المذكرة رقم (1) : الإصطدام بالواقع

194 9 5
                                    

إن دراسة تخصص الخدمة الاجتماعية في جامعة محلية لهو أشبه بتناول مهدئ أو مخدر من نوع ما، يفصلك عن الواقع ويدعك منتشياً في أحلامك الوردية، وما تكاد أن تضع قدمك خارج ذلك الصرح  الهش حتى تجد نفسك قد هويت من برجك العاجي المرصع بالأوهام والنظريات الجوفاء وأصطدمت فوراً بالواقع، الواقع الذي لا اعتبره مُظلماً صرفاً بقدر ما أجده منطقي، ولسان حالي يهتف "أالواقعي هو الخيال الأكيد"..!
لكن في كل مرة لا أجد بداً من مواجهة مصيري، وعلى طريقة فليك كنت أسير وأنا أردد لنفسي:  "أندمج"، تمضي بي الأيام وتتبدد.. وتصر ذاتي على تجاهل فقري الأكاديمي، راسمةً طريق رحلتي في التعلم الذاتي، مكافحةً الجهل تارةً وقلة الحيلة تارةً ويأسي المفرط تارات، وتعاود الكَرّه وهكذا دواليك، عزائي دائماً بأني أحاول ولا أنكفئ بأن أحاول، كما أفعل دائماً حين ألعب ألعاب الفيديو _لا بد وأن أجد طريقي للفوز_ وهذا هو منهجي.
من جانب آخر وفيما يخص المناهج العلمية للتخصص فإنه وعلى الرغم من هالة الوجاهة والمثالية التي تُضفِيها النظريات والمداخل العلاجية على الخدمة الاجتماعية، إلا أن بريقها غالباً خادع ولا يعول عليه صراحةً على أرض الواقع، وعن نفسي فإني استخدمها في مهنتي على قاعدة "إعرف الصح وخليه جواك" لأنه لا فائدة ملموسة لها أثناء تعاملك مع الحالات في الميدان؛ لكن لابأس من أن تستخدمها في سجلاتك المكتوبة لتظهرها أكثر تنظيماً واحترافية، ولكي لا يبدو مظهرك كالطفل الساذج الذي يخط لأول مرة مقالاً ركيكاً في مادة التعبير، وحتى لا تجعل الكلمات والمصطلحات القليلة التي درستها تذهب سدى جنباً إلى جنب مع ما حضرته من دورات وما استفدته من قراءاتك الشخصية.
وعلى أيه حال لن يحفل أحدٌ بما رصدته..
لا الطبيب المعالج سيعود إليه، ولا التمريض سيفتقده ولا الطب النفسي سيترقب تلك الملاحظات ودراسات الحالة الخالدة للأخصائي الاجتماعي الفذ..

حتى صديقك الأخصائي الذي سيتابع الحالة بعدك غالباً لن ينظر لسجلاتك إن صادف انتقال العميل إليه عقبك، بل ربما وكما حدث معي حينما كنت من السذاجة التي جعلتني أتصور أني حين أعطي كل ما في حوزتي من سجلات للأخصائي الذي سيتابعها بعدي بأن ذلك سيسهل سير العمل...

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

حتى صديقك الأخصائي الذي سيتابع الحالة بعدك غالباً لن ينظر لسجلاتك إن صادف انتقال العميل إليه عقبك، بل ربما وكما حدث معي حينما كنت من السذاجة التي جعلتني أتصور أني حين أعطي كل ما في حوزتي من سجلات للأخصائي الذي سيتابعها بعدي بأن ذلك سيسهل سير العمل ويُفرح زميلي الأخصائي الذي لن يضطر لإعادة الجهد مرتين ويريح العميل من مَعّرة التكرار الذي لا طائل منه، ولكني حينها فوجئت وأنا _New Staff_ أو "سواق جديد" كما يحلو لي بأن أصف نفسي.. فوجئت بامتعاض زميلتي الأخصائية والتي تفحصت السجلات بنظرة أشمئزاز وكأنها قصاصات سلمت إليها من مكب الحاويات، وأردفت وهي تتصفحها والتقزز ما يزال بادياً عليها.. : "أيش هذي لا لا مره مره ما ينفع.. لازم تنعاد كلها لازم تنعاد ناقصه ناقصه.. فين دخل الأسرة.. فين عدد أفراد الأسرة.. فين.. فين.."، كنت أجاوب باستغراب:
- كل شيء موجود..
لكنها استمرت في تذمرها بنبرة صوتها الحادة والعالية دون مبالاة، وفهمت لاحقاً _أنا التي لم تجد تفسيراً حينها للموقف_ فهمت أنها كانت تقصد إسماع جميع الزملاء بأن ما استلمته هو دراسات حالة وسجلات ناقصة لانفع منها؛ ليتسنى لها إعادة نسخها على نماذج جديدة وتسليمها موقعةً باسمها، وهي لا تلام في ذلك لأنها تريد أن تخرج في نهاية الشهر بأكبر حصيلة ممكنة من الأرقام في تقريرها الشهري حتى لو كان ذلك على حساب جودة ما يقدم وعلى حساب تقديم الخدمة الفعلية للعميل.
- ولماذا كل هذا الجري الحثيث!؟ سألت نفسي.. واجابتني زميلةً لي:
- لأن المخرج عاوز كده..
ولماذا يدفع المدير موظفيه ليكونوا كمحصلي الضرائب همهم جمع أكبر حصيله آخر الشهر؟!
قذفت هذا التساؤل في وجه مديري مباشرة في أول شهر  يفترض أن أسلم فيه تقريري بعد توظيفي.. حينها أجابني بكل برود:
- عشان الإحصائية..
* ولمن الإحصائيات!؟
- لتقارير القسم السنوية..
* ولمن التقارير السنوية!؟
- لإدارة المستشفى!؟
* ولماذا؟
- لكي نتكرم..
* على ماذا؟!
- على كثرة الإنجازات؟!
* إنجازات.. في ماذا..؟!
- احصائيات القسم..
* بعلامة ماذا؟!
- تقارير الموظفين.. 💔
كان الحوار مستنزف إلى أبعد حد وكأنني هامستر ضعيف يدور بكل كد في حلقته المفرغة..
علمت حينها بأنني على الضفة الأخرى من الحصافة والمنطق وحسن التدبير، و جنباً إلى جنب مع التصنع والتزلف والجري وراء المديح والثناء على إنجازات لا ترى بالعين المجردة ولا يستبان لها سبيل.

"معرفش ليه..
تنحت للدنيا كده..!
وفجأة لقيتني مسكون بالملل..
لاعندي رغبة ف البكا..
ولا في الكلام..
ولا عايز أنام..
ولا حتي بسأل إيه ده ليه..
وآخرتها إيه..
وإيه العمل.." *

مذكرات اخصائية اجتماعيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن