في كل مرة أصطدم فيها بمطب يكبح عزيمتي ويبطئ خطواتي، أتذكر أيام الضياع الأولى... حينما كنت على عتبة الطريق أتحسس خطواتي وأدور في دوائر لا نهائية من الضياع والانهزام والصدمة، أتذكر ذلك الاستقبال المُحِطم من رئيس القسم وكأنني منتج استهلاكي منتهي الصلاحية، وكيف كان العثور على موطئ قدم في أي مكان أمرٌ شبه مستحيل، لذا وعندما لاح لي في الأفق قسم بالكاد أعرف ماهيته ولا أدري ما دوري فيه، تشثبت به فوراً خوفاً من مصير أكثر ظلمة إن تريثت، وفي ظل وجود المحبطين وناشري الطاقة السلبية كانت الرؤية مشوشة وكان لزاماً عليّ الاختيار وسلك أي طريق _وإن كان يؤدي للهاوية_ ولأني أعتدت عيش الانعزال التام عن (الحياة البرية للكائنات البشرية) على مدار السنتين الفارطتين فإني نسيت تماماً كيفية التعامل مع الكائنات البشرية _السيكوباثية_ وفقدت الحساسية اللازمة للاستدلال على أوصافهم، لذا ومن سوء حظي وقعت في أول مطب وأخفقت في اختبار (السواق الجديد)، عندما قررت حينها بكامل سذاجتي تصديق التمثيل المصطنع لأفعى الأناكوندا حين جاءت لمكتب المدير _وهي الاخصائية المسؤولة عن ذلك القسم الذي قررت الانتقال إليه_ جاءت وهي تتصنع الطيبة والحرص على مصلحة الغير والحب الغير مشروط والرغبة الجارفة في التغيير والثقة والثقافة والخبرة الواسعة والمعرفة بكل شيء، ولأن إعداداتي لفهم الشخصيات كانت معطلة لذا صدقت ما قالت واستبشرت خيراً، وانتقلت لقسمها مع 3 من زميلاتي الجدد.
مرت الأيام والأسابيع ونحن نُضَيع أوقاتنا سدى، في انتظار أن توكل إلينا مهام فعليه أو أن نرى من تلك الأخصائية أي فاعلية؛ لكن عبث..
وفي الانتظار كما قال درويش: "يصيبني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة"، ولكوني لا أحب الركود وعدم فعل أي شيء، ومع إحساسي بالذنب مع كل دقيقة تمر دون إنتاجية، لذا كنت اتصدى لكل مهمة أو طلب يطلب سواءًا منها أو من المدير لأريح ضميري وأحلل راتبي كما يجب، وكانت في كل مرة تعلق تعليقات توضح غيرتها وفرط حنقها لكني حينها لم أستبين ذلك، ومضت الأيام وهي توعدنا بتحقيق الإنجازات وترتيب الأوضاع ولا نرى من كلامها شيء "نسمع جعجعةً ولا نرى طحيناً".كنا أنا وزميلاتي الجدد قد سئمنا من الإنتظار دون القيام بأي شيء وكان موقفنا حرجاً إذ كان ينبغي علينا معشر السواقين الجدد إثبات وجودنا وفاعليتنا ومدى أهميتنا في المكان، حيث كان يطل علينا المدير كل يوم ليرى ما الذي أنجزناه وكيف نعمل، وكنا رغم اجتهاداتنا نظهر دائماً كالحمقى، فلا النماذج التي دلتنا على استخدامها هي النماذج المعتمدة، ولا القسم الذي نذهب لعمل المرور اليومي فيه هو تابع لنا، ولم نرها تستخدم قاعدة البيانات في أي شيء عوضاً عن تعليمنا على استخدامها، ولا يوجد آلية للعمل ولم يكن هناك أي بوادر أمل لتحسين الوضع، فقط تخبط مع اجتهادات بلا طائل.
وعندما قرر القسم تفعيل مبادرتان جديدتان تفائلنا خيراً وأصبحنا نركز جل أوقاتنا في إعداد أدق تفاصيلها لكنها _أفعى الأناكوندا_ لم تكن راضية عن ذلك وكان يقلقها عملنا الدؤوب في كل شيء، ورغم أسلوبها المفضوح إلا أننا لم نكن نعيرها بالاً ومضينا في انشغالنا، حتى وأننا من فرط انشغالنا تماهينا مع كذبتها بكونها صاحبة فكرة إحدى المبادرتين بل وصدقناها دون تفكير؛ لأننا لم نكن نتوقع أن يصل المرء إلى مرحلة يسرق فيها مجهود غيره ويقسم كاذباً بأنه نتاج مجهوده الشخصي ويتبجح بذلك جهاراً نهاراً دون أدنى خجل أو تورع حتى أمام زملائه القدامى الذين يعلمون كذبه.
ومضت الأيام ونحن في أنشغالنا نصيب ونخطئ نجتهد ونحبط، نخطط ونتخبط، نسعى لإيجاد الحلول المناسبة لما نحن فيه من عشوائية وعدم إنتاجية.. حتى جاء ذلك اليوم الذي أخذت فيه _أفعى الأناكوندا_ إجازة عن العمل لمدة أسبوع وهنا تغير كل شيء..
.
.
يتبع..
أنت تقرأ
مذكرات اخصائية اجتماعية
General Fictionهنا سرد لليوميات العادية لاخصائية اجتماعية بسيطة، في محاولة لاستعادة التوازن في كل يوم.. ومواجهة كل التحديات بصدر رحب.. هنا أنا: من يواسي نفسه.