إن الزجاج بطبيعته مادة تعبر عن الشفافية والحيادية، فهو يسمح لك برؤية كل شيء تماما كما هو دون زيادة أو نقصان، دون أن يضيف شيئا من لديه ودون أن يخفي أي شيء، دون أن يحور ما يقدمه لك، كل ما أمامك تراه بالعين المجرة بطبيعته وخصائصه جميعها، يساعدك على أن ترى ما أمامك وما يخفى عنك بصدق وأمانة وعملية، ولعل تلك الكلمات الخمس هي الركائز الأساسية التي بنى عليها زين اسمه كواحد من أهم الصحفيين والنقاد السياسيين في العالم، وكواحد من اصحاب الأقلام القاسية التي لا يلين لها طرف ولا يشق لها غبار، منذ أن كان صغيرا أحب زين توجيه النقد اللاذع للآخرين، بل وحتى أنه كان أحيانا ينتقد تصرفاته هو إن لم يجد شخصا آخر لينتقده، لم تكن لديه مشكلة مع ذلك إطلاقا، بل على العكس تماما، فإن انتقاداته اللاذعة لنفسه كانت السبب الرئيسي الذي دفع به ليصبح كالزجاج، حيث ساعدته تلك العملية على التخلص من كل نقاط الضعف التي يمكن لها أن تودي بصحفي إلى حجيم التملق ومدح الآخرين لا سيما السياسيين، فالبنسبة له إن أسوء ما يمكن أن يحدث للصحفي لا سيما الصحفي السياسي هو أن يجد نفسه مضطرا لمدح السياسيين الفاسدين، وتكريم السياسيين المرتشين، وإعلاء محاسن السياسيين الخونة، لقد كان يمقت كل صحفي يبيع نفسه مقابل المال لتقديم مقالة يمدح فيها أعمال الحكومة ويظهر رئيسها بمظهر الملاك المنقذ للبشرية، فالفاسد يجب أن يقال عنه فاسد ويرمى في غياهيب السجون بل ويعدم إن تطلب الأمر، فإن أردت أن تبني دولة قوية ونظاما سليما لا بد أن تبدي صرامة وتفضح الخائن والمرتشي والفاسد، لا أن تمدحهم وتتملقهم وتظهرهم كالأبطال المحررين، وهذه الأفكار هي ما دفعت بزين ليرفض من كل صحيفة ومحطة إذاعية في اليابان من شمالها إلى جنوبها، فرغم أنه كان صاحب اطلاع واسع وقلم قاس وكلمات قوية إلا أنه كان يمتلك نقاط ضعف أكثر، ففي ذلك الوقت هو لم يكن أكثر من مجرد شاب لم يتجاوز الثانية والعشرين تخرج من الجامعة للتو، وهو إلى جوار هذا شاب سليط اللسان يريد أن ينتقد الجميع دون استثناء، وحتى صحف المعارضة لم تتقبل اندفاع زين السريع هذا، بل إنها كانت تسعى إلى أن يكون صاحب هذا الاندفاع واحد من ذوي الأقلام المرموقة لا شابا حديث العهد لا يفقه شيئا، فهم كانوا بحاجة إلى شخصية لها وزنها ما يعني أن ثرثرة شاب صغير لا يفقه شيئا لم تكن يوما ضمن اهتماماتهم أو اختصاصاتهم حتى لو كان هذا الشاب يمتلك الجرؤة لانتقاد النظام الحالي، إن سئل زين يوما عن أحلك فترة في حياته وأشدها كآبة فسيجيب دون أدنى تردد أنها السنة التي تلك تخرجه من الجامعة، ففيها ذاق كل مرارة الحداثة وصغر السن، حتى أنه تمنى لو أنه يمتلك مصباحا سحريا ليطلب التقدم في العمر عشر سنين إلى الأمام، فالجميع يريد من الموظف الجديد الخبرة وفي نفس الوقت لا أحد يريد أن يوظفه كي يمتلك هذه الخبرة، طالما لعن في سره كلمة خبرة وكره كل حرف من حروفها وصلى شكرا لأن اسمه لم يكن يمتلك أيا من هذه الأحرف المقيتة البغيضة، لقد سأل نفسه مئة مرة دون كلل أو ملل من أين يفترض به الحصول على الخبرة في الوقت الذي لا يسعى أحد إلى توظيفه؟، خلال تلك السنة لم يترك بابا لصحيفة أو مؤسسة إذاعية أو مجلة دون أن يطرقه، وقدم الأوراق والسيرة الذاتية لكل فرد له علاقة بالإعلام في كل شبر من اليابان دون أن يحظى ولو على ابتسامة واحدة مشجعة، حتى أنه في نهاية تلك السنة قرر أن يتخلص من شهادة الصحافة ويمزقها حين وردته تلك المكالمة، لقد بارك اسم غراهام بل على اختراعه للهاتف تلك الأمسية بكل ما تمكن من قوة، فالشخص الذي لفتت سيرته الذاتية نظره كان صاحب أكبر صحيفة في البلاد "اليابان اليوم"، وقد زادت مقابلة اليوم التالي من شعور السيد زهورو بصحة قراره بالاتصال بهذا الشاب، فبطريقة أو بأخرى كان زين يشبه رئيسه الجديد في العمل بشكل كامل وغير طبيعي على الإطلاق، فالسيد زهورو كان واحدا من الأسماء اللامعة التي لن يفل نجمها لخمسين سنة قادمة في الصحافة اليابانية، ولهذا الرجل يعود فضل وصول اتحاد الصحفيين إلى مكانة عالية وتحوله من مجرد تجمع لتوفير التأمين الصحي للصحفيين إلى مكان يمكنه أن يقلب الطاولة على رأس السلطات إن مس صحفي ما أي سوء بثانية واحدة، وعلى الرغم من اعتبار زين نفسه ناقدا فذا إلا أنه قد حصل من السيد زوهورو على خبرة خلال سنتين توازي كل ما تعلمه في سنوات حياته السابقة، وهذا ما دفع بالرئيس الجديد ليتحول إلى معلم وأب لهذا الشاب وهو دور لم يبدو أنه ضايقه، بل على العكس من ذلك، لقد استمتع فيرو زوهرو بكل دقيقة قضاها محولا الشاب من مجرد خريج جامعة سليط اللسان إلى صحفي سياسي وناقد بارع بشكل علمي وموضوعي ومحترف، فقد كان يرى نفسه في هذا الشاب، يرى شبابه يتكرر مرة ثانية أمام عينيه دون أي اختلاف، فهو قد تخرج من الجامعة ليبني نفسه بنفسه من الصفر وصولا إلى هذه المكانة التي يحتلها اليوم دون أن يساعده أحد، وما أن قرأ تلك السيرة الذاتية التي كانت نسخة عن سيرته هو بعد تخرجه حتى تحرك داخله شعور يقول أنه لا يريد لما حدث له ان يتكرر مرة ثانية لصاحب هذه السيرة، وهو لم يخطئ عندما اتصل به بل إن ما زال يعتبر ذلك حتى اليوم افضل مكالمة قام بها في حياته كاملة، فخلال ثلاثة أشهر لا اكثر ارتفع اسم زين هوتوري في كل ناحية من اليابان كصحفي وناقد سياسي، فأسلوبه الجريء في طرح القضايا، وقدرته العالية على طرق كل الأبواب دون أن يخشى لوما أو تقريعا من أحد شكل قوة فتاكة بيده، فهذا الشاب بدا وكأنه لا يعرف ماذا تعني كلمة الخوف، لقد كان يستمتع بإيقاع نفسه مع الكبار الذين وجه ضرباته الأولى إليهم، فهو لم يتدرج في انطلاقته من الأصغر للأكبر كما يحدث عادة بل إن أول شخص وجه إليه مقالة لاذعة النقد هو رئيس الوزراء شوناه، وتلك المقالة هي التي فتحت له أبواب المجد والشهرة من جهة وأبواب الجحيم من جهة أخرى، فبعد أن صدرت مقالته تلك كنقد لسياسة رئيس الوزراء الخارجية متصدرة الصفحة الأولى لم يعد أحد في كل ناحية من اليابان يجهل هذا الصحفي الجديد، وعدا عن هذا فهجماته لم تقف هنا، لقد طال قلم زين كل مسؤول ياباني داخل وخارج اليابان، كان يتابع حركات السياسيين بعيني لبؤة تراقب غزالا متهيئة لصيده والانقضاض عليه ممزيقة إياه، وما ساعده على هذا خفته ورشاقته، فهو لم يكن يكتفي بالإشاعات التي تدور هنا وهناك أو التصريحات التي تصدر من المتحدثين الرسميين، بل إنه كان يذهب بنفسه لاستطلاع الأخبار، وكم من مرة قبض عليه بتهمة التسلل والتعدي على املاك الغير وزج به في السجون مرة تلو المرة، بل إن ما دفعه من الغرامات جراء ذلك ساوى راتبه طوال أولى سنوات عمله، ولكن ذلك كله لم يوقف الشاب عن الركض خلف أحلامه وتحقيقيها، وبعد أن أصبح اسما رائجا ومعروفا وله وقع لا ينكر أحدا أهميته ويكره السياسيين فقط ان يقعوا بين براثنه، حصل في السنة الثانية لعمله على جائزة أفضل صحفي شاب في اتحاد الصحفيين، إلا أن الأمور بدأت تأخذ منحنى عكسي داخل اليابان اليوم، فبوفاة السيد زوهورو تولت إدارة جديدة كليا مقاليد الأمور تجلت بالسيد آيهوفو، والذي جعل همه الوحيد هو السيطرة على زين وكبح جماحه، حتى وأنه طوال السنوات الثلاث التالية لهذا التغير كان الشجار بين الاثنين هو حدث يومي إن لم يحدث يعلم الجميع بوجود خطب ما، لقد كانا مختلفين تماما، أحدهما يكره الأنظمة ويعشق الحرية والانطلاق والآخر لا يهمه سوى القواعد والقوانين، ومن جهة ثانية فزين كان يعرف تماما أن هذا الرجل محسوب على النظام الحاكم في البلاد، وهو النظام نفسه الذي كان زين يشهر بأعضائه ويفضحهم ليل نهار في كل نوع من وسائل الإعلام، مع أنه لم يكن يرحم رجال المعارضة أيضا إلا أن حكومة شوناه كانت تسعى بكل طريقة ممكنة إلى السيطرة على هذا الصحفي، وقد رأت في السيطرة على إدارة اليابان اليوم طريقة فعالة لفعل ذلك، إلا أن ظن رئيس الوزراء قد خاب مرة ثانية، ففي نهاية تلك السنوات الثلاث مع ازدهار وارتفاع اسم زين أعلى وأعلى ومشاحناته الدأوبة مع الإدارة قدم استقالته وغادر المكان، ودون أن يمهل رئيس الوزراء فرصة ليفرح بانتصاره هذا ظهر مقال جديد له في صحيفة كوليتانا في اليوم التالي، فقد أعلن الشاب على موقعه الرسمي انه من اليوم سيعمل كصحفي مستقل، صحفي يكتب وينتقد الجميع دون استثناء على صفحات جميع صحف البلاد وعلى موقعه الالكتروني أيضا، وهكذا تحول الكابوس الذي كان محصورا في اليابان اليوم إلى كابوس متنقل يسير على كل شبر من أرض اليابان، وما زاد الأمور تعقيدا أن زين وسع مجاله، فسابقا لم يكن ينتقد سوى الأمور السياسية ولكنه طور نفسه وزاد معرفته ليصبح الاقتصاد السياسي هو ملعبه الأول، فقد بات الربط بين السياسة والاقتصاد همه الأول، وغدا انتقاد السياسيين الذين يسعون للسيطرة على البلاد من خلال الاقتصاد شغله الشاغل، ولم يعد يسلم منه لا سياسي ولا رجل أعمال، فجميعهم كانوا في مرمى نيرانه، فبعد سبع سنوات من تخرجه غدا زين الاسم الأكثر طلبا في العالم بأكمله، فمقالاته التي تنتشر في كل ناحية لم تعد قصرا على اليابان وحسب، فاسم ذلك الشاب غدا مطلوبا لوكالات عالمية كرويترز وBBC وCNN وصحف كالغاردين ونيويرك تايمز، العديد من هذه المؤسسات كانت تطالب بمقالاته لتنشر على صفحاتها فيما يتلعق بالسياسة والاقتصاد، فهذين المجالين الذين يشغلان العالم بأكمله لا سيما بعد الأزمة الخانقة التي ضربت العالم نهاية 2008 والتي دفعت بزين ليعمق ويغوص أكثر داخلها وليصبح اسمه أحد أهم الأسماء العالمية المختصة في هذا المجال، ورغم كل العروض التي تلقاها للعمل داخل تلك المؤسسات إلا أنه لم يقبل أي عرض لسببين رئيسيين، الأول أنه لا يريد لرئيس الوزراء كوهوري أن يرتاح منه، فتلك ستكون هدية لم يحلم هذا الرجل هو ولا سلفه بها، وهي هدية لن يقبل زين أن يقدمها هو بنفسه إليهم، والثاني أنه لا يريد ان يلزم نفسه بجدول أعمال محدد، فهو قد اعتاد على الحرية وليس مستعدا لأن يخسرها عائدا إلى السجن مرة ثانية، ثم إن عمله كان مزدهرا بشكل كبير جدا، واسمه يردد في كل وسائل الإعلام في العالم، ودخله الذي كان يأتيه من كل ناحية وصوب سواء من بيع المقالات إلى المقابلات وتدريسه في بعض الجامعات والكتب التي نشرها كان يحقق له مستوى عالٍ من الاستقلالية، وهذا وضع لم يعد مستعدا لأن يخسره ولا لأي سبب من الأسباب، ثم إنه وفي هذا الوقت بالذات مشغول بأكبر تحقيق صحفي في حياته بأكملها، وهو التحقيق الذي سيجعل اسمه ينقش في سجل التاريخ بحروف من الألماس لا من الذهب.
أنت تقرأ
سلسلة الأسياد-الجزء السادس-سادة الأرض
Acciónعندما تكتشف أن كل ما عشته حتى الآن في عالمك الوديع ليس سوى مجرد كذبة ملونة والأسرار التي تختبئ خلف ظهرك قادرة على أن تقلب حياتك مئة وثمانين درجة والأفكار التي كنت تعتنقها قادرة على أن تدفعك لتقود أكبر ثورة في تاريخك وليس تاريخك وحدك بل هو تاريخ ال...