غرفة بيضاء، هدوء كامل،تكتكة عقارب الساعة الرتيبة المثيرة للقلق المتوتر، مقعد بجوار السرير، يد باردة، لم يكن يمكن لها أن تتصور لوحة أكثر سوداوية ورعبا من هذه الصورة التي بدت أمامها مجسمة بكل تفصيل منها بأكمل وجه، لوحة كان ليعجر حتى بيكاسو على مجاراتها، لوحة لم تكن تتصور يوما أنها هي نفسها ستكون جزءا من تفاصيلها المثيرة للرعب، لوحة لم تكن تتصور يوما أنها ستعايشها مرة ثانية، بل إنها لوحة لم تكن تتخيل أنها ستكون الطرف الأقوى فيها، ضغطت بيديها على اليد الباردة التي استقرت بين راحتيها محاولة بث الدفء فيها، في الوقع هي لم تكن تريد أن تبث الدفء فيها بقدر ما كانت تريد لتلك اليد أن تبث الدفء في جسدها المتجمد بأكمله، خمسة أيام كاملة وهي مثبتة على هذا المقعد دون أن تغادره لتفعل أي شيء، عالمها بأكمله خلال الأيام الماضية انحصر في هذه الأمتار الخمسة المربعة، بل إنه انحصر في السرير الذي استقر أمامها، ثبتت عينيها على الهدوء الذي ملأ وجهه، فرغم الشحوب الذي دفع ببشرته ليبهت لونها بشكل كثيف إلا أن ذلك لم يزده إلى جمالا وجاذبية، فيما الهدوء الذي عرف به عالميا لم يترك مكانه عن وجهه، رسمت هذه الفكرة ابتسامة مرارة على شفتيها لتغالب دموعها مانعة إياها من النزول رغم أنها كانت تتوق كي تترك لنفسها العنان مرة أخرى، أخذت نفسا عميقا مسيطرة على نفسها لتمد يدها ممسدة شعر وسيم راسي الذي رقد على سرير المشفى لليوم الخامس على التوالي في غيبوبة لا يعلم إلا الله متى ستنتهي، لقد حدث كل شيء بسرعة غريبة لم يتمكن أحد من اكتشاف ماهيتها، فالشيء الوحيد الذي يذكره موظفوا الأمن في اللؤلؤة البيضاء هو صوت رصاص انطلق من الجرف الصخري المجاور للقصر تبعه صوت انفجار، وما أن وصلوا إلى هناك حتى كان الجرف بأكمله قد تحول لخرقة بالية، ماذا حدث؟ لا أحد يعرف؟، كيف حدث؟ لا أحد يمتلك أي فكرة، ومن فعل ذلك؟ لا أحد لديه أي معلومة، كل ما يعرفونه أن نيشان ظهر على الشاطئ أسفل القصر مسندا وسيم لكتفه، وقبل أن يتمكن الحرس من استيعاب هذه الصدمة سقط الشاب غائبا عن الوعي ولم ينهض هو الآخر حتى الآن، ولكن هذا المشهد دفع بافتراض واحد للظهور، الشابان كانا على الجرف عندما حدث ذلك الانفجار ملقيا بهما إلى البحر أسفله، ولكن كيف نجا نيشان من تلك السقطة؟، كيف تحمل جسده الذي كان مرهقا أساسا ومصابا حمل وسيم من موقع الانفجار حتى شاطئ اللؤلؤة البيضاء؟، لم يتمكن أحد من الحصول على جواب، ويبدو أن الحصول على هذا الجواب لن يكون بهذه السهولة التي يتخيلونها، فالرصاصات الأربعة التي استقرت في ظهر زوجها مخترقة إياه لا تبشر بالخير مطلقا، لقد فقد الكثير من الدماء، والرصاصات استقرت في منطقة حساسة جدا كما قال الأطباء، فلولا الرحمة وحدها لكانت تلك الرسل قد اخترقت عموده الفقري محطمة إياه وقاطعة حبله الشوكي إلى قسمين، ولكان أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يعيش مشلولا بالكامل لباقي حياته وإما الموت المباشر، ولكن الآن على الرغم من أن كلا الخيارين الماضيين ليسا مطروحين على الساحة للنقاش إلا أن أحدا لا يمكنه أن يخمن متى بالضبط سيستيقظ من هذه الغيبوبة التي دخل إليها قبل خمسة أيام ولا ماذا سيترك هذا الحادث من أثر على جسده، وفي الجهة الثانية فنيشان لم يصحو من غيبوبته، والله وحده يعلم ما هي الأضرار التي لحقت به هو الآخر، فهل سيكون فقدان عينيه هو الشيء الوحيد الذي سيحمله لباقي حياته؟ أم أن هناك مصيبة جديدة ستحل عليه وسيجبر على التعايش معها للنهاية، نهضت عن السرير لتتقدم نحو النافذة التي أطلت على الحديقة الخلفية في مركز لونسل الطبي الذي استقر شمالي نيوكاسل، السماء هادئة وأشعة شمسها خفيفة تنير المكان معطية إياه دفئا ناعما، أحاطت جسدها بيديها محاولة أن تحافظ على التفكير الإيجابي، مقنعة نفسها بأن هذا سينتهي خلال الأيام القليلة الماضية لينهض كأن شيئا لم يكن ولكنها لم تتمكن من فعل ذلك، زياد قال أنه يعرف جيدا أن رئيس الإيهاب سينهض من جديد مرة ثانية ويعود للحياة بكل قوة، إلا أنه وهو يتفوه بهذه الكلمات كانت الدموع بادية في عينيه، لقد حاول أن يظهر نفسه بمظهر الواثق من قدرة فتاه على أن ينهض ولكنه لم يكن قادرا على فعل ذلك، فالرعب والخوف والقلق على مصير الشاب أنساه كل شيء حتى كاد يبكي كالأطفال لولا أنه تمالك نفسه في آخر دقيقة، وإن كان هو قد عجز عن ذلك فهل ستتمكن هي من فعل هذا؟، التفتت نحو الشاب الذي استقلى محاطا بالأجهزة من كل ناحية وصوب حين عادت إلى مخيلتها صورة ابن عمها، لم يمضي الكثير على وفاة جونثان، وما يقلقها أكثر ان ابن عمها كان محاطا بالأجهزة حين امتدت يد كينزي القذرة لتزيلها عنه ملقية إياه إلى التهلكة، لا تدري لماذا تجسم ذلك المشهد أمامها بهذه القوة ما دفع بالمزيد من الخوف ليتحرك داخل جسدها، سرت تلك الرعشة خفيفة في جسمها لتشد على قبضتيها حول جسدها متمالكة نفسها ومانعة إياها من الانجراف داخل تلك الذكريات المريعة، أغمضت عينيها لتستند إلى الحائط خلفها محاولة إزالة تلك الأفكار من رأسها حين فتح باب الغرفة فجأة مادفعها لتعتدل في وقفتها برعب مثبتة نظرها على الباب الذي وقفت تروفيل أمامه وهي تلهث بتعب لتقول بصوت متقطع
أنت تقرأ
سلسلة الأسياد-الجزء السادس-سادة الأرض
Actionعندما تكتشف أن كل ما عشته حتى الآن في عالمك الوديع ليس سوى مجرد كذبة ملونة والأسرار التي تختبئ خلف ظهرك قادرة على أن تقلب حياتك مئة وثمانين درجة والأفكار التي كنت تعتنقها قادرة على أن تدفعك لتقود أكبر ثورة في تاريخك وليس تاريخك وحدك بل هو تاريخ ال...