.
.
.
ركضت...
.
.
.
.
ركضت كالمجنونة حين ضرب البرق وبدأت الامطار بالتساقط كأنها ستفيض الارض في تلك الليلة...
لكنها لم تهم...لم تشعر حتى بقطرات المطر الباردة وهي تلامس بشرتها بعنف...لم تشعر سوى بوجع قلبها المحطم...
كان مارسيل قد رحل الى الابد...تاركها ورائه لتعيش في ذكراه لما تبقى من حياتها القصيرة...
الحياة من حولها عادت طبيعية بعد مراسيم تأبينه...كما لو لم يكن موجوداً اساساً...كما لو لم يهتم احد لمأساته...مأساتها...
عاد اضطهاد اهلها من جديد...وعاد والدها بالدروس القاسية التي كان يلقنها اياها كل يوم...والاهم من ذلك...عادت الوحدة والفراغ لتملئ حياتها الباهته...
مرت الايام واصبحت تشاستين كالجثة الحيه...جسد بلا روح...خالية من الالوان...ولا يفارقها الفستان الاسود...
احبطت جميع محاولات والدتها لتقديمها الى رجال واتخذت من غرفتها ملجئ لها...لتسكب دموعها على فراشها ليلاً...
كانت العاصفة اخطر من ان توجهها بثياب نوم خفيفة وقدمين حافيتين، لكنها ارادت الهروب، ارادت ان تشعر بأي الم قد يمكنها من نسيان ما حصل، لكن حتى الحراشف والاغصان التي ثقبت قدميها لم تكن كافيه، ولا حتى رئتيها اللتان امتلأتا بالهواء اكثر من اللازم وبدتا كأنهما ستنفجران من الجهد انستها ما جرى...
مارسل...مارسيل...مارسيل...
كان في كل مكان ، في هذه الغابه ، وفي الشوارع وفي منزلها، حتى في روتينها اليومي، كان له جزء كبير فيه...
شهقت بسبب الغصة التي ملأت حلقها ومسحت المطر المتساقط عن عينيها وابعدت خصلات شعرها المبلله والملتصقه على جبينها بيدها بعنف ثم سقطت على الارض لتكمل النحيب...
لن يجدها احد هنا...هذا ما ظنته... لقد توغلت في الغابة هرباً من والدها، طلباً للراحة والقليل من الحريه...
اعتقدت بأنها توهمت سماع همهمات من حولها ولم تهتم، بل استمرت بالبكاء وسكب مكنونات صدرها على ارض تلك الغابة المظلمة...
- لم تبكين يا صغيرة؟
سألها صوت جاء من خلفها، تسبب بأجفالها فأستدارت بسرعة لترى من هناك.
كان رجلاً طويلاً وذي شعر قصير...لم تتمكن من رؤية ملامحه بوضوح بسبب المطر وظلمة الليل، لكنها لم تغفل عن عينيه الحمراوتين المشتعلتين في الظلام، حينها فقط سرى الرعب والخوف داخلها ...
- هل انتِ تائهه؟
سآلها مجدداً وهذه المرة تمكنت من معرفة انه كان شاباً من خلال نبرة صوته ...
ترددت تشاستين في اجابته...لقد كان سيآكلها على اية حال...
- ك...كلا...
اجابته وهي تمسح المياه مجددا بعنف عن وجهها وتعاني من اجل النهوض والوقوف ...وربما حتى الهرب ان استطاعت...
سالت الدماء من ركبتيها حين تمكنت من الوقوف اخيراً ولاحظت عيني الشخص الذي امامها تنساب الى تلك الدماء لتنظر اليها والوهج الاحمر يزداد فيهما...
- يالها من خسارة كبيرة...
قال الشاب من بين اسنانه المصرورة... وبدا صوته كحثيث الافاعي...
- هل تريدين العودة؟...بأمكاني ان اخذكِ الى منزلي لقضاء الليلة...فهو قريب من هنا...
اشار بيده بأتجاه اعمق في الغابة حيث تشابكت الاشجار لتكون ظلمة كتلك اللتي تحيط المقابر...
- ك...كلا... سأعود الى منزلي...ل...لقد تأخر الوقت...
- تأخر؟
سألها وهو يطأطئ رأسه الى اليسار...
- لكن الليلة قد بدأت للتو...
اجابها وهو يتقدم نحوها بخطى بطيئة...
- ابق مكانك...
قالت له بصوت مرتجف وهي تعود الى الخلف ولكن حين تجاهلها قررت ان تتمتم صلاة وهي يائسة لربما انقذتها ...
حين سمع مصاص الدماء ذلك اطلق ضحكة باردة كما لو كانت تتمتم مزحة لا اكثر...
- صلِ كما تريدين صغيرتي...فذلك ان يغير شيئاً...
لم تعلم متى وصل اليها وكيف له مثل هذه السرعة لكنه الان اصبح يطوق كتفيها بعنف شديد ليمنعها من المقاومه فما كان لها اي حل اخر سوى الصراخ ولكمه في صدره بيديها الصغيرتين بكل ما تملك من طاقة...
لقد كان صدره كالصخرة تحت قبضتيها فقررت ان تتوجهه الى وجهه وتصرخ بصوت عالي حتى دوى في الغابة وارعب الطيور المختبئة في الاشجار...
- تشاستين!
سمعت صوت يناديها اجفل الاثنين ...
- ابي!
صاحت بأعلى صوتها...
- ابي انقذني انا هنا!
صاحت مجدداً لترعب مصاص الدماء، كان ضوء المصابيح قريباً منهما وذلك ما طمأنها وارعب عدوها.
كان ملك هذه الاراضي شخصا حازما من بني مصاصي الدماء، وقد سن قوانين تجرم الصيد والتعدي على حقوق البشر وكل من يجرأ على كسر قوانينه كان يقابل بالاعدام...
- سنلتقي مجدداً ...
قال لها مصاص الدماء وهو يخرج لسانه ليلعق عنقها ثم يرميها على الارض بعنف ويهرب...
تأوهت تشاستين من الالم بينما اقترب النور منها ليظهر القس وهو يحمل مصباح برفقة رهبان اثنين من الكنيسة، كان احدهما يحمل وتداً خشبياً بينما حمل الاخر صليباً وزجاجة من المياه المقدسة.
- تشاستين!
دوى صوت والدها الغاضب في الغابه ولوهلة رغبت لو انها استسلمت لمصاص الدماء قبل ان يجدها هو...
اخفضت الفتاة رأسها كالطفل المذنب المستعد لتحمل ثمن اخطائه وخلال ثوان شعرت بقبضة والدها على كتفها الذي كان محمراً من القبضة التي سبقت ولكنها لم تتآوه، فلقد علمت اان ذلك سيزيد من غضب والدها ليس الا...
- لقد ذقت ذرعاً بتصرفاتك المجنونه!
زمجر القس وهو يجبرها على الوقوف فما كان لها الا ان تنزلق بسبب الطين وفستانها الممزق، لكنه لم يهتم بل قام بجرها خلفه كما لو كانت احد الخراف التائهة التي هربت من راعيها...
- انت تؤلمني...
همست له لربما ينتبه لما يفعله لكن دون جدوى ، وعند حدود الغابة قام بدفعها الى داخل عربة كان قد احضرها سابقاً برفقته:
- اصعدي.
امرها بصوت بارد لكن لم يكن بيدها حيلة على اية حال خاصة حين اجبرها على ذلك بمنتهى القسوة.
ركبت تشاستين وتكورت على المقعد بجانب النافذة دون ان تهتم لتلطيخه بردائها الاسود الموحل وخلال ثواني ركب والدها.
- هل دنسكِ؟
سألها بدم بارد بعد ان بدأت العربة بالتحرك فما كان لها سوى ان تفتح عينيها رعباً وتصر اسنانها لتوقف ارتجاف فكها وتقول:
- كلا...
بتردد...
- لا تكذبي.
اجابها دون ان ينظر اليها.
- انت تختبرين صبري كل يوم، لم لا يمكنك ان تكوني كأختكِ ووالدتكِ؟ فتاة طبيعية!
قال والغضب يزداد وضوحاً بنبرة صوته:
- ايعجبكِ ان ادفن رأسي كالنعام بسببك؟ ها؟ اجيبيني؟!
صاح بها وهو يضرب على المقعد الجلدي بعنف مما جعلها تجفل وتضم ركبتيها الى صدرها بقوة.
- هل قام الشيطان بلمسكِ؟
سألها مجدداً بعد ان تمالك نفسه قليلاً فأومأت بالنفي دون ان تنظر الى عينيه.
- كلا؟
سألها بأستغراب:
- كلا؟!
اكد مجدداً وهو يقترب منها حتى اصبح يجلس امامها تماماً واخذ بذراعها ليسحبها نحوه دون ان يكبح غضبه ويكشف عن كتفها المتضرر:
- اذن لمن هذه الكدمات؟! لمن؟!
صاح بها وهو يقفد اخر خيوط صوابه...
- لقد جلبتي العار لي! ترتدين ثياب عاهرة وتخرجين في الليل الى مكان لا احد يعلم اين ثم اجدكِ بين ذراعي مصاص دماء شيطاني وتكذبين في وجهي كما لم يحدث شيء؟ لا تتخذيني كالأحمق يا تشاستين!
- انا لا...
حاولت ان تتحاور معه لكنها فشلت حين رأت كم الغضب وخيبة الامل التي لاحت في عينيه، لم لم يكن بأمكانها ان تكون كباقي الفتيات؟ فبالتأكيد روزي ووالدتها كانتا ترضيان القس حتى اصبحتا مصدر فخر له، الا هي...كان يجب ان تكون الاوزة السوداء...وكرهت ذلك...كرهت نفسها ومقتت اختها وفتيات المدينة والاله وحتى مارسيل...الجميع ساهم بما آلت عليه...الجميع حصرها في الزاوية حتى اصبحت ما هي اليوم...والان الجميع يتجرد من ذلك ويضع اللوم عليها...وعليها فقط...
- لن تغادري غرفتكِ مطلقاً بعد الان.
قال والدها وهو يزجر يدها بقوة مما جعلها ترتطم الى المقعد مجدداً.
- ستبقين هناك، حتى ينسى الجميع امركِ، وادعي ان يفعلوا ذلك قريباً، لأنكِ لن تري ضوء النهار يا تشاستين وسأحرص على ذلك.
.
.
.
بعد ان عادت تشاستين الى القصر الكئيب، كان كل شيء اسوداً او رمادياً سواء كان ذلك فستاناً او شرائط او احذيه...بل حتى تلك الغرفة التي سكنتها لمدة ثلاثة اشهر متواصله دون ان تفارقها، اصبحت اكثر سوداوية ونادراً ما اشعلت بها مصباحاً...لقد وجدت في الظلام ملجأً يحميها من كلما حولها...فقط في الظلام...لم يهاجمها احد ولم يلمها احد...فقط في الظلام تمكنت من العيش بذكرياتها مع مارسيل دون ان يقاطعها شيء، في المقابل، رفضت جميع النزهات في الحديقة التي عرضتها عليها مدبرة المنزل، وحتى جولات ركوب الاحصنة في الحقل او دعوات حفلات الجيران ، ولم تترك مساحتها الصغيرة مطلقاً، فالطعام كان يأتي لها في وقتين محددين من اليوم، وإما الحمام فلقد كان ملحقاً بغرفتها مما جعلها معزولة تماماً عن الجميع...
مرت الاسابيع وكان من الواضح ان القس قد نسي امرها كما نسيت هي امرهم، لكن ذلك لم يكن حال والدتها التي اصبحت قلقة على ابنتها بعد ان تجاهلتها ورفضت رؤيتها في العديد من الزيارات ومحاولات التقرب المشبوهة...فكل ذلك وجدته تشاستين محاولات متأخرة للغاية...
كانت تشاستين مستلقية بإحد فساتينها السوداء على فراشها وهي مستغرقة بالتفكير بأخر لحظاتها مع مارسيل عند ذلك الشلال حين طرق الباب وسمعت صوت المدبرة تقول:
- انسة تشاستين...القس يطلب منك الخروج للتبضع وشراء فستان جديد.
سكتت تشاستين واخذت تتأمل ورق الحائط الذي غلف سقف غرفتها...لقد كان باللون الوردي الفاتح مع ازهار القرنفل الحمراء والافرع المتشابكة ...لطالما نظرت اليه وعدت الازهار حتى اصبحت تعلم حد اليقين ان هناك ١٧٩ زهرة فوقها ١٨ منها تلاشت عند زوايا السقف والجدران...
فتح الباب فجأة ودخلت المدبرة وعلى اعقابها والدتها، نظرت اليهم تشاستين كما لو كانوا دخان ثم اشاحت بنظرها عنهما لتبدأ العد من جديد...لطالما اعتقدت بإنها اغفلت عن احد الازهار...
- تشاستين...
قالت والدتها بلطف مبتذل...
- والدك يطلب منك النزول الى الاسواق وشراء فستان ملون من اجل حفل زفاف اختكِ...
اه صحيح... فكرت تشاستين...لقد دبروا زواجاً لروزي في الشهر الماضي ...لقد اغفلت عن ذلك تماماً...
- بأمكانكم ان تقيموا الحفل بدوني...
اجابت وهي تنظر الى النافذة...
- تشاستين...هل ترغبين ان يعتقد الجميع انكِ فتاة غيور؟ تركت حفل اختها لانها وجدت السعادة قبلها؟...
سعادة؟ اي سعادة؟ فهي لم تلتقِ بالرجل الا قبل اسابيع معدودة...
ولكن الم تكن هي سعيدة فقط خلال اسابيع معدودة قضتها برفقة مارسيل؟...
- ارجوكِ تشاستين فقط اذهبي واحضري فستاناً ...لا نرغب بالمزيد من الصراخ والجدال ...تعلمين بإنه سيأتي ويجبرك على ذلك لو رفضتِ...
كانت والدتها محقة...سيظهر القس خلال اليوم ويجعلها تندم على قرار رفضها...لتقبل الان...فعلى الاقل اعطاها حرية اختيار الفستان...
- حسناً...
قالت وهي تنهض...لقد قارب الوقت الثالثة ظهراً وكان لابد لها من التحرك اذا ما ارادت ايجاد فستان مناسب قبل الغد...
ابتسمت والدتها والراحة بادية على محياها ثم قالت بأمتنان:
- شكراً لكِ يا ابنتي...سترافقكِ السيدة وايلز الى السوق حين تصبحي جاهزة.
اومأت تشاستين وانتظرت والدتها لتخرج برفقة المدبرة وهما يتحدثان بهمس... ربما يتفقان على تفاصيل الفستان لتجبرها السيدة وايلز على اختيار فستان لا يحرج العائلة...
تنهدت تشاستين ثم تخرجت فستان اسود اخر وارتدته بكل مرونة بعد ان مشطت شعرها الفضي القصير ثم نظرت الى نفسها في المرأة...
لم كانت تبدو اصغر حجماً؟ هل خسرت بعض الوزن...ربما ليس بعضه بل كله... هذا ما قاله الصوت في داخلها بعد ان لاحظت عظام فكها البارز ووجنتيها الذابلتين...
تركت تشاستين المرآة ووقفت امام الباب ولاول مرة منذ مدة قررت الخروج ومواجهة البشر واشعة الشمس...
.
.
.
.
يتبع...
أنت تقرأ
مشعوذة الجنرال ( مارسيل )
Upíři****مكتملة**** مارسيل.. حبها الذي دفنته تحت انقاض ماضيها.. حدادها الذي استمر لمائة عام.. وحزنها الذي وشحها بالسواد منذ الازل... او هذا ما ظنت به.. حين يُبعث مارسيل مجدداً للحياة على هيئة الد اعدائها تجد تشاستين نفسها بأمس الحاجة للهروب منه وتبقى ممز...