خاتمة

18 1 0
                                    


عزيزي القارئ،

عندما تصل إلى هنا أكون قد غادرت هذا الكتاب نهائيا، وقريبا أكون قد غادرت العالم أيضا. قلت في رسالة سابقة أني لم أجد طريقة انتحار تليق بي، غير أنني وفي الليلة الثالثة وجدتها أخيرا.

لقد وقعت على مقال جاء فيه أن نقع كمية تبغ تساوي علبة سجائر لمدة ربع ساعة ثم شرب الناتج عنها يؤدي إلى توقف فوري للقلب... طريقة سريعة وغير مكلفة للموت!

سأتحين موعد نوم الجميع، ثم أحضر شربتي الأخيرة إلى غرفتي لأتناولها كيفما قرأتُ تماما: دفعة واحدة.

أكثر ما يحزنني وأنا أكتب هذا أن عمال البلدية سيعافون جسدي كثيرا، ذلك أني لم أستحم منذ شهرين تقريباً، ولم أغيّر ملابسي إلا مرة واحدة، وتجاهلت شعري الذي استطال وبدأ يتخذ لنفسه دوائر صغيرة يستكين إليها ريثما تسعفه يد حلاق ما.

عندما تكون قاب رسالة أو أدنى من عملية انتحار فإن كل شيء يتضاءل فجأة. أستذكر جميع البشر الذين عرفتهم في حياتي: والداي، أصدقائي الذين رحلوا، المرأة التي أسكنتها قلبي، والسكان الذين كنت أجاورهم كلما جاء قرار انتقالي إلى بيت جديد.

لقد منحت الكثير لهؤلاء، ومنحوني هم أيضا بالمقابل... منحوني أنصاف قلوب، وشهقات متقطعة، وساعات من البكاء الحزين، وقائمة أمراض نفسية، ومرضا عضويا لم يفهمه كل طبيب عاينه، حتى توقفت عن حماقة زيارة الأطباء أخيرا ورضيت به رفيقا لي في محنتي أو حياتي، أيهما جاء أسبق.

حتى الذين لم يرحلوا لم يقدموا لي شيئا، ذلك أنهم عاجزون عن فهم شكل حاجتي إليهم ولو ناديت بها جهرا آلاف المرات المتواصلة.

لا أحد يفهم في النهاية، ولم تعد لأحد حاجة للفهم بعد أن أرحل. يكفي أنني فهمت نفسي وأيقنت متأخرا أن الشقاء قد كُتب علي مرتين: مرة في الدنيا التي سأغادرها بعد قليل، والثانية في المكان الذي أنا ذاهب إليه، لأن فعل قتل النفس محرم في جميع الأديان، حتى عند عبدة الفئران والبقر.

من المضحك أننا لا نتذكر موتانا من الأهل والأصدقاء إلا في مناسبات موسمية مثل العيد، أما الأيام الأخرى فنحن نمضيها سعيا وراء نعمة زائلة، وهذه معادلة خاسرة وجب على علماء الاجتماع أن ينظروا فيها مجددا.

أتمنى ألا ألتقي يوسفاً آخر حيث أنا ذاهب، أنا الذي لم أقدر على استيعاب واحد، ولا أظن بعد ذلك أني مستعد لاستيعاب نسخ مكررة منه.

ولتذكروا مساوئ موتاكم سراً، ومحاسنهم جهاراً.

يوسف،

رسائل يوسفحيث تعيش القصص. اكتشف الآن