الباب الثامن

4.5K 221 27
                                    

الزائر

انتبذ الأصدقاء مكانا قصيا يجلسون فيه، فلم يعد يفصلهم عن الحرب غير أيام قليلة وهذا ما جعلهم يفضلون البقاء بمعزل عن الآخرين والاكتفاء

بأنفسهم.

نهض أوس من مكانه بعد قليل،

ودلف إلى الغابة التي كانوا يجلسون بالقرب منها،

وحين عاد بعد وقت قصير كان يحمل في يده رزمة من الأحطاب

للتدفئة.

جلسوا حول النار بشكل دائري كانت إضاءة لهب النار تفضح ملامح الخوف على وجوههم، إنهم لا يهابون الحرب بل يخاف كل واحد منهم في الحرب أن يفقد صديقه.
قررت برقاء أن تفعل شيئًا من شأنه أن يخرجهم من جو الكآبة؛

فنهضت وألقت هذا اللغز :

- من يستطيع أن يخمن الشيء الذي سأذهب بعد قليل لأجلبه

لكم ؟

في البداية لم يتفاعل أحد مع لعبتها .. ولكن طائر العنقاء إكليل الذي كان يُحب الفعاليات المسلية التي يصنعها البشر، قال وقد تحمس للعثور

على الإجابة الصحيحة:

- أتستطيعين تقريب الأمر لنا أكثر ؟

ابتسمت برقاء وقد أعجبها أن يتفاعل أحد معها:

- حسنا، إنه شيء يبدأ بحرف النون وهو يبعث على تهدئة النفس

والسعادة.

الحكيم متدخلا:

- نساء ؟

منع الجميع ضحكاتهم بصعوبة، وكادت برقاء أن تصب جام غضبها عليه لمحاولته إفساد اللعبة ولكنها تجاهلت الأمر وعادت إلى موضوع

اللغز :

- إنه شيء يُقدم ساخنا.

الحكيم مجددا:

نساء ساخنات ؟

أفلتت منهم بعض الضحكات، بينما قالت برقاء غاضبة:

- ألا يستطيع عقلك المريض هذا أن يفكر بشيء آخر ؟!!

قال يدافع عن إجابته :

- شيء يبعث على تهدئة النفس والسعادة ويبدأ بحرف النون؛ إنهن

النساء بالتأكيد !!

- وماذا عن مشروب النعناع يا قليل الأدب ؟!!

- لقد غابت هذه الإجابة عن بالي.

- هل جميع الرجال يفكرون بهذه الطريقة، أم أنك المعتوه الوحيد

بينهم ؟

- لا، ليس الجميع .. نصف الرجال فقط.

- والنصف الآخر ؟

نائمون؛ يحلمون بالنساء.

كان يقصد ممازحتها فقط ولكنه أدرك من خلال تعابير وجهها أنه قد تجاوز حده معها فاقترب منها بخطوات بطيئة حتى إذا وقف أمامها

قال معترفا :

- إنك تذكرينني بأختي؛ لذلك أمازحك مثل ما كنت أفعل معها.
جذب ذلك الكلام انتباه الجميع، لم يكن أحد منهم قبل هذه المرة يعلم أن للحكيم أختا؛ ذلك أنه لم يسبق له الحديث معهم عن حياته

الخاصة.

أدركت برقاء سبب مضايقة الحكيم الدائمة لها بمزاحه الثقيل؛ إنه يرى فيها أخته، وربما مزاحه الثقيل معها يكون من باب تذكير نفسه بأيام جميلة

مضت ولن تعود.

قالت كمن يضع يده برفق على جرح مؤلم:

- وما الذي حدث لها ؟!

صمت وامتنع عن الإجابة؛ ذلك لأن حزنه كان أعمق من أن يشاركه مع أحد.

نظر نحو الأرض كما ليخفي عنهم ألمه، واكتفى بأن قال: - حياة الإنسان تشبه الكتاب .. ولكل إنسان منا طعنة مخبأة بين أوراق كتابه .. هذه الطعنة لا تقتلنا ولكنها تقتل أشياء جميلة كانت تعيش فينا وتغير حياتنا إلى الأبد
حملته برقاء بين يديها وقالت:

كنت أراك تضحك طوال الوقت لم أكن أعلم أن هنالك حزناً

يعشش في قلبك.

قال وهو لا يعلم أنه قد نطق بتلك الإجابة قبل هذه المرة⁹ :

- منذ أن خذلت ذات مرة وأنا أستخدم المزاح كوسيلة للهرب ولكن

يا صديقتي؛ إن الذين يضحكون كثيرًا هم أكثر أهل الأرض حزنًا.

- لن أجبرك على الحديث؛ ولكنك تعلم بأنني سأكون مستعدة طوال الوقت لأسمعك حين تريد أن تتحدث؛ وهذا أقل ما قد تفعله البقرة

لصديقها .

ومثل ما أن الراعي يقود قطيعه نحو الحقول النساء قادرات أيضًا على قيادة الشمس إلى الشروق داخل كل قلب

مظلم.

⁹"سبق للحكيم أن قال هذه الإجابة في رواية ( جومانا ) ولكنه فقد الذاكرة بعدها فنسي أنه قد قالها في يوم من الأيام."
ابتسم الحكيم

ولكن تلك الابتسامة لم تدم طويلا حتى حلت مكانها ملامح الذهول والمفاجأة؛ فقد شاهد - كما شاهد الجميع - زيارة شخص لم يتوقع أحد

منهم قدومه.

كان الزائر هو سرابي.

السجيل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن