتها الزائفة، كيف عاشت وهي بعيدة عن قطعة روحها وملاكها الصغير، دموعها أغرقتها وهي تبكي وتصب سيول مشاعرها المكبوتة بهمهمة هامسة تخص صغيرها وحده، كأنها تطبع بذاكرته كلمات أخيرة ربما لن يتذكرها ابدا.

_استهدي بالله يا بنتي ايه لازمته البكى دلوقت.
لتستطرد العجوز بنبرة جمعت العتاب بالشفقة: حد منعك تشوفيه يا بنتي؟ طلبتي مرة تيجي وبابنا اتقفل في وشك؟

ازداد بكائها كجواب وحيد بأن لم يمنعها أحد عن رؤيته، هي من تخلت عنه وباعته وحرمت نفسها منه، كم كانت جاحدة وغبية.
_تعالي يا قمر ارتاحي واشبعي من ابنك زي ما انتي عايزة، وأي وقت بعد كده عايزة تشوفيه تقدري تيجي.

صمتها الساخر كان أيضا جوابها، لن يكون هناك زيارة أخرى، وقتها انتهى وما جاءتهم إلا مودعة لو يعلمون، رشدت لهفتها قليلا وهي تنظر لوالدته متذكرة كيف ساعدتها كثيرت كي لا يخترب بيتها، كانت حنونة عاقلة وهي التي لم تقدرها حق قدرها، لذا كانت فرصتها لتقول لها:
طنط، عايزاكي تسامحيني على كل مرة زعلتك واستغليتك فيها، أيوة بعترف اني استغليت طيبتك كتير وكنت فاكرة إن ده الطبيعي، بس الأيام عرفتني غلطي بأقسى طريقة، لتحين منها التفاتة نحوه قائلة بندم: انت كمان سامحني يا رفعت أنا غلطت في حقك كتير اوي، ظلمتك وظلمت أبني ونفسي قبلكم.

رغم كل غضبه منها وبغضه لذكراياته معها، رق قلبه متأثرا بالندم الذي يقطر من عيناها، وكأنها تبدلت لأخرى، لم تعد الأن تشبه قمر زوجته الناقمة الشرسة القاسية، ما يراها الأن سيدة ضعيفة تبحث عن جدار تتكيء عليه بعد أن غدرت بها الأيام.

_ بلاش الكلام ده يا قمر، أحنا مسامحينك، متنسيش انك أم أبني، ليمنحها ابتسامة صافية بدت بعينها أجمل ما ستراه عيناها حتى تموت مستطردا: خلينا نبتدي صفحة جديدة من دلوقت، ابنك محدش هيمنعك تشوفيه، وانا أي وقت تحتاجيني فيه هتلاقيني، اوعدك بكده.

ابتسمت لسماحته وتحسرت على حالها والأوان قد فاتها، هي لن تحتاج أحدا بعد الأن، وقريبا سيدري بكل شيء وتتمنى أن يسامحها حقا، وإن كانت ترجو من الله الستر حتى بعد موتها، بألم سكبت المزيد من دموعها وهي تودعهم مع صغيرها الذي أغرقته المزيد من القبلات ثم انتزعته من بين ذراعيها انتزاعا مغادرة منزل رفعت، هابطة الدرج وعيناها تبرق بقسوة بأن لن يمنعها أحدا من مهمتها الأخيرة بهذا العالم.
وهاهي بطريقها إليه.
____________

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jan 20, 2024 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

رواية أشرقت بقلبه بقلم دفنا عمرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن