اقتربت "بيسان" من غرفه النوم لتتوقف فجأة بعدما تنامى الى مسامعها من خلف الباب المغلق صوت "نهاد" وهو يقول :
- انتى عايزه ايه دلوقتى ؟
فتحت فمها فى دهشة وهى ترهف أذنيها .. فسمعته يقول :
- الى عندى قولته .. لو سمحتى أنا مش عايز مراتى تعرف أى حاجه
وضعت "بيسان" كفها على فمها .. وهى تستمع اليه وهو يقول :
- لو مراتى عرفت هتبقى مشكلة .. انا أذيتك فى ايه عشان تأذيني كده .. قولتلك 100 مرة اللى بينا انتهى
أنهى "نهاد" المكالمة والتفت لينظر الى "بيسان" التى فتحت الباب فجأة وقد اغرورقت عيناها بالعبرات وهى تقول بصوت مرتجف :
- انت تعرف واحدة غيري يا "نهاد" ؟
اتسعت عينا "نهاد" رعباً واقترب منها يحاول أن يمسك بذراعيها لكنها دفعته عنها وهى تصرخ :
- بتخونى يا "نهاد" .. بتخونى ؟
هتف "نهاد" بصوت مضطرب :
- لا والله يا "بيسان" .. والله ما خونتك ازاى تقولى كده
قالت باكيه :
- سمعتك .. سمعت كلامك معاها .. ليه يا "نهاد" تعمل فيا كده .. ليه
غطت وجهها بكفيها .. اقترب منها هاتفاً بألم :
- والله العظيم ما خونتك .. دى واحدة كنت أعرفها قبل ما نتجوز وقطعت معاها .. والله ما خونتك يا "بيسان" .. أنا بحبك والله
دفعته بعيداً عن باب الغرفة ودخلت وأغلقت الباب خلفها بالمفتاح .. جلست على فراشها وأخذت تبكى بصوت مرتفع .. طرق "نهاد" الباب طرقات عدة :
- "بيسان" .. عشان خاطرى افتحى .. هفهمك .. طيب هدى نفسك عشان البيبي .. "بيسان"
صرخت من بين بكائها :
- ابعد عنى يا "نهاد" دلوقتى .. ابعد
فى ألم ترك "نهاد" مكانه أمام الباب حتى لا يثير حنقها أكثر .. ثم جلس على أحد المقاعد دافناً وجه بين كفيه وملامحه تنطق بالحيرة والألم**************************************
انطلق "مهند"بسيارته فى الصباح الباكر .. جلست "انعام" بجواره بينما جلست "فريدة" برفقة "نهال" فى الخلف .. لم تفارق البسمة شفتى "نهال" التى كانت تتابع "مهند"بعينيها فى مرآة السيارة .. ضايقها عدم التفاته اليها ولو لمرة .. لكنها عادت لتنفض ذلك عن رأسها فأهم شئ أنها ستقضى برفقته اليوم كله .. التفتت "انعام" وقالت لـ "مهند" بمرح :
- انت دليلنا النهاردة يا "مهند" .. أنا بصراحة مجتش اسكندرية كتير .. بس انت و "فريدة" طول عمركوا عايشين فيها .. فأنا و "نهال" هتحط نفسنا بيد ايديكوا .. فسحونا انتوا على مزاجكوا بأه
ابتسم "مهند" قائلاً :
- متقلقيش يا عمتو هبقى فسحة حلوة ان شاء الله
قالت "نهال" مبتسمه :
- أكيد هتبقى حلوة أنا واثقه فى ذوقك يا "مهند"
اختفت ابتسامتها عندما قابل كلماتها بلا مبالاة .. وصلوا الى الاسكندرية بسلام .. أخذهم "مهند" الى عدة أماكن ومعالم سعدوا كثيراً بزيارتها .. وفى موعد الغداء أخذهم الى أحد المطاعم الفاخرة والتى لاقت اعجاباً شديداً بجوده طعامهم البحرى .. أخذ "مهند" يتطلع الى "فريدة" بسعادة وهو يرى تلك البسمة على ثغرها وهى تتجاذب أطراف الحديق مع عمتها .. دون ان يعبأ بنظرات "نهال" التى تلاحقه .. التفت فجأة .. فالتقت أعينهما .. فأبعد "مهند" عينيه وكأنه لا يراها .. ازداد حنقها أكثر .. حاولت التحدث اليه فلم تجد منه سوى اجابات مقتضبه .. وعندما تجرأت لتمازحه بيدها ضاربه بكفها فوق ذراعه .. التفت ورمقها بنظرة ألقت الرعب فى قلبها .. شعرت بالخوف من تلك العينان السوداوان المسلطتان عليها بحدة .. فتمتمت بخفوت وهى تسحب يدها :
- آسفه .. الكلام خدنى
لاحظت "انعام" ما حدث فقالت بمرح :
- ايه يا "مهند" هنفضل أعدين كتير .. أنا عايزه أشوف الشمس وهى بتغرب .. خدنى على أجمل حته فى اسكندرية .. لاحت ابتسامه على شفتى "مهند" وهو يقول :
- حاضر يا عمتو .. خاجك على أحلى مكان فى اسكندرية
كانت بقعة هادئة .. يرتطم فيها الموج بتلك الصخور المتنائرة أمامه .. بدا البحر رائقاً صافياً .. يشكل مع شمس الغروب لوحة ابداعيه تقف الكلمات عاجزة عن وصفها .. لوحة لا يرسمها الا الخالق .. تمتم "مهند" بخفوت :
- سبحان الله
جلست "انعام" بجوار "فريدة" على احدى الصخور يتطلعنا الى "مهند" .. وقفت "نهال" تنظر الى البحر أمامها ساهمه .. قالت "انعام" مبتسمه :
- المكان هنا حلو أوى .. وأحلى حاجه انه فاضى .. تحسى انه مكان خاص أوى
قالت "فريدة" بحزن وهى تنظر تجاه "مهند" الذى وقف واضعاً ذراعيه فى جيب بنطاله ينظر الى البحر شارداً :
- المكان ده "مهند" بيحبه أوى .. كان بيجي كتير هنا مع مراته الله يرحمها
نظرت "انعام" فى اتجاه "مهند" هى الأخرى وهى تقول بحزن :
- ربنا يصبره أكيد موتها بالطريقه دى كان صعب عليه
قالت "فريدة" بأسى :
- اتألم أوى لموتها .. أوى .. كان بيحبها أوى يا عمتو .. أكتر حاجه وجعته انه حس انه السبب فى موتها
سألت "انعام" بإهتمام :
- هى الحادثة حصلت ازاى بالظبط ؟
قالت "فردية" بمرارة وهى تتذكر تلك الأيام التى ولت :
- كانوا خارجين مع بعض .. يوميها كان "مهند" فرحان أوى .. ادوله سلفه من مرتبه وجاب عربيه صغيرة .. كان طاير من الفرحه و صمم ياخدنى أنا وهى ونتفسح مع بعض .. كان كل حاجة هادية وسايق على مهله براحه .. وفجأة محستش بحاجه .. مش فاكرة ايه اللى حصل .. بس لما فتحت عيني .. كنت فى المستشفى ومتجبسه .. وفهمت من الممرضات اللى حصل
قالت "انعام" متنهده بحسرة :
- أكيد لام نفسه
التفتت اليها "فريدة" وقالت :
- أنا واثقه انه مكنش غلطان .. "مهند" كان سايق على مهله مكنش بيسوق بسرعة .. وهو فعلاً قال كده فى المحضر .. صاحب العربية اللى خبطت فيه هو اللى كان ماشى مخالف وكمان كان بيسوق بسرعة عالية .. مقدرش "مهند" يتفاداه .. وحصلت الحادثة
رمقته "انعام" و "فريدة" بنظرات مشفقه .. هدر البحر بموجة عالية ..بدا وكأن شيئاً أغضبه فجأة .. التفت "مهند" فرآى "نهال" تسير على بعض الصخور المرصوصة بجوار بعضها البعض والممتدة داخل البحر .. عندما اقتربت من صخرة كبيرة اسطوانية الشكل .. هتف "مهند" :
- "نهال" خلى بالك .. الصخرة دى بتتحرك
التفتت "نهال" اليه ثم نظرت الى الصخرة التى ستطأها قدماها .. جربت الصخرة بقدمها لتعلم بأنها بالفعل تتحرك حاولت تثبيتها والسير فوقها وهى ترفع ذراعيها بمحاذاة كتفيها لتوازن نفسها ومنه انتقلت الى الصخرة التاليه والتى كانت أكثر ثباتاً .. عاد "مهند" يتأمل البحر مرة أخرى .. ليعاود استكمال حديثه .. مع خله الوفى .. هتف "مهند" من اعماقه :
- أشجانى بعدها أيها البحر .. وعذبنى فراقها
قال البحر وأمواجه تتلاقى فى حنان :
- اصبر أيها الغريب .. فما أنت فى هذه الدنيا الا عابر سبيل
تنهد "مهند" وقال :
- أعلم يها البحر .. لكنى على الرغم منى أفتقدها .. أنت خير خل لى .. تعلم كيف كنت أحبها .. كم عانقتنا بأمواجك أيها البحر .. أتذكرها .. أتذكرها مثلى
قال البحر فى أسى :
- وكيف أنسى من سكنت فؤاد صديقي
قال "مهند" شارداً :
- أتعلم أيها البحر لما أحببتها ؟! .. لأننى شعرت بأنها تكملنى وبأننى أكملها .. أحببت ضعفها أيها البحر .. أحببت حاجتها الىّ .. لم تكن زوجتى فحسب .. بل كانت طفلتى .. طفلتى الصغيرة المدلله .. كم كنت أحب أن أجلسها أمامى وأمشط خصلات شعرها .. كنت أحب أن أهتم بكل ما يخصها .. أحببت حبها لى أيها البحر .. أحبب نظرات القلق فى عينيها عندما أعود متأخراً من العمل .. أحبب نظرات الشوق فى عينيها ترمقنى بها فى لحظات وصالنا .. أحببت استكانتها بين ذراعى .. أحببت حاجتها الىّ كما لو كانت بدونى ضائعه .. وكأننى دعامتها التى ترتكز عليها فى هذه الحياة .. أشعرنى ضعفها بقوتى .. وأنوثتها برجولتى .. قاسمتنى أحلامى وطموحى .. أتذكر يدها الدافئه وهى توقظنى لصلاة الفجر .. أتذكر ترتيلنا معاً للقرآن فى يوم الجمعة .. أتذكر كل ما علمتها اياه .. وكيف علمتها اياه .. كانت طفلتى بالفعل .. طفلتى وحبيبتى ونصفى الآخر
اختلطت دموع البحر بمياهه وهو يقول :
- أشعر بمدى ألمك يا صديقى .. لكن صدقنى الحياة فيها الكثير .. لا تغلق قلبك .. ابق الباب موارباً .. فلعل تستطيع احداهن التسلل من تلك الفتحة الصغيرة
ابتسم "مهند" بتهكم وقال بثقة :
- لن تستطيع احداهن التسلل الى ذلك الحصن الحصين .. لقد ارتفعت بأسواره عاليه وأحكمت اغلاق أبوابه .. وألقيت بمفاتيحه فى قاع بحرك .. لن تستطيع احداهن التسلل .. ولا حتى بأن تمد يدها للمس ذلك القلب .. لا تأمل شيئاً أيها البحر .. أحكمت تحصين قلعتى جيداً
ابتسم البحر قائلاً بحكمة سنين وسنين :
- لعلك أحكمت تحصين قلعتك التى أخفيت بها قلبك يا صديقى .. لعلك أغلقت النوافذ وأوصدت الأبواب .. لكن شئ واحد لن تستطيع التحكم به .. وسيدخل رغم أنفك .. وستستطيع احداهن التسلل معه الى ذلك القلب الحصين
جعد "مهند" جبينه قائلاً :
- وماهو ذلك الشئ الذى سيدخل قلعتى رغم أنفى ؟
قال البحر بثقه :
- الهواء .. الهواء أيها الصديق .. مهما فعلت .. لن تستطيع منعه من الوصول الى داخل قلعتك .. مادام فى صدرك نفس يتردد .. ستظل قلعتك فى خطر
ازدادت تجاعيد جبينه .. وشرد فى كلام البحر !************************************
وقفت "سمر" فى شرفة غرفتها .. تتطلع الى تلك البنايات فى شرود .. دخلت "فيروز" الشرفة .. تستند على سورها وتلقى نظرة على الشارع بالأسفل .. التفتت اليها "سمر" وقالت :
- تعرفى أنا نفسى فى ايه دلوقتى ؟
التفتت اليها "فيروز" مستفهمه .. ارتسمت ابتسامه حالمه على شفتى "سمر" وهى تشرد بخيالها قائله :
- نفسى أكون دلوقتى حالاً فى اللحظة دى ...
صمتت قليلاً .. ثم قالت بنبره حالمه :
- على شط اسكندرية
نظرت اليها "فيروز" بإستخفاف فأكملت "سمر" مبتسمه وهى تنظر الى السماء فوقها :
- وحشنى سماها و بحرها ورملها وأهلها وشوارعها وكل حته فيها
دخلت "فيروز" وهى تهمهم :
- أنا داخله
ظلت "سمر" واقفة كما هى .. وكعادتها .. أغمضت عينيها .. لتهرب من واقعها .. الى تخيلاتها .. تخيلت أنها فى تلك اللحظة .. واقفه أمام البحر .. بحر اسكندرية .. تداعب نسمات الهواء خصلات شعرها .. وتلفح وجهها فى نعومه !
