(24) إنبعاث فجرٍ جديد

363 24 24
                                    




هبَّت رياح الفجر على الصخور الصغيرة تبعثرها، وتطايَر الثرى على الناس البائسين والساكنين في أماكنهم، بلا حيلة، يشاهدون نتائج خضوعهم وتسيّيرهم لجماعةٍ أهدتهم الأوهام كي تنتزع منهم هويّاتهم وأرضهم. ربما كانوا حمقى لتصديقهم، لكن المؤكد أن اليد العليا لم تكن لهم، فأُجبِر الأغلبية على الإذعان عندما أدركوا الفارق. هنالك من إلتهبت جروحه بفعل نيران البارحة، وهناك من تهدّمت طبقات أحجار بيته المصفوفة، و اشتركوا جميعاً بالجلوس ومراقبة الغريبتيّن بشيءٍ من العجب والأمتنان، حين قدّمتا المساعدة، رغم عدم انتمائهما إليهم.

تصاعد عزيف الرياح لمسامِع أوار بينما تراقصت خصلات شعرها المُموّجة أمامها، أخذت شهيقاً بِبُطء، تستسيغ فيه رائحة الأحتراق الخانِقة. ضمّت أقدامها ضد صدرها، تشاهد الأختان المغدورتان، ساندرا وكيلا، أمام قبرٍ قد حُفِر لتوّه، ثم امتلأ مجدداً بالتراب فتشكّلت قِبة أعلاه، غَشتهم ملامح الصدمة والخذلان، وحتى الطفل نوربو حدّ أنها أخرسته، فجعلته يُلازم الأرض جنباً إلى جنب قبر بيما التي لطالما رآها كأخته الصغيرة، بشهقات مُتقطعة خافتة. تنهدت، هي ايضاً بحالةٍ مُرثية، يديها مُتسختان، شعرها مُبعثر، وثيابها مُلطخة بالتراب، ولم تهنأ بالراحة منذ خرجت من مدينة كيليوس، وصارت تشكّ بكونهِ كابوساً مُريعاً سينتهي حالما تصرخ اندا وتحطّم باب غرفتها كي تستيقظ للمساعدةِ في المحل. لم تتوقع أنّها سَتشتاق للحظات السّلام هناك بهذه السرعة. حاولت تشتيت تفكيرها عن الأمر، وبحلقت في ايف المُستندة تحت إحدى الأشجار المُحترقة التي بَدَت أغصانها كعظام سوداء مُحنطة. تشدّ على رأسها، وفستانها الأزرق مُمزق بطريقةٍ ملتوية حتى ركبتيها، إلى وقتٍ قريب، تألمت بسبب عينيها، يختلطُ حديثها بتأوهاتها، فلم تُدرك شيئاً ممّا تقوله، حتى رأت منظراً مروعاً، فهبّت تساعدها رغم جهلها بالماهيّة، كما حدث سابقاً حينما ذهبوا جميعاً لإقتطاف زهور الفاوانيا البيضاء.
لكنها توقفت عن ذلك و استقامت طواعية، وذهبت تجلس بعيداً تحاول الإختلاء بنفسها، يبدو أن الألم كفّ و استعادت رؤيتها، إلا أنّها لم تستطع تخطي دهشة المشهد، وكلّما تذكرته، ازدادت يقيناً، ففي تلك العينان يقبع سرٌ عتيق. عادت أوار تتنهد مُجدداً، كُل جزءٍ فيها مُنهَك، ورأسها يكاد يَهوي بأي لحظةٍ على الأرض، فلا ينقصها ما تسمعه الآن، من الأثنان خلفها.

" سحقاً لك يا وقيد، هي لا تحتاجك! أنت لست سوى هدية دَنِسة قُدِمت إليها عن طريق الخطأ، ولم تقبلها إلا مُجاملة لأنها طيّبة القلب ولم تقوى على رميك في القمامة، إلى حيث ما تنتمي! "

صرّ غاسق على الحروف بنبرةٍ منفعلة.

" أنا؟ هدية قُدِمت عن طريق الخطأ؟ ماذا تكون أنت إذاً؟ "

قهقه وقيد عالياً حالما أتّم جملته. في الحقيقة، عندما قدّمت دولما القلادة إلى أوار، كانت من ضمن القطع السحرية التي احتفظت فيها مع مقتنياتها العجيبة الأخرى، لكن هذه القلادة على وجهِ التحديد أثارت استغرابها؛ فلم تمتلك ولو مِقدار مانا ضئيلة، فشكّت تعرّضها للنصب والأحتيال بعد أن ابتاعتها من إحدى السحرة الذي تبجح وتفوّه بوجود مارد من أقوى المردة يسكنُ فيها، لم تصدقه إلا لأنه من مكانٍ موثوق سبق أن تعاملت معه، فمن هو الساحر الذي ستنطلي عليه حيلة وجود ماردٍ من أعتى المردة يَسكن في قلادة خالية من المانا وصدئة؟
حاولت مراراً، وبعد أن فقدت الأمل فيها، قرّرت أنها ستحقق نبوّة الريشة في ذلك اليوم، وبدلاً عن تقديمها لشيءٍ ثمين قرّرت أن تعطي أوار القلادة التي تعرّضت للنصب فيها. وتبيّن في نهاية المطاف أن الأمر تلاعبٌ من وقيد ليسَ إلا، فمهما حاول، لم يستطع تحرير نفسه من القيّد الذي يجبره بالمكوث حبيساً في العقد، كانت طاقةً أخرى أعظم منه تكبّله من جميع النواحي، إلا انه استطاع وعلى الأقل حبس المانا خاصّته، وهكذا يرتاح من السحرةِ وأعبائهم. لكن الكفّة انقلبت حين امتلكته أوار، بعث هذا الريبة فيه، فهي ليسَت ساحرة، ولا تجيد التحكم في المانا خاصّتها، كما امتلكت مارداً آخر، مألوفاً جداً، ممّا جعله يرتمي في موجة مُتعاقبة من الضحك حينمَا أدرك هويّته، هل كان غاسق الذي يعرف مزاجه الجَلف وحبّه لتَتبع مصالحه، سيخدم فتاةً ضعيفةً مثلها؟ لابُد أنّها تمتلك شيئاً ليسَ بعادي، وهذا جعله هادئاً طوال اليوم يُراقب الوضع بتمعنٍ وفضول، حتى إحتدمت الأمور، فثار وخرج، لم يستطع غضّ الطرف عن المتبجحين بإستخدام قوّة النار، القوّة التي يتميّز فيها هو، ويرى فيها قُدسيةً لا تحتمِلُ الخدش. تألقت الحقيقة، إن هذا الشعور داخله كشعلة نار ٍضئيلة انفجرت فغمَرت المكان لهيباً، يَعيه تماماً، هذا هو شعور المجازفة الذي فقده عندما صار خادماً مُسخراً، فمنذ زمنٍ سلف، كان يهوى عقد الصفقات مع البشر الذين يثيرون اهتمامه فقط، مَن يمتلكون أهدافاً عظيمة يستحق أن يجازف لأجلها. تساءل، هل كانت هذه الفتاة الضعيفة هي السيّد المُنتظر الذي سَينتشله من براثن الأنتظار والمَلل؟
أثناء ذلك، وحينما تحرّر من العقد، شاهد الأفراد الخمسة تدفق المانا خاصّته في الأرجاء فجأةً من العدم، وتمايلت النار حول تلك الفتاة ذات الشعر المموّج التي تلاقطت عينيها في كُل الإتجاهات بذهول، تزدان رقبتها بعقدٍ لمَع بحجر عقيقه الأحمر. لسوء حظهم، عرفوا أن مارداً آخر قد حضَر الميدان، مارد توقد فيهِ هذه الأجواء سعيراً لا ينطفئ، وكان وقيد.

ممالك باسقةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن